ثم تأخذ في عرض الحديث كما تسمى القصة . وهو إيحاء بواقعيتها فهي حديث جرى . فتبدأ بمشهد المناداة والمناجاة : ( إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ) . . وطوى اسم الوادي على الأرجح . وهو بجانب الطور الأيمن بالنسبة للقادم من مدين في شمال الحجاز .
ولحظة النداء لحظة رهيبة جليلة . وهي لحظة كذلك عجيبة . ونداء الله بذاته - سبحانه - لعبد من عباده أمر هائل . أهول مما تملك الألفاظ البشرية أن تعبر . وهي سر من أسرار الألوهية العظيمة ، كما هي سر من أسرار التكوين الإنساني التي أودعها الله هذا الكائن ، وهيأه بها لتلقي ذلك النداء . وهذا أقصى ما نملك أن نقوله في هذا المقام ، الذي لا يملك الإدراك البشري أن يحيط منه بشيء ؛ فيقف على إطاره ، حتى يكشف الله له عنه فيتذوقه بشعوره .
وفي مواضع أخرى تفصيل للمناجاة بين موسى وربه في هذا الموقف . فأما هنا فالمجال مجال اختصار وإيقاعات سريعة .
قول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هل أتاك يا محمد حديث موسى بن عمران ، وهل سمعت خبره حين ناجاه ربه بالواد المقدّس ، يعني بالمقدّس : المطهّر المبارك . وقد ذكرنا أقوال أهل العلم في ذلك فيما مضى ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وكذلك بيّنا معنى قوله : طُوًى وما قال فيه أهل التأويل ، غير أنا نذكر بعض ذلك ها هنا .
وقد اختلف أهل التأويل في قوله : طُوًى فقال بعضهم : هو اسم الوادي . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : طُوًى اسم الوادي .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّكَ بالْوَادِ المُقَدّسِ طُوًى قال : اسم المقدّس طُوًى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إذْ نادَاهُ رَبّهُ بالْوَادِ المُقَدّسِ طُوًى كنا نحدّث أنه قدّس مرّتين ، واسم الوادي طُوًى .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : طَأِ الأرض حافيا . ذكر بعض من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد إنّكَ بالْوَاد المُقَدّسِ طُوًى قال : طَأِ الأرض بقدمك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أن الوادي قُدّس طُوًى : أي مرّتين ، وقد بيّنا ذلك كله ووجوهه ، فيما مضى بما أغني عن إعادته في هذا الموضع . وقرأ ذلك الحسن بكسر الطاء ، وقال : بُثّتْ فيه البركة والتقديس مرّتين .
حدثنا بذلك أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة «طُوَى » بالضمّ ولم يُجْرُوه وقرأ ذلك بعض أهل الشأم والكوفة : طُوًى بضمّ الطاء والتنوين .
و «الوادي المقدس » : واد بالشام ، قال منذر بن سعيد : هو بين المدينة ومصر ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والأعمش وابن إسحاق : «طِوىً » بكسر الطاء منونة ، ورويت عن عاصم ، وقرأ الجمهور : «طُوى » بضمها ، وأجرى بعض القراء «طوى » وترك إجراءه ابن كثير وأبو عمرو ونافع وجماعة ، وقد تقدم شرح اللفظة في سورة طه{[11607]} .
و { إذْ } اسم زمان ، واستعمل هنا في الماضي وهو بَدَل من { حديث موسى } بدل اشتمال لأن حديثه يشتمل على كلام الله إياه وغير ذلك .
وكما جاز أن تكون ( إذْ ) بدلاً من المفعول به في قوله تعالى : { واذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ كنتم أعداء } [ آل عمران : 103 ] يجوز أن تكون بدلاً من الفاعل وغيره . واقتصار ابن هشام وغيره على أنها تكون مفعولاً به أو بدلاً من المفعول به اقتصار على أكثر موارد استعمالها إذا خرجت عن الظرفية ، فقد جوز في « الكشاف » وقوع ( إذْ ) مبتدأ في قراءة من قرأ : { لقد من اللَّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً } في سورة آل عمران ( 164 ) .
وأُضيف { إذْ } إلى جملة { ناداه ربه } . والمعنى : هل أتاك خَبر زماننِ نادى فيه موسى ربُّه .
والواد : المكان المنخفض بين الجبال .
والمقدّس : المطهّر . والمراد به التطهير المعنوي وهو التشريف والتبريك لأجل ما نزل فيه من كلام الله دون توسط ملَك يبلغ الكلام إلى موسى عليه السلام ، وذلك تقديس خاص ، ولذلك قال الله له في الآية الأخرى { فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس } [ طه : 12 ] .
وطُوى : اسم مَكان ولعله هو نوع من الأودية يشبه البئر المطوية ، وقد سمي مكان بظاهر مكة ذَا طُوى بضم الطاء وبفتحها وكسرها . وتقدم في سورة طه . وهذا واد في جانب جبل الطور في برية سينا في جانبه الغربي .
وقرأ الجمهور { طُوَى } بلا تنوين على أنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بتأويل البُقعة ، أو للعدل عن طَاوٍ ، أو للعجمة . وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف منوناً باعتباره اسم وادٍ مذكَّر اللفظ .