قوله تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه } ، على محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر } ، أي : لوجب العذاب ، وفرغ من الأمر ، وهذا سنة الله في الكفار أنهم متى اقترحوا آية فأنزلت ، ثم لم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب .
قوله تعالى : { ثم لا ينظرون } ، أي : لا يؤجلون ولا يمهلون . وقال قتادة : لو أنزلنا ملكاً ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب ، ولم يؤخروا طرفة عين . وقال مجاهد : { لقضي الأمر } أي لقامت القيامة ، وقال الضحاك : لو أتاهم ملك في صورته لماتوا .
{ وَقَالُوا } أيضا تعنتا مبنيا على الجهل ، وعدم العلم بالمعقول . { لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } أي : هلا أنزل مع محمد ملك ، يعاونه ويساعده على ما هو عليه بزعمهم أنه بشر ، وأن رسالة الله ، لا تكون إلا على أيدي الملائكة .
قال الله في بيان رحمته ولطفه بعباده ، حيث أرسل إليهم بشرا منهم يكون الإيمان بما جاء به ، عن علم وبصيرة ، وغيب . { وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا } برسالتنا ، لكان الإيمان لا يصدر عن معرفة بالحق ، ولكان إيمانا بالشهادة ، الذي لا ينفع شيئا وحده ، هذا إن آمنوا ، والغالب أنهم لا يؤمنون بهذه الحالة ، فإذا لم يؤمنوا قضي الأمر بتعجيل الهلاك عليهم وعدم إنظارهم ، لأن هذه سنة الله ، فيمن طلب الآيات المقترحة فلم يؤمن بها ، فإرسال الرسول البشري إليهم بالآيات البينات ، التي يعلم الله أنها أصلح للعباد ، وأرفق بهم ، مع إمهال الله للكافرين والمكذبين خير لهم وأنفع ، فطلبُهم لإنزال الملك شر لهم لو كانوا يعلمون ، ومع ذلك ، فالملك لو أنزل عليهم ، وأرسل ، لم يطيقوا التلقي عنه ، ولا احتملوا ذلك ، ولا أطاقته قواهم الفانية .
بعد ذلك يحكي نموذجا من اقتراحات المشركين ، التي يمليها التمحل والعناد ، كما يمليها الجهل وسوء التصور . . ذلك إذ يقترحون أن ينزل الله - سبحانه - على الرسول [ ص ] ملكا يصاحبه في تبليغ الدعوة ؛ ويصدقه في أنه مرسل من عند الله . . ثم يبين لهم ما في هذا الاقتراح من جهل بطبيعة الملائكة ، وبسنة الله في إرسالهم ، كما يبين لهم رحمة الله بهم في أن لا يستجيب لهم فيما يقترحون :
( وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون . ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ، وللبسنا عليهم ما يلبسون ) . .
وهذا الاقتراح الذي كان المشركون يقترحونه ؛ والذي اقترحه من قبلهم أقوام كثيرون على رسلهم - كما يحكي القرآن الكريم في قصصهم - والرد القرآني عليه في هذا الموضع . . هذا وذاك يثيران جملة حقائق نلم بها هنا بقدر الإمكان :
الحقيقة الأولى : أن أولئك المشركين من العرب لم يكونوا يجحدون الله ؛ ولكنهم كانوا يريدون برهانا على ان الرسول [ ص ] مرسل من عنده ؛ وأن هذا الكتاب الذي يتلوه عليه7م منزل من عند الله حقا . ويقترحون برهانا معينا : هو أن ينزل الله عليه ملكًا يصاحبه في الدعوة ويصدق دعواه . . ولم يكن هذا إلا اقتراحا من اقتراحات كثيرة من مثله ، ورد ذكرها في القرآن في مواضع منه شتى . وذلك كالذي ورد في سورة الإسراء ، وهو يتضمن هذا الاقتراح ، واقتراحات من نوعه تدل كلها على التعنت الذي وصفته الآية السابقة ، كما تدل على الجهل بكثير من الحقائق الكونية وكثير من القيم الحقيقية : ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه . قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ؟ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشرا رسولا ؟ قل : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولًا ) . . . [ الإسراء : 89-95 ] .
ومن مثل هذه الاقتراحات يتبين التعنت كما تتبين الجهالة . . وإلا فقد كان لهم من خلق رسول الله [ ص ] الذي يعرفونه جيدا بالخبرة الطويلة ؛ ما يدلهم على صدقة وأمانته وهم كانوا يلقبونه الأمين ، ويودعون لديه أماناتهم حتى وهم معه على أشد الخلاف ؛ وقد هاجر [ ص ] وترك ابن عمه عليا - رضي الله عنه - يرد إلى قريش ودائعهم التي كانت ما تزال عنده ؛ وهم معه على الخلاف الذي يدبرون معه قتله ! وكذلك كان صدقه عندهم مستيقنا كأمانته ؛ فإنه لما دعاهم أول مرة دعوة جماعية جهرية على الصفا - حين أمره ربه بذلك - وسألهم : إن كانوا يصدقونه لو أنبأهم بنبأ ، أجابوه كلهم بأنه عندهم مصدق . . فلو كانوا يريدون أن يعلموا صدقه لقد كان لهم في ماضيه برهان ، ولقد كانوا يعلمون : إنه لصادق . . وسيأتي في سياق السورة خبر الله الصادق لنبيه : أنهم لا يكذبونه : ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك . ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) . . فهي الرغبة في الإنكار والإعراض ؛ وهو العناد والاستكبار عن الحق . وليس أنهم يشكون في صدقه [ ص ] !
ثم لقد كان لهم في القرآن ذاته برهان أصدق من هذه البراهين المادية التي يطلبون . فإن هذا القرآن شاهد بذاته ، بتعبيره ثم بمحتوى هذا التعبير ، على أنه من عند الله . . وهم لم يكونوا يجحدون الله . . وهم - على وجه التأكيد - كانوا يحسون ذلك ويعرفونه . . كانوا يعرفون بحسهم اللغوي الأدبي الفني مدى الطاقة البشرية ؛ ويعرفون أن هذا القرآن فوق هذا المدى - وهذا الإحساس يعرفه من يمارس فن القول ويتذوقه أكثر مما يعرفه من ليست له هذه الممارسة . وكل من مارس فن القول يدرك إدراكا واضحا أن هذا القرآن فوق ما يملك البشر أن يبلغوا ؛ لا ينكر هذا إلا معاند يجد الحق في نفسه ثم يخفيه ! كما أن المحتوى القرآني من التصور الاعتقاديوالمنهج الذي يتخذه لتقرير هذا الاعتقاد في الإدراك البشري ، ونوع المؤثرات واللمسات الموحية . . كلها غير معهود في طبيعة التصورات البشرية والمناهج البشرية ، والطرائق البشرية في الإداء النفسي والتعبيري أيضا . . والعرب لم يكن يخفي عليهم الشعور بهذا في قرارة نفوسهم . وأقوالهم ذاتها وأحوالهم تقرر أنهم ما كانوا يشكون في أن هذا القرآن من عند الله . .
وهكذا يبدو أن هذه الاقتراحات لم تكن طلبا للبرهان ؛ إنما كانت وسيلة من وسائل الإعنات ؛ وأسلوبا من أساليب التعنت ؛ وخطة للمماحكة والمعاندة ؛ وأنهم كانوا كما قال الله سبحانه عنهم في الآية السابقة : ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ، لقال الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين ) !
والحقيقة الثانية : أن العرب كانوا يعرفون الملائكة ؛ وكانوا يطلبون أن ينزل الله على رسوله ملكا يدعو معه ويصدقه . . ولكنهم لم يكونوا يعرفون طبيعة هذا الخلق التي لا يعلمها إلا الله ؛ وكانوا يخبطون في التيه بلا دليل في تصور هذا الخلق ؛ وفي نوع علاقته بربه ؛ ونوع علاقته بالأرض وأهلها . . وقد حكى القرآن الكريم كثيرا من ضلالات العرب وأساطير الوثنية حول الملائكة ؛ وصححها كلها لهم ليستقيم تصور من يهتدي بهذا الدين منهم ؛ وتصح معرفتهم لهذا الكون وما يعمره من خلائق . وكان الإسلام - من هذا الجانب - منهجا لتقويم العقل والشعور ، كما كان منهجا لتقويم القلب والضمير ، ومنهجا لتقويم الأوضاع والأحوال سواء . .
وحكى القرآن الكريم من أضاليل العرب ومن جهالاتهم في جاهليتهم ، أنهم كانوا يظنون أن الملائكة بنات الله ! سبحانه وتعالى عما يصفون ! وأنهم - من ثم - لهم شفاعة عند الله لا ترد ! والراجح أن بعض كبار الأصنام كانت رموزا للملائكة ! كما حكى قولهم هذا في طلبهم أن ينزل الله على رسوله ملكا ليصدقه في دعواه . .
وقد صحح لهم القرآن ضلالتهم الأولى في مواضع منه شتى . كالذي جاء في سورة النجم :
أفرأيتم اللات والعزى ؟ ومناة الثالثة الأخرى ؟ ألكم الذكر وله الأنثى ؟ تلك إذا قسمة ضيزى ! إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، ولقد جاءهم من ربهم الهدى . أم للإنسان ما تمنى ؟ فلله الآخرة والأولى . وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى . وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا .
كما صحح لهم ضلالتهم الثانية في تصورهم لطبيعة الملائكة في هاتين الآيتين في هذه السورة وفي مواضع أخرى كثيرة :
( وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ) . .
وهذا جانب من التعريف بهذا الخلق من عباد الله . . إنهم يقترحون أن ينزل الله ملكا . ولكن سنة الله أن ينزل الملائكة - حين ينزلون إلى الأرض على قوم كذبوا برسولهم - أن ينزلوا للتدمير عليهم ، وتحقيق أمر الله فيهم بالهلاك والدمار . ولو أن الله استجاب للمشركين من العرب فأنزل ملكا ، لقضي الأمر ، وتم التدمير ، ولم ينظروا إلى مهلة بعد هذا التنزيل ! فهل هذا ما يريدون وما يقترحون ؟ وهلا يستشعرون رحمة الله في عدم إجابتهم لما يقترحون لأنفسهم من الهلاك المبين ؟ ! . . هكذا يقفهم السياق وجها لوجه أمام رحمة الله بهم وحلمه عليهم ؛ وأمام جهلهم بمصلحة أنفسهم ، وجهلهم بسنة الله في تنزيل الملائكة . . وهم بهذا الجهل الذي يكاد يدمر عليهم حياتهم ، يرفضون الهدى ويرفضون الرحمة ويتعنتون في طلب الدليل !
{ وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } [ أي : فيكون معه نذيرا ]{[10573]} قال الله : { وَلَوْ أَنزلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ } أي : لو نزلت الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب ، كما قال تعالى : { مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ } [ الحجر : 8 ] ، [ و ]{[10574]} قال تعالى : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ]{[10575]} } [ الفرقان : 22 ] .
{ وَقَالُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لّقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لاَ يُنظَرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : قال هؤلاء المكذّبون بآياتي العادلون بي الأنداد والاَلهة : يا محمد لك لو دعوتهم إلى توحيدي والإقرار بربوبيتي ، وإذا أتيتهم من الاَيات والعبر بما أتيتهم به واحتججت عليهم بما احتججت عليهم مما قطعت به عذرهم : هلاّ نزل عليك ملك من السماء في صورته يصدقّك على ما جئنا به ، ويشهد لك بحقيقة ما تدّعي من أن الله أرسلك إلينا كما قال تعالى مخبرا عن المشركين في قيلهم لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم : وقَالُوا ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامِ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لا يَنْطُرُونَ يقول : ولو أنزلنا مَلَكا على ما سألوا ثم كفروا ولم يؤمنوا بي وبرسولي ، لجاءهم العذاب عاجلاً غير آجل ، ولم ينظروا فيؤخروا بالعقوبة مراجعة التوبة ، كما فعلت بمن قبلهم من الأمم التي سألت الاَيات ثم كفرت بعد مجيئها من تعجيل النقمة وترك الإنظار . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لا يَنْطُرُونَ يقول : لجاءهم العذاب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لا يَنْطُرُونَ يقول : ولو أنهم أنزلنا إليهم ملكا ثم لم يؤمنوا لم ينظروا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ في صورته ، وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ لقامت الساعة .
حدثنا ابن وكيع ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن سفيان الثوري ، عن عكرمة : لقُضِيَ الأمْرُ قال : لقامت الساعة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ قال : يقول : لو أنزل الله مَلَكا ثم لم يؤمنوا ، لعجل لهم العذاب .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : أخبرنا بشر ، عن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لا يَنْطُرُونَ قال : لو أتاهم ملك في صورته لماتوا ، ثم لم يؤخروا طرفة عين .
{ وقالوا لولا أنزل عليه ملك } هلا أنزل معه ملك يكلمنا أنه نبي كقوله : { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } . { ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } جواب لقولهم وبيان هو المانع مما اقترحوه والخلل فيه ، والمعنى أن الملك لو أنزل بحيث عاينوه كما اقترحوا لحق إهلاكهم فإن سنة الله قد جرت بذلك فيمن قبلهم . { ثم لا ينظرون } بعد نزوله طرفة عين .
وقوله تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليك ملك } الآية حكاه عمن تشطط من العرب بأن طلب أن ينزل ملك يصدق محمداً في نبوءته ويعلم عن الله عز وجل أنه حق ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : { ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر } وقال مجاهد : معناه لقامت القيامة .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا ضعيف ، وقال قتادة والسدي وابن عباس رضي الله عنه : في الكلام حذف تقديره ولو «أنزلنا ملكاً فكذبوا به لقضي الأمر » بعذابهم ولم ينظروا حسبما سلف في كل أمة اقترحت بآية وكذبت بعد أن ظهرت إليها ، وهذا قول حسن ، وقالت فرقة { لقضي الأمر } أي لماتوا من هول رؤية الملك في صورته ، ويؤيد هذا التأويل ما بعده من قوله : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالوا لولا}: هلا، {أنزل عليه ملك}، يعينه ويصدقه بما أرسل به، نظيرها في الفرقان، نزلت في النضر بن الحارث، وعبد الله بن [أبي] أمية بن المغيرة، ونوفل بن خويلد، كلهم من قريش، يقول الله: {ولو أنزلنا ملكا} فعاينوه، {لقضي الأمر}: لنزل العذاب بهم، {ثم لا ينظرون}: ثم لا يناظر بهم حتى يعذبوا، لأن الرسل إذا كذبت جاءت الملائكة بالعذاب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال هؤلاء المكذّبون بآياتي العادلون بي الأنداد والاَلهة: يا محمد لك، لو دعوتهم إلى توحيدي والإقرار بربوبيتي، وإذا أتيتهم من الآيات والعبر بما أتيتهم به واحتججت عليهم بما احتججت عليهم مما قطعت به عذرهم: هلاّ نزل عليك ملك من السماء في صورته يصدقّك على ما جئنا به، ويشهد لك بحقيقة ما تدّعي من أن الله أرسلك إلينا كما قال تعالى مخبرا عن المشركين في قيلهم لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم:"وقَالُوا ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامِ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا" [الفرقان]. "وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لا يَنْطُرُونَ "يقول: ولو أنزلنا مَلَكا على ما سألوا ثم كفروا ولم يؤمنوا بي وبرسولي، لجاءهم العذاب عاجلاً غير آجل، ولم ينظروا فيؤخروا بالعقوبة مراجعة التوبة، كما فعلت بمن قبلهم من الأمم التي سألت الآيات ثم كفرت بعد مجيئها من تعجيل النقمة وترك الإنظار... عن عكرمة: لقُضِيَ الأمْرُ قال: لقامت الساعة. وقال آخرون: عن ابن عباس، قوله: "وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لا يَنْطُرُونَ" قال: لو أتاهم ملك في صورته لماتوا، ثم لم يؤخروا طرفة عين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إن مشركي العرب كانوا لا يعرفون الرسل ولا الكتب، ولا كانوا آمنوا برسول ولا كتاب، فقالوا: {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} [الفرقان: 21] ونحوه من السؤال يسألون إنزال الملك. ثم يحتمل سؤالهم إنزال الملك لما لم يكونوا رأوا الرسل يكونون من البشر، وإنما رأوا الرسول، إن كان، يكون ملكا، فقالوا: {لولا أنزل علينا الملائكة} [الفرقان: 21] ويحتمل أن يكون سؤالهم إنزال الملك سؤال عناد وتعنت لا سؤال طلب الرسول من الملائكة، فقال تعالى: {ولو أنزلنا ملكا} على ما سألوا {لقضي الأمر} أي إن الملك إذا نزل على إثر سؤال العناد والتعنت لنزل بالعذاب والهلاك، فهذا يبين أن سؤالهم سؤال تعنت وعناد. وقوله تعالى: {لقضي الأمر ثم لا ينظرون} أنهم كانوا يسألون إنزال الملك آية لصدقه عليه السلام فقال: {لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون} أي يهلكون لأن الآيات إذا نزلت على إثر سؤال القوم، ثم خالفوا تلك الآيات، وكذبوها، لنزل بهم العذاب والهلاك. وإن جاءت الآيات على غير سؤال، فكذبوها، [يمهلوا، ولا يعذبوا] عند تكذيبهم إياها، والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بيَّنَ أَنَّ العبرة بالقسمة دون الاعتبار بالحجة، وما يغني السراج عند مَنْ فَقَدَ البصر؟ كذلك ما تغني الحجَجُ عند مَنْ عدم عناية الأزل؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَّقُضِىَ الأمر} لقضي أمر إهلاكهم {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} بعد نزوله طرفة عين. إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن، ثم لا يؤمنون كما قال: {وَلَوْ أننا َنزَلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى} [الأنعام: 111] لم يكن بدّ من إهلاكهم، كما أهلك أصحاب المائدة، وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة، فيجب إهلاكهم. وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون ومعنى {ثُمَّ} بعد ما بين الأمرين: قضاء الأمر، وعدم الإنظار. جعل عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر، لأنّ مفاجأة الشدّة أشدّ من نفس الشدّة...
اعلم أن هذا النوع الثالث من شبه منكري النبوات؛ فإنهم يقولون: لو بعث الله إلى الخلق رسولا لوجب أن يكون ذلك الرسول واحدا من الملائكة، فإنهم إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر، وقدرتهم أشد، ومهابتهم أعظم، وامتيازهم عن الخلق أكمل، والشبهات والشكوك في نبوتهم ورسالتهم أقل. والحكيم إذا أراد تحصيل مهم فكل شيء كان أشد إفضاء إلى تحصيل ذلك المطلوب كان أولى. فلما كان وقوع الشبهات في نبوة الملائكة أقل، وجب لو بعث الله رسولا إلى الخلق أن يكون ذلك الرسول من الملائكة، هذا هو المراد من قوله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك}.
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين: أما الأول: فقوله {ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر} ومعنى القضاء الإتمام والإلزام. وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة. ثم هاهنا وجوه: الأول: أن إنزال الملك على البشر آية باهرة، فبتقدير إنزال الملك على هؤلاء الكفار فربما لم يؤمنوا كما قال: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} إلى قوله {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال، فإن سنة الله جارية بأن عند ظهور الآية الباهرة إن لم يؤمنوا جاءهم عذاب الاستئصال، فهاهنا ما أنزل الله تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب. والوجه الثاني: أنهم إذا شاهدوا الملك زهقت أرواحهم من هول ما يشهدون، وتقريره: أن الآدمي إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر. فإن كان الأول لم يبق الآدمي حيا، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى جبريل عليه السلام على صورته الأصلية غشي عليه، وإن كان الثاني فحينئذ يكون المرئي شخصا على صورة البشر، وذلك لا يتفاوت الحال فيه سواء كان هو في نفسه ملكا أو بشرا. ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم، وأضياف لوط، وكالذين تسوروا المحراب، وكجبريل حيث تمثل لمريم بشرا سويا. والوجه الثالث: أن إنزال الملك آية باهرة جارية مجرى الإلجاء، وإزالة الاختيار، وذلك مخل بصحة التكليف. الوجه الرابع: أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهات المذكورة إلا أنه يقوي الشبهات من وجه آخر، وذلك لأن أي معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته أنت، فعلمنا أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهة من الوجوه المذكورة لكنه يقوي الشبهة من هذه الوجوه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
اقترح كفار مكة أن ينزل على الرسول ملك من السماء يكون معه نذيرا مؤيدا له أمامهم إذ يرونه ويسمعون كلامه كما في سورة الفرقان (7:25) وما هنا، وهو حكاية لما هنالك، فلذلك لم يقل « ملك فيكون معه نذيرا» اكتفاء بما سبق. بل اقترحوا أيضا أن ينزل الملك عليهم بالرسالة من ربهم، بل طلبوا أكبر من ذلك: طلبوا أن يروا ربهم ويخاطب كل واحد منهم بما يريد من إرسال الرسول إليهم، كما في سورة الفرقان أيضا (21:25) وقد قال الله في هؤلاء: {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا} نعم إن هذا منتهى الكبرياء والعتو لأنه تسام واستشراف من أظل البشر وأسفلهم روحا إلى ما لا يصل إليه أعلاه مقاما في هذه الحياة الدنيا، وأما اقتراحهم نزول الملك على الرسول فهو مبني على ضد ما بني عليه طلبهم لنزول الملائكة عليهم أو رؤية ربهم-هو مبني على اعتقاد أن أرقى البشر عقلا وأخلاقا وآدابا وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ليسوا أهلا لأن يكونوا رسلا بين الله وبين عباده لأنهم بشر يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق-هذه شبهة المتقدمين منهم والمتأخرين: قال تعالى في هود وقومه: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا: ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون*ولئن أطعتم بشرا مثلكم أنكم إذا لخاسرون} [المؤمنون: 33-34] وحكى تعالى مثل هذا عن غيرهم في هذه السورة (سورة المؤمنين) وفي غيرها.
ومثل هذا التناقض والتضاد في حكم البشر لأنفسهم وعليها معهود في كل زمان وكل مكان، فهم يرفعون أنفسهم تارة إلى ما هو أعلى من قدرها بما لا يحصى من الدرجات والمسافات البعيدة السحيقة، ويهبطون بها تارة إلى ما هو دون استعدادها بما لا يعد من الدركات العميقة. يتسامون تارة للبحث في عالم الغيب من الأزل الذي لا يعرفون أوله، إلى الأبد الذي لا يدركون نهايته، وللكلام في كنه الخالق، وفي كيفية صدور الوجود الممكن عن الوجود الواجب، فيعترفون تارة بالعجز عن معرفة كنه أنفسهم والقصور عن الإحاطة بأنواع الجنة 49 التي تعيش في بنيتهم، وتأثر في جميع مواد معيشتهم من أطعمتهم وأشربتهم.
يقولون تارة إن هذا الإنسان سيد الأكوان، ومصداق قول الغزالي: ليس في الإمكان أبدع مما كان، ويقولون تارة إنه مظهر الظلم والخلل والفساد، وإنما يعظم أحدهم نفسه أو جنسه في مرآة نفسه ويحقر غيره أو نفسه متمثلة في مرآة جنسه، ومن هذا الباب إنكار الكفار لبعثة الرسل، وكانوا تارة يكتفون بجعل البشرية علة للإنكار كما ترى في سورة هود وإبراهيم والإسراء والمؤمنين وياسين والقمر والتغابن-وتارة يصرحون بما في أنفسهم من الكبر واستثقالهم تفضيل الرسل على أنفسهم بإتباعهم إياهم، وعلى هذا بنوا اقتراح نزول الملائكة عليهم مباشرة أو على الرسل مؤيدة لهم كقول قوم نوح {ما هذا إلا بشر يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة} [المؤمنون: 24].
جمع مشركو مكة بين الاقتراحين- كما تقدم آنفا-اقتراح نزول الملائكة عليه، واقتراح نزول ملك على النبي يرونه بأعينهم، ولولا قيد الرؤية لم يكن للاقتراح فائدة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أخبرهم بأنه ينزل عليه الملك، وكأنهم ظنوا أن مساواتهم له صلى الله عليه وسلم في البشرية تقتضي مساواته في الاستعداد لرؤية الملائكة وتلقي العلم عنهم، وهذه أقوى شبهة للكفار على الوحي، فإنهم لغرورهم بأنفسهم ينكرون كل ما لا يصلون إليه بأنفسهم.
وقد رد الله تعالى عليهم الاقتراحين من وجهين أحدهما: أنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لقضي الأمر بإهلاكهم ثم لا ينظرون أي لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا بل يأخذهم العذاب عاجلا كما مضت به سنة الله فيمن قبلهم. قال ابن عباس في تفسير الآية: ولو أتاهم ملك في صورته لأهلكناهم ثم لا يؤخرون، وقال قتادة: يقول: لو أنزل الله ملكا ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب. ولكن قال مجاهد في قوله: « لقضي الأمر»: أي لقامت الساعة. وذكر المفسرون في تفسير قضاء الأمر هنا عدة وجوه:
- أن سنة الله في أقوام الرسل الذين قامت عليهم الحجة أنهم كانوا إذا اقترحوا آية وأعطوها ولم يؤمنوا يعذبهم الله بالهلاك والاستئصال الذي تتولى تنفيذه الملائكة، والله تعالى لا يريد أن يستأصل هذه الأمة، التي بعث فيها خاتم رسله نبي الرحمة، فالرحمة العامة تنافي هذا العذاب العام {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].
- أن المراد أنهم لو شاهدوا الملك بصورته الأصلية كما يطلبون لزهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون.
- أن رؤية الملك بصورته آية ملجئة يزول بها الاختيار الذي هو قاعدة التكليف- وهذا على قاعدة المعتزلة، وعبارة الزمخشري في هذه المسألة من تعليلات قضاء الأمر: وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة فيجب إهلاكهم اه وهذا التفريع غير مسلّم.
- أنهم لما اقترحوا ما لا يتوقف عليه الإيمان – إذ يتوقف على المعجز مطلقا وقد حصل، لا المعجز الخاص الذي طلبوه- فإذا أعطوه كانوا على غاية الرسوخ في العناد المناسب للإهلاك وعدم النظرة.
وأول هذه الأقوال أقواها وهو المختار. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى في سورة الحجر: {ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين} [الحجر: 8] أي ما كان شأننا الذي مضت به سنتنا أن ننزل الملائكة إلا بالأمر الحق وهو الرسالة للرسل أو العذاب للأمم الذين يعاندون الرسل فيقترحون عليهم الآيات المخصوصة ويعلقون إيمانهم عليها ثم يصرون على جحودهم وكفرهم بعد أن يعطوها، فلو نزلت الملائكة عليهم ما كانوا إذ تنزل إلا هالكين لا ينظرون أي لا يمهلون لأجل أن يؤمنوا. وما كان الله ليهلك هذه الأمة، ولا من أعدهم لهدايتها من قوم نبي الرحمة، بإجابة اقتراحات أولئك المستكبرين المعاندين منهم، وهم إنما يقترحون الآيات، لأجل التعجيز دون استبانة الإعجاز. وهو يعلم أنهم إن أعطوها ما كانوا مؤمنين، وبذلك مضت السنة في أمثالهم من الغابرين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا يبدو أن هذه الاقتراحات لم تكن طلبا للبرهان؛ إنما كانت وسيلة من وسائل الإعنات؛ وأسلوبا من أساليب التعنت؛ وخطة للمماحكة والمعاندة؛ وأنهم كانوا كما قال الله سبحانه عنهم في الآية السابقة: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين)! والحقيقة الثانية: أن العرب كانوا يعرفون الملائكة؛ وكانوا يطلبون أن ينزل الله على رسوله ملكا يدعو معه ويصدقه.. ولكنهم لم يكونوا يعرفون طبيعة هذا الخلق التي لا يعلمها إلا الله؛ وكانوا يخبطون في التيه بلا دليل في تصور هذا الخلق؛ وفي نوع علاقته بربه؛ ونوع علاقته بالأرض وأهلها.. وقد حكى القرآن الكريم كثيرا من ضلالات العرب وأساطير الوثنية حول الملائكة؛ وصححها كلها لهم ليستقيم تصور من يهتدي بهذا الدين منهم؛ وتصح معرفتهم لهذا الكون وما يعمره من خلائق...
(وقالوا: لولا أنزل عليه ملك! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون).. وهذا جانب من التعريف بهذا الخلق من عباد الله.. إنهم يقترحون أن ينزل الله ملكا. ولكن سنة الله أن ينزل الملائكة -حين ينزلون إلى الأرض على قوم كذبوا برسولهم- أن ينزلوا للتدمير عليهم، وتحقيق أمر الله فيهم بالهلاك والدمار. ولو أن الله استجاب للمشركين من العرب فأنزل ملكا، لقضي الأمر، وتم التدمير، ولم ينظروا إلى مهلة بعد هذا التنزيل! فهل هذا ما يريدون وما يقترحون؟ وهلا يستشعرون رحمة الله في عدم إجابتهم لما يقترحون لأنفسهم من الهلاك المبين؟!.. هكذا يقفهم السياق وجها لوجه أمام رحمة الله بهم وحلمه عليهم؛ وأمام جهلهم بمصلحة أنفسهم، وجهلهم بسنة الله في تنزيل الملائكة.. وهم بهذا الجهل الذي يكاد يدمر عليهم حياتهم، يرفضون الهدى ويرفضون الرحمة ويتعنتون في طلب الدليل!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فمعنى الآية أنّ ما اقترحوه لو وقع لكان سيء المغبّة عليهم من حيث لا يشعرون. وليس المراد أنّ سبب عدم إنزال الملك رحمة بهم بل لأنّ الله ما كان ليظهر آياته عن اقتراح الضاليّن، إذ ليس الرسول صلى الله عليه وسلم بصدد التصدّي لرغبات الناس مثل ما يتصدى الصانع أو التاجرـ ولو أجيبت رغبات بعض المقترحين لرام كلّ من عُرضت عليه الدعوة أن تظهر له آية حسب مقترحه فيصير الرسول صلى الله عليه وسلم مضيّعاً مدّة الإرشاد وتلتفّ عليه الناس التفافهم على المشعوذين، وذلك ينافي حرمة النبوة، ولكن الآيات تأتي عن محض اختيار من الله تعالى دون مسألة. وإنّما أجاب الله اقتراح الحواريّين إنزال المائدة لأنّهم كانوا قوماً صالحين، وما أرادوا إلاّ خيراً. ولكنّ الله أنبأهم أنّ إجابتهم لذلك لحكمة أخرى وهي تستتبع نفعاً لهم من حيث لا يشعرون، فكانوا أحرياء بأن يشكروا نعمة الله عليهم فيما فيه استبقاء لهم لو كانوا موفّقين...
وجاءوا – إصرارا على الكفر – يطلبون آية أخرى: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون (8)} ما الملك؟ الملك جنس جعله الله من الغيب، ونحن لا نؤمن به إلا لأن الله الذي آمنا به قال: إن له ملائكة مثلما قال: إن هناك جنا، والملائكة من الجنس الغيب، والجن مستور عنا. وهؤلاء المنكرون والجاحدون يطلبون نزول ملك حتى يؤمنوا. إذن فهم قد عرفوا هناك غيبا وأن فطرتهم الأولى تحمل أثرا من منطق السماء لكنهم ينكرون، وقولهم بالملك دليل على أن في أعماقهم رواسب من دين إبراهيم ودين إسماعيل، وبقيت تلك الآثار في النفوس لأنها مسألة لا تمس السيادة، ولو أنزل الحق لهم ملكا لما آمنوا أيضا، فهم مكذبون. ولا يريد الحق أن يطبق عليهم سنته بنزول الآية التي يطلبونها حتى لا ينزل بهم عقابه إن كفروا بها. فلو أنزل الحق عليهم ملكا كما يطلبون ثم كفروا لقضي الأمر وأهلكوا بدون إمهال. إذ لو تجلى لهم وظهر على طبيعته ما تحملته كياناتهم البشرية...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
خلق المبررات: من عوامل الكفر والإِنكار الأُخرى، روح التحجج والبحث عن المبررات، وعلى الرغم من أنّ لهذه الروح عوامل أُخرى، مثل التكبر والأنانية، ولكنّه ينقلب بالتدريج إِلى حالة نفسية سلبية، تصبح بدورها عاملا من عوامل عدم التسليم للحق. ومن جملة الحجج التي احتج بها المشركون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأشار إِليها القرآن في كثير من آياته ومنها هذه الآية هي أنّهم كانوا يقولون: لماذا يقوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده بهذا الأمر العظيم؟ لماذا لا يقوم معه بهذا الأمر أحد من غير جنس البشر، من جنس الملائكة؟ أيمكن لإِنسان من جنسنا أنّ يحمل بمفرده هذه الرسالة على عاتقه؟ (وقالو لولا أنزل عليه ملك). ولا مجال لهذا التحجج على نبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كل هذه الدلائل الواضحة والآيات البيّنات، ثمّ إنّ الملك ليس أقدر من الإِنسان ولا يملك قابلية لحمل رسالة أكثر من قابلية الإنسان بل أن قابلية الإِنسان أكثر بكثير. يرد القرآن عليهم بجملتين في كل منهما برهان: الأولى: (ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثمّ لا ينظرون). أي لو نزل ملك لمعاونة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهلك الكافرون، وسبب ذلك ما مرّ في آيات سابقة، وهو أنّه إِذا اتخذت النبوة جانب الشهود والحس، أي إِذا تحول الغيب بنزول الملك إِلى شهود، بحيث يرى كل شيء عياناً، غدت المرحلة هي المرحلة النهائية في إِتمام الحجة، إِذ لا يكون ثمّة دليل أوضح منها، وعلى ذلك فإن العصيان في هذه الحالة يستوجب العقاب القاطع، ولكن الله للطفه ورحمته بعباده، ولكي يمنحهم فرصة التأمل والتفكير، لا يفعل ذلك إِلاّ في حالات خاصّة يكون فيها طالب الدليل على أتمّ استعداد، أو في حالات يستحق فيها طالب الدليل الهلاك، أي أنّه ارتكب ما يستوجب معه العقاب الإِلهي، في هذه الحالة يحقق له طلبه، ثمّ إِذا لم يستسلم صدر أمر هلاكه. الثّانية: هي أنّ الرّسول الذي يبعثه الله لقيادة الناس وتربيتهم وليكون أُسوة لهم، لابدّ أن يكون من جنس الناس أنفسهم وعلى شاكلتهم من حيث الصفات والغرائز البشرية، أمّا الملك فلا يظهر لعيون البشر كما أنّه ليس بإمكانه أنّ يكون قدوة عملية لهم، لأنّه لا يدري شيئاً عن حاجاتهم وآلامهم ولا عن غرائزهم ومتطلباتها، لذلك فإن قيادته لجنس يختلف عنه كل الاختلاف لا يحقق الهدف...