{ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ } في ترك شيء مما أرسلت به بل ابذل جهدك في تبليغ ما أرسلت به . { وَجَاهِدْهُمْ } بالقرآن { جِهَادًا كَبِيرًا } أي : لا تبق من مجهودك في نصر الحق وقمع الباطل إلا بذلته ولو رأيت منهم من التكذيب والجراءة ما رأيت فابذل جهدك واستفرغ وسعك ، ولا تيأس من هدايتهم ولا تترك إبلاغهم لأهوائهم .
( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) . .
وإن في هذا القرآن من القوة والسلطان ، والتأثير العميق ، والجاذبية التي لا تقاوم ، ما كان يهز قلوبهم هزا ، ويزلزل أرواحهم زلزالا شديدا ، فيغالبون أثره بكل وسيلة فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلا .
ولقد كان كبراء قريش يقولون للجماهير : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) . . وكانت هذه المقالة تدل على الذعر الذي تضطرب به نفوسهم ونفوس أتباعهم من تأثير هذا القرآن ؛ وهم يرون هؤلاء الأتباع كأنما يسحرون بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين ، والسورة والسورتين ، يتلوهما محمد ابن عبد الله [ صلى الله عليه وسلم ] فتنقاد إليه النفوس ، وتهوى إليه الأفئدة .
ولم يقل رؤساء قريش لأتباعهم وأشياعهم هذه المقالة ، وهم في نجوة من تأثير هذا القرآن . فلولا أنهم أحسوا في أعماقهم هزة روعتهم ما أمروا هذا الأمر ، وما أشاعوا في قومهم بهذا التحذير ، الذي هو أدل من كل قول على عمق التأثير !
قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث : أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة . . خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يصلي من الليل في بيبته . فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ! ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ! ثم انصرفوا . . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود ! فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرقوا .
" فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه . ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . فقال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها ، وأعرف ما يراد بها ؛ وسمعت أشياء ما عرفت معناها ، ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به .
" قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد ? فقال : ماذا سمعت ? ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف . أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك مثل هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! !
" قال : فقام عنه الأخنس وتركه " .
فهكذا كانوا يغالبون أنفسهم أن تهفو إلى هذا القرآن فتغلبهم ، لولا أن يتعاهدوا وهم يحسون ما يتهدد زعامتهم ، لو اطلع عليهم الناس ، وهم مأخوذون شبه مسحورين !
وإن في القرآن من الحق الفطري البسيط ، لما يصل القلب مباشرة بالنبع الأصيل ، فيصعب أن يقف لهذا النبع الفوار ، وأن يصد عنه تدفق التيار . وأن فيه من مشاهد القيامة ، ومن القصص ، ومن مشاهد الكون الناطقة ، ومن مصارع الغابرين ، ومن قوة التشخيص والتمثيل ، لما يهز القلوب هزا لا تملك معه قرارا .
وإن السورة الواحدة لتهز الكيان الإنساني في بعض الأحيان ، وتأخذ على النفس أقطارها ما لا يأخذه جيش ذو عدة وعتاد ! !
فلا عجب مع ذلك أن يأمر الله نبيه أن لا يطيع الكافرين ، وألا يتزحزح عن دعوته وأن يجاهدهم بهذا القرآن . فإنما يجاهدهم بقوة لا يقف لها كيان البشر ، ولا يثبت لها جدال أو محال .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نّذِيراً * فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً } .
يقول تعالى ذكره : ولو شئنا يا محمد لأرسلنا في كلّ مصر ومدينة نذيرا ينذرهم بأْسَنا على كفرهم بنا ، فيخفّ عنك كثير من أعباء ما حملناك منه ، ويسقط عنك بذلك مؤنة عظيمة ، ولكنا حملناك ثقل نذارة جميع القرى ، لتستوجب بصبرك عليه إن صبرت ما أعمدّ الله لك من الكرامة عنده ، والمنازل الرفيعة قِبَله ، فلا تطع الكافرين فيما يدعونك إليه من أن تعبد آلهتهم ، فنذيقك ضعف الحياة وضعف الممات ، ولكن جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيرا ، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله ، ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعا وكرها . وبنحو الذي قلنا في قوله : وَجاهِدْهُمْ بِهِ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : قوله فَلا تُطِعِ الكافِرِينَ وَجاهِدْهِمْ بِهِ قال : بالقرآن . وقال آخرون في ذلك بما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادا كَبِيرا قال : الإسلام . وقرأ : وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وقرأ : وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وقال : هذا الجهاد الكبير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.