ف { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } رادين لدعوته ، قادحين في رأيه : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : ما نراك إلا سفيها غير رشيد ، ويغلب على ظننا أنك من جملة الكاذبين ، وقد انقلبت عليهم الحقيقة ، واستحكم عماهم حيث رموا نبيهم عليه السلام بما هم متصفون به ، وهو أبعد الناس عنه ، فإنهم السفهاء حقا الكاذبون .
وأي سفه أعظم ممن قابل أحق الحق بالرد والإنكار ، وتكبر عن الانقياد للمرشدين والنصحاء ، وانقاد قلبه وقالبه لكل شيطان مريد ، ووضع العبادة في غير موضعها ، فعبد من لا يغني عنه شيئا من الأشجار والأحجار ؟ "
وكأنما كبر على الملأ الكبراء من قومه أن يدعوهم واحد من قومهم إلى الهدى ، وأن يستنكر منهم قلة التقوى ؛ ورأوا فيه سفاهة وحماقة ، وتجاوزا للحد ، وسوء تقدير للمقام ! فانطلقوا يتهمون نبيهم بالسفاهة وبالكذب جميعاً في غير تحرج ولا حياء :
( قال الملأ الذين كفروا من قومه : إنا لنراك في سفاهة ، وإنا لنظنك من الكاذبين ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنّا لَنَظُنّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنّي رَسُولٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عما أجاب هودا له قومه الذين كفروا بالله : قَالَ الملأُ الّذِينَ كَفَرُوا يعني الذين جحدوا توحيد الله ، وأنكروا رسالة هود إليهم : إنا لَنَرَاكَ يا هود فِي سَفاهَةٍ يعنون في ضلالة عن الحقّ والصواب ، بتركك دينَنا وعبادة آلهتنا . وَإنّا لَنَظُنّكَ مِنَ الكاذِبِينَ في قِيلك إني رسول من ربّ العالمين .
فُصِلت جملة : { قال يا قوم } ولم تعطف بالفاء كما عطف نظيرها المتقدّم في قصّة نوح ؛ لأنّ الحال اقتضى هنا أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّ قصّة هود لما وردت عقب قصّة نوح المذكور فيها دعوتُه قومه صار السّامع مترقباً معرفة ما خاطب به هود قومه حيث بعثه الله إليهم ، فكان ذلك مثار سؤال في نفس السّامع أن يقول : فماذا دَعا هُودٌ قومه وبماذا أجابوا ؟ فيقع الجواب بأنّه قال : يا قوم اعبدوا الله إلخ مع ما في هذا الاختلاف من التّفنّن في أساليب الكلام ، ولأنّ الفعل المفرع عنه القولُ بالعطف لما كان محذوفاً لم يكن التّفريع حسناً في صورة النّظم .
والرّبطُ بين الجمل حاصل في الحالتين لأنّ فاء العطف رابط لفظيٌ للمعطوف بالمعطوف عليه ، وجواب السؤال رابط جملة الجواب بجملة مثار السؤال ربطاً معنوياً .
وجملة : { ما لكم من إله غيره } مستأنفة ابتدائيّة . وقد شابهت دعوةُ هود قومَه دعوةَ نوح قومَه في المهم من كلامها : لأنّ الرّسل مرسَلون من الله والحكمة من الإرسال واحدة ، فلا جرم أن تتشابه دعواتهم ، وفي الحديث : " الأنبياء أبناء عَلاّتٍ " وقال تعالى : { شَرع لكم من الدّين مَا وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى } [ الشورى : 13 ] .
وجملة : { أفلا تتقون } استفهامية إنكارية معطوفة بفاء التّفريع على جملة : { ما لكم من إله غيره } . والمراد بالتّقوى الحذر من عقاب الله تعالى على إشراكهم غيرَه في العبادة واعتقادِ الإلهيّة . وفيه تعريض بوعيدهم إن استمروا على ذلك . وإنَّما ابتدأ بالإنكار عليهم إغلاظاً في الدّعوة وتهويلاً لفظاعة الشّرك ، إن كان قال ذلك في ابتداء دعوته ، ويحتمل أنّ ذلك حكاية قولٍ من أقواله في تكرير الدّعوة بعد أن دعاهم المرّة بعد المرة ووعظهم ، كما قال نوح { إني دعوتُ قومي ليلا ونهاراً } [ نوح : 5 ] كما اقتضاه بعض توجيهات تجريد حكاية كلامه عن فاء التّفريع المذكور آنفاً .
ووصْفُ الملإ ب { الذين كفروا } هنا ، دون ما في قصّة نوح ، وصْفٌ كاشِف وليس للتّقييد تَفَنُّناً في أساليب الحكاية ألا ترى أنّه قد وُصف ملأُ قوم نوح ب { الذين كفروا } في آية سورة هود ، والتّوجيه الذي في « الكشاف » هنا غفلة عمّا في سورة هُود .
والرّؤية قلبيّة ، أي أنّا لنعلم أنّك في سفاهة .
والسّفاهة سخافة العقل ، وقد تقدّم القول في هذه المادة عند قوله تعالى : { قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء } [ البقرة : 13 ] وقوله { ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلاّ من سفَه نفسه } في سورة البقرة ( 130 ) . جعلوا قوله : { ما لكم من إله غيره } كلاماً لا يصدر إلاّ عن مختل العقل لأنّه من قول المحال عندهم .
وأطلقوا الظنّ على اليَقين في قولهم : { وإنَّا لنظنّك من الكاذبين } وهو استعمال كثير كما في قوله تعالى : { الذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم } وقد تقدّم في سورة البقرة ( 46 ) ، وأرادوا تكذيبه في قوله ما لكم من إله غيره } ، وفيما يتضمّنه قولُه ذلك من كونه رسولاً إليهم من الله .
وقد تشابهت أقوال قوم هود وأقوالُ قوم نوح في تكذيب الرّسول لأنّ ضلالة المكذّبين متّحدة ، وشبهاتهم متّحدة ، كما قال تعالى : { تشابهت قلوبهم } [ البقرة : 118 ] فكأنّهم لَقَّن بعضُهم بعضاً كما قال تعالى : { أتوَاصَوْا به بل هم قوم طاغون } [ الذاريات : 53 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال الملأ الذين كفروا من قومه}، وهم الكبراء لهود والقادة: {إنا لنراك في سفاهة}، يعني في حمق، {وإنا لنظنك}، يعني لنحسبك {من الكاذبين} فيما تقول في نزول العذاب بنا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عما أجاب هودا له قومه الذين كفروا بالله:"قَالَ الملأُ الّذِينَ كَفَرُوا" يعني الذين جحدوا توحيد الله، وأنكروا رسالة هود إليهم: "إنا لَنَرَاكَ "يا هود "فِي سَفاهَةٍ" يعنون في ضلالة عن الحقّ والصواب، بتركك دينَنا وعبادة آلهتنا. "وَإنّا لَنَظُنّكَ مِنَ الكاذِبِينَ" في قِيلك إني رسول من ربّ العالمين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال الملأ من الذين كفروا من قومه} قد ذكرنا قول الملأ من قومه، أي أشراف قومه وسادته {إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنّك من الكاذبين} ذكر ههنا ظنهم في تكذيبهم الرسول، وفي موضع آخر قطعهم في التكذيب، وهو قوله تعالى: {إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين} [المؤمنون: 38]. فكان قوله تعالى: {وإنا لنظنّك من الكاذبين} في ابتداء ما دعاهم إلى عبادة الله ووحدانيته؛ كانوا على ظن فيه لما كان عندهم صدوقا أمينا قبل دعائهم إلى ما دعاهم. فلما أن أقام عليهم آيات الرسالة والنبوّة، وأظهر عندهم عيب ما عبدوا غير الله، وأبطله، وتحقق [ذلك عندهم، عند] ذلك قالوا {إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين} [المؤمنون: 38] ليعلم أنهم عن عناد كذّبوا الرسل.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
في هذه الآية إخبار عما قالت الجماعة الكافرة من قوم هود له "إنا لنراك في سفاهة "والسفاهة: خفة الحلم، وثوب سفيه إذا كان خفيفا، (وقال) المؤرج: السفاهة: الجنون بلغة حمير، وقوله "في سفاهة" معناه منغمس في السفاهة.
وقوله "وإنا لنضنك" ولم يقولوا نعلمك لأمرين: أحدهما -قال الحسن: لأن تكذيبهم كان على الظن دون اليقين... الثاني- انهم أرادوا بالظن العلم.
وفائدة الآية أن أمة هود جرت على طريقة أمة نوح في الكفر بنبيها كأنهم قد تواصوا بالتكذيب بالحق ومعاندة أهله والرد لما أوتوا به.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم وصف الملأ [ب] {الذين كَفَرُواْ} دون الملأ من قوم نوح؟ قلت: كان في أشراف قوم هود من آمن به...فأريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن. ونحوه قوله تعالى: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة} [المؤمنون: 33] ويجوز أن يكون وصفاً وارداً للذمّ لا غير...
{فِي سَفَاهَةٍ} في خفة حلم وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، وجعلت السفاهة ظرفاً على طريق المجاز: أرادوا أنه متمكن فيها غير منفك عنها.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
قال ابن قتيبة: السفاهة: الجهل.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما كان كلام نوح لقومه أشد من كلام هود تقوية لقوله {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} كان جوابهم أغلظ وهو {إنا لنراك في ضلال مبين} وكان كلام هود ألطف لقوله {أفلا تتقون} فكان جوابهم له ألطف من جواب قوم نوح لنوح بقولهم {إنا لنراك في سفاهة} ثم أتبعوا ذلك بقولهم {وإنا لنظّنك من الكاذبين} فدل ذلك على أنه أخبرهم بما يحل بهم من العذاب إن لم يتقوا الله أو علّقوا الظن بقوله {ما لكم من إلهٍ غيره} أي إنّ لنا آلهة فحصرها في واحد كذب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكأنما كبر على الملأ الكبراء من قومه أن يدعوهم واحد من قومهم إلى الهدى، وأن يستنكر منهم قلة التقوى؛ ورأوا فيه سفاهة وحماقة، وتجاوزا للحد، وسوء تقدير للمقام! فانطلقوا يتهمون نبيهم بالسفاهة وبالكذب جميعاً في غير تحرج ولا حياء: (قال الملأ الذين كفروا من قومه: إنا لنراك في سفاهة، وإنا لنظنك من الكاذبين).. هكذا جزافاً بلا تروّ ولا تدبر ولا دليل!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد تشابهت أقوال قوم هود وأقوالُ قوم نوح في تكذيب الرّسول لأنّ ضلالة المكذّبين متّحدة، وشبهاتهم متّحدة، كما قال تعالى: {تشابهت قلوبهم} [البقرة: 118] فكأنّهم لَقَّن بعضُهم بعضاً كما قال تعالى: {أتوَاصَوْا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 53].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كان الذين يردون هم الكبراء البارزون فيهم كشأن أعداء الأنبياء دائما؛ لأنهم الذين يخافون على سلطانهم، كما رأيت في الذين عاندوا نوحا وكفروا به، وكما رأيت في الذين عاندوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. وكما نرى في الذين عاندوا هودا أخا عاد، وقد بادروه بالطعن في شخصه. قالوا في شخصه: {إنا لنراك في سفاهة} وأكدوا ذلك ب (إن) وباللام، أي: إنا لنراك في خفة عقل وحمق وطيش وذلك استخفاف به، لأنهم ضالون. ودعاهم إلى الحق الذي لا ريب فيه. وأما طعنهم في قوله، فهو قولهم: {وإنا لنظنك من الكاذبين} والظن هنا هو العلم المزعوم عندهم، بدليل أنه أكدوا حكمهم ب (إن) واللام، وكونه داخلا في زمن الكاذبين، وقد يطلق الظن بمعنى العلم، وهو هنا كذلك.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وربما يسمع الكثيرون من دعاة التغيير في كل مجتمع مثل هذه الكلمة، إذا كان هؤلاء الأشخاص لا يمثلون وزناً اجتماعياً كبيراً في حياة الناس. {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}. لم يقولوا له إنك من الكاذبين، لأنهم لا يملكون أساساً في الجزم بكذبه، أو لأنهم يريدون تخفيف التهمة ليصوروا أنفسهم بصورة من لا يريد إلقاء الكلام جزافاً، بل يعملون على إعطاء القضية دور المسألة الأكثر رجحاناً. ويبقى الأسلوب أسلوب اللاّمناقشة في أصل الفكرة، ولا تفكير في الموضوع، بل هو الكلام الانفعاليّ الذي ينفس عن العقدة بدل أن يواجهها بهدوء.