القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النّهَارَ مَعَاشاً } .
يقول تعالى ذكره معدّدا على هؤلاء المشركين نِعَمه وأياديه عندهم ، وإحسانه إليهم ، وكفرانهم ما أنعم به عليهم ، ومتوعدهم بما أعدّ لهم عند ورودهم عليه ، من صنوف عقابه ، وأليم عذابه ، فقال لهم : أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ لكم مِهادا تمتهدونها وتفترشونها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهادا : أي بساطا .
ثم وقفهم تعالى على آياته وغرائب مخلوقاته وقدرته التي يوجب النظر فيها الإقرار بالبعث والإيمان بالله تعالى . و «المهاد » : الفراش الممهد الوطيء وكذلك الأرض لبنيتها{[11562]} ، وقرأ مجاهد وعيسى وبعض الكوفيين «مهداً » ، والمعنى نحو الأول .
لما كان أعظم نبأ جاءهم به القرآن إبطال إلهية أصنامهم وإثبات إعادة خلق أجسامِهم ، وهما الأصلان اللذان أثارا تكذيبهم بأنه من عند الله وتألبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترويجهم تكذيبه ، جاء هذا الاستئناف بياناً لإجمال قوله : { عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون } [ النبأ : 2 ، 3 ] .
وسيجيء بعده تكملته بقوله : { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } [ النبأ : 17 ] .
وجمع الله لهم في هذه الآيات للاستدلال على الوحدانية بالانفراد بالخلق ، وعلى إمكان إعادة الأجساد للبعث بعد البِلى بأنها لا تبلغ مبلغ إيجاد المخلوقات العظيمة ولكون الجملة في موقع الدليل لم تعطف على ما قبلها .
والكلام موجه إلى منكري البعث وهم الموجه إليهم الاستفهام فهو من قبيل الالتفات لأن توجيه الكلام في قوة ضمير الخطاب بدليل عطف { وخلقناكم أزواجاً } [ النبأ : 8 ] عليه .
والاستفهام في { ألم نجعل } تقريري وهو تقرير على النفي كما هو غالب صيغ الاستفهام التقريري أن يَكون بعده نفي والأكثر كونه بحرف ( لم ) ، وذلك النفي كالإعذار للمقرَّر إن كان يريد أن ينكر وإنما المقصود التقرير بوقوع جعل الأرض مهاداً لا بنفيه فحرف النفي لمجرد تأكيد معنى التقرير .
فالمعنى : أجعلنا الأرض مهاداً ولذلك سيعطف عليه { وخلقناكم أزواجاً } وتقدم عند قوله تعالى : { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض } في سورة البقرة ( 33 ) . ولا يسعهم إلا الإِقرار به قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن اللَّه } [ لقمان : 25 ] ، وحاصل الاستدلال بالخلق الأول لمخلوقات عظيمة أنه يدل على إمكان الخلق الثاني لمخلوقات هي دون المخلوقات الأولى قال تعالى : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ( أي الثاني ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ غافر : 57 ] .
وجَعْلُ الأرض : خَلْقُهَا على تلك الحالة لأن كونها مهاداً أمر حاصل فيها من ابتداء خلقها ومِن أزمان حصول ذلك لها من قبل خلق الإِنسان لا يعلمه إلا الله .
والمعنى : أنه خلقها في حال أنها كالمهاد فالكلام تشبيه بليغ .
والتعبير ب { نجعل } دون : نخلق ، لأن كونها مهاداً حالة من أحوالها عند خلقها أو بعده بخلاف فعل الخلق فإنه يتعدى إلى الذات غالباً أو إلى الوصف المقوّم للذات نحو : { الذي خلق الموت والحياة } [ الملك : 2 ] .
والمِهاد : بكسر الميم الفراش الممهد المُوطّأُ ؛ وَزِنَةُ الفِعَال فيه تدل على أن أصله مصدر سمي به للمبالغة . وفي « القاموس » : أن المهاد يرادف المهد الذي يجعل للصبي . وعلى كل فهو تشبيه للأرض به إذ جُعل سطحها ميسراً للجلوس عليها والاضطجاع وبالأحرى المشي ، وذلك دليل على إبداع الخلق والتيسير على الناس ، فهو استدلال يتضمن امتناناً وفي ذلك الامتنان إشعار بحكمة الله تعالى إذ جعل الأرض ملائمة للمخلوقات التي عليها فإن الذي صنع هذا الصنع لا يعجزه أن يخلق الأجسام مرة ثانية بعد بِلاها .
والغرض من الامتنان هنا تذكيرهم بفضل الله لعلهم أن يرعَوُوا عن المكابرة ويقبلوا على النظر فيما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم تبليغاً عن الله تعالى .
ومناسبة ابتداء الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأرض أن البعث هو إخراج أهل الحشر من الأرض فكانت الأرض أسبق شيء إلى ذهن السامع عند الخوض في أمر البعث ، أي بعث أهل القبور .
وجعل الأرض مهاداً يتضمن الاستدلال بأصل خلق الأرض على طريقة الإيجاز ولذلك لم يتعرض إليه بعدُ عند التعرض لخلق السماوات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر صنعه ليعتبروا إذا بعثوا يوم القيامة وقد كذبوا بالقيامة والبعث فعظم الرب نفسه تبارك وتعالى فقال: {ألم نجعل الأرض مهادا} يعني فراشا وأيضا بساطا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره معدّدا على هؤلاء المشركين نِعَمه وأياديه عندهم، وإحسانه إليهم، وكفرانهم ما أنعم به عليهم، ومتوعدهم بما أعدّ لهم عند ورودهم عليه، من صنوف عقابه، وأليم عذابه، فقال لهم:"أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ "لكم "مِهادا" تمتهدونها وتفترشونها... عن قتادة "ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهادا": أي بساطا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
جواب عما سبق من المسائل: فإذا كان السائل عن أمر الرسالة فحقه أن يحمل على جهة غير الجهة التي يحمل عليها إذا صرف التساؤل إلى أمر البعث وإلى أمر التوحيد أو القرآن. والأصل فيه أن الله تعالى بما ذكر من مهاد الأرض وخلق الأزواج، ذكر عباده عظيم نعمه وكثرة إحسانه إليهم ليستأدي منهم الشكر. وإذا وقعت لهم الحاجة إلى الشكر احتاجوا إلى من يعرفهم بما به يشكر الله تعالى، وكيف يؤدى شكره، إذ لا يعرف في كل وجه شكرها إلا بالتوفيق، فيضطرهم ذلك إلى من يبين لهم، واحتاجوا إلى من يعرفهم الوعد والوعيد محل الشكر ومحل الكفر ومحل الولاية ومحل المعاداة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
[مهادا]: وطاء، وهو القرار المهيأ للتصرف فيه من غير أذية... ومهد الأرض تمهيدا مثل وطأه توطئة، لأن ذلك لا يقدر عليه غير الله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف اتصل به قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا} قلت: لما أنكروا البعث قيل لهم: ألم يخلق من يضاف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة الدالة على كمال القدرة، فما وجه إنكار قدرته على البعث، وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات أو قيل لهم: ألم يفعل هذه الأفعال المتكاثرة. والحكيم لا يفعل فعلا عبثاً، وما تنكرونه من البعث والجزاء مؤدّ إلى أنه عابث في كل ما فعل {مهادا} فراشاً...
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم إنكار البعث والحشر، وأراد إقامة الدلالة على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه تعالى قادرا على جميع الممكنات عالما بجميع المعلومات، وذلك لأنه مهما ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث، وإنما أثبت هذين الأصلين بأن عدد أنواعا من مخلوقاته الواقعة على وجه الإحكام والإتقان، فإن تلك الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة، ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم، ومتى ثبت هذان الأصلان وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض، ثبت لا محالة كونه تعالى قادرا على تخريب الدنيا بسماواتها وكواكبها وأرضها، وعلى إيجاد عالم الآخرة، فهذا هو الإشارة إلى كيفية النظم.
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا من عجائب مخلوقاته أمورا فأولها: قوله: {ألم نجعل الأرض مهادا} والمهاد مصدر، ثم ههنا احتمالات؛
(أحدها): المراد منه ههنا الممهود، أي ألم نجعل الأرض ممهودة وهذا من باب تسمية المفعول بالمصدر، كقولك هذا ضرب الأمير.
(وثانيها): أن تكون الأرض وصفت بهذا المصدر، كما تقول: زيد جود وكرم وفضل، كأنه لكماله في تلك الصفة صار عين تلك الصفة.
(وثالثها): أن تكون بمعنى ذات مهاد، وقرئ مهدا، ومعناه أن الأرض للخلق كالمهد للصبي، وهو الذي مهد له فينوم عليه.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والهمزةُ للتقريرِ. والالتفاتُ إلى الخطابِ على القراءةِ المشهورةِ للمبالغة في الإلزام والتبكيتِ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والغرض من الامتنان هنا تذكيرهم بفضل الله لعلهم أن يرعَوُوا عن المكابرة ويقبلوا على النظر فيما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم تبليغاً عن الله تعالى. ومناسبة ابتداء الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأرض أن البعث هو إخراج أهل الحشر من الأرض فكانت الأرض أسبق شيء إلى ذهن السامع عند الخوض في أمر البعث، أي بعث أهل القبور. وجعل الأرض مهاداً يتضمن الاستدلال بأصل خلق الأرض على طريقة الإيجاز ولذلك لم يتعرض إليه بعدُ عند التعرض لخلق السماوات.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كل شيء بأمرك يا ربّ... تجيب الآيات المذكورة على أسئلة منكري المعاد والمختلفين في هذا «النبأ العظيم» لأنّها تستعرض جوانب معينة من نظام الكون وعالم الوجود الموزون، مع تبيانها لبعض النعم الإلهية الواسعة ذات التأثير الفعال في حياة الإنسان، وذلك من جهة دليل على قدرة الباري عزَّ وجل المطلقة، ومنها قدرته على إعادة الحياة إلى الإنسان بعد موته. ومن جهة أُخرى إشارة إلى أنّ الكون وما فيه من دقّة تنظيم، لا يمكن أنْ يُخلق لمجرّد العبث واللهو! بل لابدّ من وجود حكمة بالغة لهذا الخلق. في حين أنّه لو كان الموت يعني نهاية كل شيء، فمعنى ذلك أنّ وجود العالم عبث وخال من أيّةِ حكمة!! وبهذا فقد استدل القرآن الكريم على حقيقة «المعاد» بطريقين: 1 برهان القدرة. 2 برهان الحكمة.
وقد عرضت الآيات الإحدى عشر، اثنتي عشر نعمة إلهية، بأُسلوب ملؤه اللطف والمحبّة، مصحوباً بالاستدلال، لأنّ الاستدلال العقلي لو لم يقترن بالإحساس العاطفي والنشاط الروحي يكون قليل التأثير. وتشرع الآيات بالإشارة إلى نعمة الأرض، فتقول: (ألم نجعل الأرض مهاداً). (المهاد): كما يقول الراغب في المفردات: المكان الممهّد الموطأ، وهو في الأصل مشتق من «المهد»، أيْ المكان المهيأ للصبي. وفسّره بعض أهل اللغة والمفسّرين بالفراش، لنعومته واستوائه وكونه محلاً للراحة. واختيار هذا الوصف للأرض ينم عن مغزىً عميق..
فمن جهة: نجد في قسم واسع من الأرض الاستواء والسهولة، فتكون مهيأة لبناء المساكن والزراعة.
ومن جهة ثانية: أُودع فيها كل ما يحتاجه الإنسان لحياته من المواد الأولية إلى المعادن الثمينة، سواء كان ذلك على سطحها أمْ في باطنها.
ومن جهة ثالثة: تحلل الأجساد الميتة التي تودع فيها، وتبيد كل الجراثيم الناشئة عن هذه العملية بما أودع فيها الباري من قدرة على ذلك.
ومن جهة رابعة: ما لحركتها السريعة المنظمة ولدورانها حول الشمس وحول نفسها من أثر على حياة البشرية خاصّة، بما ينجم عنها الليل والنهار والفصول الأربعة. ومن جهة خامسة: خزنها لقسم كبير من مياه الأمطار الغزيرة، وإخراج ذلك على شكل عيون، آبار، أنهار.
والخلاصة: إنّ جميع وسائل الاستقرار والعيش لبني آدم متوفرة في هذا المهد الكبير، وقد لا يلتفت الإنسان إلى عظم هذه النعمة الرّبانية، إلاّ إذا ما أصاب الأرض زلزالاً..، وعندها سيدرك معنى استقرار الأرض، ومعنى كونها مهاداً...