قوله تعالى : { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا } . يعني : المنافقين يقولونه ، { ثم يتولى } يعرض عن طاعة الله ورسوله ، { فريق منهم من بعد ذلك } ، أي : من بعد قولهم : آمنا ، ويدعو إلى غير حكم الله . قال الله عز وجل : { وما أولئك بالمؤمنين } نزلت هذه الآية في بشر المنافق ، كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن الأشرف ، فإن محمداً يحيف علينا ، فأنزل الله هذه الآية .
{ 47 - 50 } { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
يخبر تعالى عن حالة الظالمين ، ممن في قلبه مرض وضعف إيمان ، أو نفاق وريب وضعف علم ، أنهم يقولون بألسنتهم ، ويلتزمون الإيمان بالله والطاعة ، ثم لا يقومون بما قالوا ، ويتولى فريق منهم عن الطاعة توليا عظيما ، بدليل قوله : { وَهُمْ مُعْرِضُونَ } فإن المتولي ، قد يكون له نية عود ورجوع إلى ما تولى عنه ، وهذا المتولي معرض ، لا التفات له ، ولا نظر لما تولى عنه ، وتجد هذه الحالة مطابقة لحال كثير ممن يدعي الإيمان والطاعة لله وهو ضعيف الإيمان ، وتجده لا يقوم بكثير من العبادات ، خصوصا : العبادات التي تشق على كثير من النفوس ، كالزكوات ، والنفقات الواجبة والمستحبة ، والجهاد في سبيل الله ، ونحو ذلك .
والضمير فى قوله - تعالى - : { وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا } يعود على طائفة من الذين لم يهدهم - سبحانه - إلى الصراط المستقيم ، وهم المنافقون .
أى : أن هؤلاء المنافقين يقولون بألسنتهم فقط : آمنا بالله وبالرسول ، وأطعنا الله والرسول فى كل أمر أو نهى .
ثم بين - سبحانه - أنهم كاذبون فى دعواهم الإيمان والطاعة فقال : { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك } .
أى : يدعون أنهم يؤمنون بالله وبالرسول ، ويطيعون أحكامهما ، وحالهم أن عددا كبيرا منهم يعرضون عما يقتضيه الإيمان والطاعة ، من أدب مع الله - تعالى - ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن انقياد لأحكام الإسلام .
وقوله - سبحانه - : { وَمَآ أولئك بالمؤمنين } نفى لدعواهم الإيمان ، وتوبيخ لهم على أقواهلم التى يكذبها واقعهم ، أى : وما أولئك المنافقون الذى يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ، بالمؤمنين على الحقيقة ، لأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم ، ولأنهم لو كانوا يؤمنون حقا . لما أعرضوا عن أحكام الله - تعالى - ، وعن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
{ ويقولون آمنا بالله وبالرسول } نزلت في بشر المنافق خاصم يهوديا فدعاه إلى كعب بن الأشرف وهو يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل في مغيرة بن وائل خاصم عليا رضي الله عنه في أرض فأبى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . { وأطعنا } أي وأطعناهما . { ثم يتولى } بالامتناع عن قبول حكمه . { فريق منهم من بعد ذلك } بعد قولهم هذا . { وما أولئك بالمؤمنين } إشارة إلى القائلين بأسرهم فيكون إعلاما من الله تعالى بأن جميعهم وإن آمنوا بلسانهم لم تؤمن قلوبهم ، أو إلى الفريق منهم وسلب الإيمان عنهم لتوليهم ، والتعريف فيه للدلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفتهم وهم المخلصون في الإيمان والثابتون عليه .
وقوله تعالى : { ويقولون آمنا بالله } الآية نزلت في المنافقين وسببها فيما روي أن رجلاً من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المنافق مبطلاً فأبى من ذلك ودعا اليهود إلى كعب بن الأشرف فنزلت هذه الآية فيه{[8749]} .
وأسند الزهراوي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال من دعاه خصمه إلى حكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم .
عطف جملة : { ويقولون } على جملة : { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ النور : 46 ] لما تتضمنه جملة : { يهدي من يشاء } من هداية بعض الناس وحرمان بعضهم من الهداية كما هو مقتضى : { من يشاء } . وهذا تخلص إلى ذكر بعض ممن لم يشأ الله هدايتهم وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام وهم أهل النفاق . فبعد أن ذُكرت دلائل انفراد الله تعالى بالإلهية وذكر الكفارُ الصرحاء الذين لم يهتدوا بها في قوله : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } [ النور : 39 ] الآيات تهيأ المقام لذكر صنف آخر من الكافرين الذين لم يهتدوا بآيات الله وأظهروا أنهم اهتدوا بها .
وضمير الجمع عائد إلى معروفين عند السامعين وهم المنافقون لأن ما ذكر بعده هو من أحوالهم ، وعود الضمير إلى شيء غير مذكور كثير في القرآن ، على أنهم قد تقدم ما يشير إليهم بطريق التعريض في قوله : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } [ النور : 37 ] .
وقد أشارت الآية إلى المنافقين عامة ، ثم إلى فريق منهم أظهروا عدم الرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فكلا الفريقين موسوم بالنفاق ، ولكن أحدهما استمر على النفاق والمواربة وفريقاً لم يلبثوا أن أظهروا الرجوع إلى الكفر بمعصية الرسول علناً .
ففي قوله : { يقولون } إيماء إلى أن حظهم من الإيمان مجرد القول دون الاعتقاد كما قال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخلِ الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] .
وعبر بالمضارع لإفادة تجدد ذلك منهم واستمرارهم عليه لما فيه من تكرر الكذب ونحوه من خصال النفاق التي بينتُها في سورة البقرة . ومفعول { أطعنا } محذوف دل عليه ما قبله ، أي أطعنا الله والرسول .
والإشارة في قوله : { وما أولئك } إلى ضمير { يقولون } ، أي يقولون آمنّا وهم كاذبون في قولهم . وإنما يظهر كفرهم عندما تحل بهم النوازل والخصومات فلا يطمئنون بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصح جعله إشارة إلى { فريق } من قوله : { إذا فريق منهم معرضون } لأن إعراضهم كاف في الدلالة على عدم الإيمان .