قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله } . أي في طاعة الله أعداء الله .
قوله تعالى : { واعلموا أن الله سميع عليم } . قال أكثر أهل التفسير : هذا خطاب للذين أحيوا ، أمروا بالقتال في سبيل الله فخرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا ، وقيل : الخطاب لهذه الأمة ، أمرهم بالجهاد .
ثم أمر تعالى بالقتال في سبيله ، وهو قتال الأعداء الكفار لإعلاء كلمة الله ونصر دينه ، فقال : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } أي : فأحسنوا نياتكم واقصدوا بذلك وجه الله ، واعلموا أنه لا يفيدكم القعود عن القتال شيئا ، ولو ظننتم أن في القعود حياتكم وبقاءكم ، فليس الأمر كذلك ، ولهذا ذكر القصة السابقة توطئة لهذا الأمر ، فكما لم ينفع الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت خروجهم ، بل أتاهم ما حذروا من غير أن يحتسبوا ، فاعلموا أنكم كذلك .
ثم أمر الله - تعالى - عباده بالجهاد في سبيله فقال : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
والسبيل : الطريق . وسميت المجاهدة سبيلا إلى الله لأن الإِنسان يسلكها فيصل إلى ما يرضى الله ، ويعلى كلمته .
أي ، قالتوا أيها المسلمون في سبيل إعلاء كلمة الله ، والدفاع عن دينه ، واعلمو أنه - سبحانه - عليم بكل أقوالكم صالحها وطالحها ، عليم بكل ما يدور في نفوسكم وخواطركم ، وسيجازي المحسن بإحسانه ، والمسئ بإساءته .
فالآية الكريمة تحريض للمؤمنين على القتال من أجل إظهار الدين الحق ، وتحذير لهم من القعود عنه ، وحث لهم على صدق النية وإخلاص العمل لله ، " فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله
وقوله : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : كما أن الحذر لا يغني من القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلا ولا يباعده ، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 168 ] وقال تعالى : { وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [ النساء : 77 ، 78 ] وروينا عن أمير الجيوش ومقدم العساكر وحامي حوزة الإسلام وسيف الله المسلول على أعدائه أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه ، أنه قال : - وهو في سياق الموت : لقد شهدت كذا وكذا موقفًا وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير ! ! فلا نامت أعين الجبناء{[4206]} يعني : أنه يتألم لكونه ما مات قتيلا في الحرب ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه .
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 244 )
الواو في هذه الآية عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم ، هذا قول الجمهور إن هذه الآية هي مخاطبة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله ، وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا حسب الحديث( {[2357]} ) ، وقال ابن عباس والضحاك : الأمر بالقتال هو للذين أحيوا من بني إسرائيل ، فالواو على هذا عاطفة على الأمر المتقدم ، المعنى وقال لهم قاتلوا ، قال الطبري رحمه الله : «ولا وجه لقول من قال إن الأمر بالقتال هو للذين أحيوا » ، و { سميع } معناه للأقوال ، { عليم } بالنيات .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وقاتلوا"، أيها المؤمنون "في سبيل الله": في دينه الذي هداكم له، لا في طاعة الشيطان أعداء دينكم، الصادين عن سبيل ربكم، ولا تحتموا عن قتالهم عند لقائهم، ولا تجبنوا عن حربهم، فإن بيدي حياتكم وموتكم. ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم، فيدعوه ذلك إلى التعريد عنهم والفرار منهم، فتذلوا، ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي وألتم إليه، كما أتى الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، الذين قصصت عليكم قصتهم، فلم ينجهم فرارهم منه من نزوله بهم حين جاءهم أمري، وحل بهم قضائي، ولا ضر المتخلفين وراءهم ما كانوا لم يحذروه، إذ دافعت عنهم مناياهم، وصرفتها عن حوبائهم، فقاتلوا في سبيل الله من أمرتكم بقتاله من أعدائي وأعداء ديني، فإن من حيي منكم فأنا أحييه، ومن قتل منكم فبقضائي كان قتله.
"واعلموا"، أيها المؤمنون، أن ربكم "سميع "لقول من يقول من منافقيكم لمن قتل منكم في سبيلي: لو أطاعونا فجلسوا في منازلهم ما قتلوا. "عليم "بما تجنه صدورهم من النفاق والكفر وقلة الشكر لنعمتي عليهم، وآلائي لديهم في أنفسهم وأهليهم، ولغير ذلك من أمورهم وأمور عبادي.
يقول تعالى ذكره لعباده المؤمنين: فاشكروني أنتم بطاعتي فيما أمرتكم من جهاد عدوكم في سبيلي، وغير ذلك من أمري ونهيي، إذ كفر هؤلاء نعمي. واعلموا أن الله سميع لقولهم، وعليم بهم وبغيرهم وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، محيط بذلك كله، حتى أجازي كلا بعمله، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.
ولا وجه لقول من زعم أن قوله: "وقاتلوا في سبيل الله"، أمر من الله الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال، بعد ما أحياهم. لأن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، لا يخلو- إن كان الأمر على ما تأولوه- من أحد أمور ثلاثة:
- إما أن يكون عطفا على قوله: "فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا"، وذلك من المحال أن يميتهم، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله.
- أو يكون عطفا على قوله: "ثُمَّ أَحْيَاهُمْ"، وذلك أيضا مما لا معنى له. لأن قوله: "وقاتلوا في سبيل الله"، أمر من الله بالقتال، وقوله: "ثُمَّ أَحْيَاهُمْ"، خبر عن فعل قد مضى. وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض، لو كانا جميعا خبرين، لاختلاف معنييهما. فكيف عطف الأمر على خبر ماض؟
- أو يكون معناه: ثم أحياهم وقال لهم: قاتلوا في سبيل الله، ثم أسقط" القول "وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر. فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه، فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يعني إنْ مَسَّكم ألمٌ فتصاعد منكم أنين، فاعلموا أن الله سميع لأنينكم، عليم بأحوالكم، بصير بأموركم. والآية توجِبُ تسهيل ما يقاسونه من الألم.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وقاتلوا في سبيل الله} يحرض المؤمنين على القتال {واعلموا أن الله سميع} لما يقوله المتعلل {عليم} بما يضمره فإياكم والتعلل...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قيل الخطاب مع الصحابة. والمعنى فيه: أن أولئك القوم لما هربوا من الموت لم ينفعهم الهرب حتى أدركهم الموت، فلا تقعدوا وأنتم عن القتال خوفا من الموت؛ بل جاهدوا وقاتلوا في سبيل الله.
سميت العبادات سبيلا إلى الله تعالى من حيث إن الإنسان يسلكها، ويتوصل إلى الله تعالى بها، ومعلوم أن الجهاد تقوية للدين، فكان طاعة، فلا جرم كان المجاهد مقاتلا في سبيل الله ثم قال: {واعلموا أن الله سميع عليم} أي هو يسمع كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد، وفي تنفير الغير عنه، وعليم بما في صدوركم من البواعث والأغراض وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لعاجل الدنيا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بيّن سبحانه وتعالى أن الموت لا يصون منه فرار أمر بالجهاد الذي هو المقصود الأعظم بهذه السياقات ولفت القول إلى من يحتاج إلى الأمر به وصدره بالواو فأفهم العطف على غير معطوف عليه مذكور أن التقدير: فلا تفروا من أسباب الموت بل اثبتوا في مواطن البأساء {وقاتلوا} وعبر ب"في" الظرفية إشارة إلى وجوب كونهم في القتال وإن اشتدت الأحوال مظروفين للدين مراعين له لا يخرجون عنه بوجه ما فيصدقون في الإقدام على من لج في الكفران ويسارعون إلى الإحجام عمن بدا منه الإذعان ونحو ذلك من مراعاة شرائع الإيمان، وعبر بالسبيل إشارة إلى يسر الدين ووضوحه فلا عذر في الخروج عن شيء منه بحال فقال: {في سبيل الله} أي الذي لا كفوء له كما كتبه عليكم وإن كنتم تكرهون القتال.
ولما أمرهم بعد ما حذرهم رغبهم ورهبهم بقوله: {واعلموا} منبهاً لهم لأن يلقوا أسماعهم ويحضروا أفهامهم لما يلقى عليهم {أن الله} أي الذي له القدرة الكاملة والعلم المحيط {سميع} لما تقولون إذا أمرتم بما يكره من القتال {عليم} بما تضمرون من الإعراض عنه والإقبال فهو يجازيكم على الخير قولاً وعملاً ونية، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين ضعفاً إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وعلى السيئة بمثلها إن شاء (ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49].
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
القتال في سبيل الله هو القتال لإعلاء كلمته، وتأمين دينه ونشر دعوته، والدفاع عن حزبه كي لا يغلبوا على حقهم، ولا يصدوا عن إظهار أمرهم، فهو أعم من القتال لأجل الدين، لأنه يشمل مع الدفاع عن الدين وحماية دعوته الدفاع عن الحوزة إذا هم الطامع المهاجر باغتصاب بلادنا والتمتع بخيرات أرضنا، أو أراد العدو الباغي إذلالنا، والعدوان على استقلالنا، ولو لم يكن ذلك لأجل فتنتنا في ديننا، فهذا الأمر مطلق كأنه أمر لنا بأن نتحلى بحلية الشجاعة، ونتسربل بسرابيل القوة والعزة، لتكون حقوقنا محفوظة، وحرمتنا مصونة، لا نؤخذ من جانب ديننا، ولا نغتال من جهة دنيانا، بل نبقى أعزاء الجانبين، جديرين بسعادة الدارين،
ألا ترى أن من ساق الله لنا العبرة بحالهم، وذكرنا بسنته في موتهم وحياتهم، لم يذكر أنهم قوتلوا وقتلوا لأجل الدين، فالقتال لحماية الحقيقة كالقتال لحماية الحق: كله جهاد في سبيل الله، فتفسير (الجلال) سبيل الله بإعلاء دينه تقييد لمطلق وتخصيص لقول عام من غير دليل، وقد اتفق الفقهاء على أن العدو إذا دخل دار الإسلام، يكون قتاله فرض عين...
[وإنما] ذكرنا الله تعالى بعد هذا الأمر بأنه سميع عليم لينبهنا على مراقبته فيما عسى أن نعتذر به عن أنفسنا في تقصيرها عن امتثال هذا الأمر في وقته، وأخذ الأهبة له قبل الاضطرار إليه، أمرنا أن نعلم أنه سميع لأقوال الجبناء في اعتذارهم عن أنفسهم: ماذا نعمل؟ ما في اليد حيلة، ليس لها من دون الله كاشفة، ليس لنا من الأمر شيء. لو كان لنا من الأمر شيء ما قعدنا ههنا. فهذه الألفاظ في هذا المقام منفاخ الجبن، وعلل الخوف والحزن، فهي عند أهلها تعلات وأعذار، وعند الله تعالى ذنوب وأوزار، وما كان منها حقا في نفسه فهو من الحق الذي أريد به الباطل وأن نعلم أنه عليهم بما يأتيه مرضى القلوب وضعفاء الإيمان من الحيل والمراوغة، والفرار من الاستعداد والمدافعة، فإذا علمنا هذا وحاسبنا به أنفسنا، عرفنا أن كلا من المتعذر بلسانه، والمتعلل بفعاله، مخادع لربه ولنفسه وقومه.
قال الأستاذ الإمام بعد نحو ما تقدم: وكثير من الناس يهزأ بنفسه وهو لا يدري إذ يصدق ما يعتاده من التوهم! وهذه شنشنة المخذولين الذين ضربت عليهم الذلة وخيم عليهم الشقاء، تعمل فيهم هذه الوساوس ما لا تعمل الحقائق. وقد أنذرنا الله تعالى أن نكون مثلهم بتذكيرنا بأنه سميع عليم، لا يخادع ولا يخفى عليه شيء. ونقول إن هذا التذكير كان بالأمر بالعلم لا بمجرد القول أو التسليم، فمن علم علما صحيحا أن الله سميع لما يقول عليم بما يفعل، حاسب نفسه وناقشها، ومن حاسب نفسه وناقشها تجلى له كل آن من تقصيرها ما يحمله على التشمير لتدارك ما فات، والاستعداد لما هو آت، فمن تراه مشمرا فاعلم بأنه عالم، ومن تراه مقصرا فاعلم بأنه مغرور آثم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم أمر تعالى بالقتال في سبيله، وهو قتال الأعداء الكفار لإعلاء كلمة الله ونصر دينه، فقال: {وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم} أي: فأحسنوا نياتكم واقصدوا بذلك وجه الله، واعلموا أنه لا يفيدكم القعود عن القتال شيئا، ولو ظننتم أن في القعود حياتكم وبقاءكم، فليس الأمر كذلك، ولهذا ذكر القصة السابقة توطئة لهذا الأمر، فكما لم ينفع الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت خروجهم، بل أتاهم ما حذروا من غير أن يحتسبوا، فاعلموا أنكم كذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هنا ندرك طرفا من هدف تلك الحادثة ومغزاها؛ وندرك طرفا من حكمة الله في سوق هذه التجربة للجماعة المسلمة في جيلها الأول وفي أجيالها جميعا.. ألا يقعدن بكم حب الحياة، وحذر الموت، عن الجهاد في سبيل الله. فالموت والحياة بيد الله. قاتلوا في سبيل الله لا في سبيل غاية أخرى. وتحت راية الله لا تحت راية أخرى.. قاتلوا في سبيل الله: {واعلموا أن الله سميع عليم}.. يسمع ويعلم.. يسمع القول ويعلم ما وراءه. أو يسمع فيستجيب ويعلم ما يصلح الحياة والقلوب. قاتلوا في سبيل الله وليس هناك عمل ضائع عند الله، واهب الحياة وآخذ الحياة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{واعلموا أن الله سميع عليم} حث على القتال وتحذير من تركه بتذكيرهم بإحاطة علم الله تعالى بجميع المعلومات: ظاهرها وباطنها. وقدِّم وصف سميع، وهو أخص من عليم، اهتماماً به هنا؛ لأن معظم أحوال القتال في سبيل الله من الأمور المسموعة، مثل جلبة الجيش وقعقعة السلاح وصهيل الخيل. ثم ذكر وصف عليم لأنه يعم العلم بجميع المعلومات، وفيها ما هو من حديث النفس مثل خلُق الخوف، وتسويل النفس القعودَ عن القتال، وفي هذا تعريض بالوعد والوعيد.
وافتتاح الجملة بقوله: {واعلموا} للتنبيه على ما تحتوي عليه من معنى صريح وتعريض...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه الآية الكريمة استئناف مترتب فيه الأمر الملزم بالقتال على القصة المشار إليها آنفا، فإنه إذا كان الخروج من الديار حذر الموت يؤدي لا محالة إلى الموت، فإنه من الواجب القتال في سبيل الله تعالى ورد الاعتداء، وإذا كان الموت في القتال محتملا أو راجحا، فالموت في الفرار والخروج من الديار حذر الموت لا محالة، ولو خير العاقل بين موت احتمالي وفيه الفخار، وموت مؤكد وفيه العار، لاختار بلا ريب القتال.
وإن القتال في سبيل الله هو الحياة الكاملة، فإن قتل في ذلك فقد رزق الشهادة، وهي رزق يتنافس فيه المؤمنون، ويطلبه المتقون، وسبيل الله هي سبيل الحق، فكل قتال لأجل الدين والدفاع عنه فهو قتال في سبيل الله، وكل قتال في سبيل الجماعة هو قتال في سبيل الله مادام القتال عادلا، وقتال المرء دون عرضه هو قتال في سبيل الله، وقتاله دون ماله هو في سبيل الله سبحانه، فكل قتال لدفع الظلم وإعلاء منار الحق هو من القتال في سبيل الله سبحانه، و الخطاب في الآية الكريمة: {وقاتلوا في سبيل الله} للمسلمين أجمعين في كل الأجيال وفي كل العصور، ولم يقل في هذه الآية كما قال في غيرها: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا...190} (البقرة) مع أن أصل القتال في الإسلام لدفع الاعتداء فقط، لم يقل سبحانه وتعالى ذلك إلا للإشارة إلى أمرين:
أولهما: وجوب الاستعداد الدائم للقتال فإن حب الغلب في فطرة الإنسان، وتوقع الاعتداء مع ذلك أمر لابد منه كما قال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم...60]} (الأنفال) ولا شيء يمنع الاعتداء أكثر من الاستعداد لدفع الاعتداء، فلو كان للحمل ناب ما عدت عليه الذئاب، ولو كان للظبي ظفر وناب ما افترسته أوابد الوحوش.
ثانيهما: القتال في سبيل نصرة الحق ودفع الظلم ومعاونة المظلومين ضد الظالمين، وذلك حق على كل مسلم وإن لم يكن الاعتداء واقعا عليه، فالقتال لدفع الظلم وإقامة الحق قتالا عادلا وهو قتال في سبيل الله سبحانه، ولو لم يقع الاعتداء على شخص القاتل؛ لأن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران 110). ولقد بارك النبي صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وقد كان عهدا بين المتحالفين أن ينصروا المظلوم على الظالم.
و لقد عطف الله سبحانه وتعالى على الأمر بالقتال قوله تعالى: {واعلموا أن الله سميع عليم} فهو أمر منه سبحانه بأن يتذكروا دائما أن الله سبحانه وتعالى سميع لكل أقوالهم التي ينطقون بها سواء أكانت تلك الأقوال تدل على رغبة في الجهاد وطلب للاستشهاد، أم كانت هذه الأقوال مخذلة معيقة للمجاهدين الأبرار من مثل قول: {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا} (آل عمران 154) ومثل قول: {ليس لك من الأمر شيء} (آل عمران 128) وإنه سيجازى كل واحد بقوله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
و كما أمرنا أن نتذكر دائما أنه سميع لنشعر برقابته على أقوالنا، أمرنا بأن نتذكر بأنه عليم بخواطرنا وبالدوافع التي تدفعنا إلى القتال، فهو يعلم الوساوس التي تلقي في النفس ضعفا يظهر على الشفاه، وتعلنه الأفعال، ويعلم البواعث التي تدفع إلى القتال أهي فخار ورغبة في دنيا يصيبها، أم لتكون كلمة الله هي العليا،
ولرفع منار الحق، وخفض الباطل. فإن كانت الأولى فقد ذهب ثوابه بما أصاب من دنيا قصدها، وإن كانت الثانية فكل خطوة خطاها لها ثوابها، وكل مقام شهده له أجره، وإن ظفر بالشهادة فقد ظفر بغاية الغايات للمؤمن الصبور التقي الطاهر.
والله سبحانه عليم بحال المقاتلين: اندفعوا في قتالهم إلى الاعتداء، أم ساروا على الطريق المستقيم، فلا اعتداء في قتال، فلم يقتلوا غير مقاتل، ولم يقاتلوا من لا يقاتل. هذا هو الجهاد في الإسلام: دفاعا عن الذمار، و طلبا للحياة الكريمة في الوغى حيث يحمى الوطيس، ويكون الموت قد فغر فاه، وحيث المنايا تعددت طرائقها. وإن المجاهد في الإسلام إنما يخط بسيفه نور الحق في وسط ظلمات الباطل، وإن الجهاد لسبيل لإعلاء كلمة الله، حيث يشتد الظلم، ويستغلظ الظالمون، ويريدون أن يلتهموا الأمم والجماعات، ويبيدوا خضراءها، فعندئذ يكون القتال في الإسلام، ومن يفر منه حذر الموت فإنما يفر من العزة إلى الذلة، ومن الحياة الكريمة إلى الموت، ولذلك قال علي بن أبي طالب: (الجهاد باب من أبواب الجنة). وعند الله النصر المبين.
وبعد الحديث عن محاولة هرب بعض من بني إسرائيل من قدر الله فأجرى عليهم الموت تسخيراً وأعادهم إلى الحياة تسخيرا، وهذا درس واضح للمؤمنين الذين سيأتي إليهم الأمر بالقتال في سبيل الله. فلا تبالوا أيها المؤمنون إن كان القتال يجلب لكم الموت؛ لأن الموت يأتي في أي وقت. ذلك يقول الحق: {وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم 244} إنه الأمر الواضح بالقتال في سبيل الله دون مخافة للموت. لماذا؟ لأن واهب الحياة وكاتب الأجل سميع عليم، سميع بأقوال من يقاتل وعليم بنواياه. وكان الجهاد قديما عبئا ثقيلا على المجاهد؛ لأنه كان يتحمل نفقة نفسه ويتحمل المركبة حصانا أو جملا ويتحمل سلاحه، كان كل مجاهد يُعدّ عدته للحرب، فكان ولابد إذا سمح لنفسه أن تموت فمن باب أولى أن يسمح بماله، وأن يجهز عدته للحرب، وعلى ذلك كان القتال بالنفس والمال أمراً ضروريا. وقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله} أي قاتلوا بأنفسكم ثم عرج إلى الأموال فقال: {من ذا الذي يُقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصُط وإليه ترجعون 245}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا نداء للمؤمنين، بالاندفاع في مواجهة الموت، وعدم الخوف منه بالتراجع عن المسؤوليات الجهادية التي تفرض عليهم القتال في سبيل اللّه، فإنَّ ذلك هو ما يحقّق لهم سبيل الحياة القويمة الحرة الكريمة. فإننا نستوحي، من ذكر هذه الآية، بعد القصة المتقدّمة التي خرج أشخاصها من ديارهم حذر الموت فماتوا ثُمَّ أحياهم اللّه، أنَّ الأمّة التي تفر من الموت لتفرض على نفسها الهزيمة لا تستطيع تفادي الموت، وأنَّ الأمّة التي تموت في خطّ العزّة والجهاد قد يعيدها ذلك إلى الحياة. وهو إعلان لهم بأنَّ اللّه يسمع كلّ ما يفيضون به من حديث في ما يتحرّكون فيه من الإقبال على الجهاد أو الإدبار عنه، ويعلم كلّ ما يضمرونه وما يعملونه من طاعة ومعصية. وفي هذا التأكيد على هاتين الصفتين من صفات اللّه، إيحاءٌ بالرقابة الشاملة للّه على الإنسان في كلّ ما يضمره أو يقوله وما يفعله، ليتعمق في داخله الشعور بالانضباط الواعي أمام مسؤولياته...