{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : ليس لهم إيمان تام ، ولا يقين صادق ، فلذلك قلَّتْ رغبتهم في الخير ، وجبنوا عن القتال ، واحتاجوا أن يستأذنوا في ترك القتال . { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي : لا يزالون في الشك والحيرة .
ثم بين سبحانه - الصفات التي يعرف بها المنافقون ، بعد بيانه للصفات التي يعرف بها المؤمنون الصادقون فقال : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وارتابت قُلُوبُهُمْ } .
أى : إنما يستأذنك - يا محمد - في القعود عن الجهاد أولئك الذين من صفاتهم أنهم لا يؤمنون بالله إيمانا كاملا ، ولا يؤمنون باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب إيمانا يقينيا .
قال الآلوسى : وتخصيص الإِيمان بها - أى بالله واليوم الآخر - في الموضعين للإِيذان بأن الباعث على الجهاد والمانع عنه الإِيمان بهما وعدم الإِيمان بهما ، فمن آمن بهما قاتل في سبيل دينه ، وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر من النعيم المقيم ، ومن لم يؤمن كان بمعزل عن ذلك .
على أن الإِيمان بهما مستلزم للإِيمان بسائر ما يجب الإِيمان به .
وقوله : { وارتابت قُلُوبُهُمْ } ثالثة من صفاتهم الذميمة .
أى : أنهم بجانب عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر ، رسخ الريب في قلوبهم فصاروا يشكون في صحة ما جئت به - أيها الرسول الكريم - ، ويقفون من تعاليمك وتوجيهاتك ، موقف المكذب المرتاب لا موقف المصدق المذعن .
وأضاف الشك والارتياب إلى القلوب ، لأنها محل المعرفة والإِيمان . وأوثرت صيغة الماضى - ارتابت ، للدلالة على تحقق الريب وتوبيخهم . وأصل معنى التردد : الذهاب والمجئ . والمراد به هنا لتحير على سبيل المجاز ، لأن المتحير لا يستقر في مكان ، ولا يثبت على حال .
أى : فهم في شكهم الذي حل بهم يتحيرون ، فنراهم كما وصفهم - سبحانه - في آية أخرى . { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } أى : متحيرين بين الكفر وبين الإِيمان .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد ذكرتا السمات التي بها يتميز المؤمنون الصادقون عن غيرهم من الذين قالوا آمنا وما هم بمؤمنين .
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } أي : في القعود ممن لا عذر له { الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : لا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم ، { وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : شكت في صحة ما جئتهم به ، { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي : يتحيرون ، يُقَدِّمُون رجلا ويؤخرون أخرى ، وليست لهم قدم ثابتة في شيء ، فهم قوم حيارى هَلْكى ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا .
هذه الآية تنص على أن المسأذنين إنما هم مخلصون للنفاق ، { وارتابت قلوبهم } معناه شكّت ، والريب نحو الشك ، { يترددون } أي يتحيرون لا يتجه لهم هدى ، ومن هذه الآية نزع أهل الكلام في حد الشك أنه تردد بين أمرين ، والصواب في حده أنه توقف بين أمرين ، والتردد في الآية إنما هو في ريب هؤلاء المنافقين إذ كانوا تخطر لهم صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً ، وأنه غير صحيح أحياناً ، ولم يكونوا شاكين طالبين للحق لأنه كان يتضح لهم لو طلبوه ، بل كانوا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كالشاة الحائرة بين الغنمين{[5672]} ، وأيضاً فبين الشك والريب فرق ما ، وحقيقة الريب إنما هو الأمر يستريب به الناظر فيخلط عليه عقيدته فربما أدى إلى شك وحيرة وربما أدى إلى علم ما في النازلة التي هو فيها ، ألا ترى أن قول الهذلي :
كأني أريته بريب{[5673]}
لا يتجه أن يفسر بشك قال الطبري : وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية التي ذكرنا في سورة النور ، وأسند عن الحسن وعكرمة أنهما قالا في قول { لا يستأذنك الذين يؤمنون } [ التوبة : 44 ] إلى قوله { فهم في ريبهم يترددون } نسختها الآية التي في النور ، { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } [ الآية : 62 ] إلى { إن الله غفور رحيم } [ النور : 62 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر المنافقين، فقال: {إنما يستأذنك} في الجهاد وبعد الشقة، {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر}، لا يصدقون بالله، ولا باليوم الآخر، يعني لا يصدقون بالله ولا بتوحيده، ولا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، {وارتابت}، يعني شكت {قلوبهم} في الدين، {فهم في ريبهم}، يعني في شكهم، {يترددون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنما يستأذنك يا محمد في التخلف خلافك، وترك الجهاد معك من غير عذر بين الذين لا يصدّقون بالله، ولا يقرّون بتوحيده. "وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ "يقول: وشكت قلوبهم في حقيقة وحدانية الله، وفي ثواب أهل طاعته، وعقابه أهل معاصيه. "فَهُمْ فِي رَيْبهْمِ يَتردّدوَن" يقول: في شكهم متحيرون، وفي ظلمة الحيرة مترددون، لا يعرفون حقّا من باطل، فيعملون على بصيرة. وهذه صفة المنافقين...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ رام عن عهدة الإلزام خروجاً، انتهز للتأخير والتخلُّف فرصةً لِعَدمِ إيمانه وتصديقه، ولاستمكان الريبة في قلبه وسِرِّه. أولئك الذين يتقلبون في ريبهم، ويترددون في شكِّهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} يعني المنافقين، وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً {يَتَرَدَّدُونَ} عبارة عن التحير، لأنّ التردد ديدن المتحير، كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية تنص على أن المسأذنين إنما هم مخلصون للنفاق، {وارتابت قلوبهم} معناه شكّت، والريب نحو الشك، {يترددون} أي يتحيرون لا يتجه لهم هدى، ومن هذه الآية نزع أهل الكلام في حد الشك أنه تردد بين أمرين، والصواب في حده أنه توقف بين أمرين، والتردد في الآية إنما هو في ريب هؤلاء المنافقين إذ كانوا تخطر لهم صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً، وأنه غير صحيح أحياناً، ولم يكونوا شاكين طالبين للحق لأنه كان يتضح لهم لو طلبوه، بل كانوا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كالشاة الحائرة بين الغنمين، وأيضاً فبين الشك والريب فرق ما، وحقيقة الريب إنما هو الأمر يستريب به الناظر فيخلط عليه عقيدته فربما أدى إلى شك وحيرة وربما أدى إلى علم ما في النازلة التي هو فيها، ألا ترى أن قول الهذلي: كأني أريته بريب، لا يتجه أن يفسر بشك...
المسألة الأولى: بين أن هذا الانتقال لا يصدر إلا عند عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم لما كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشك فيه، وقد يكون بسبب الجزم والقطع بعدمه، بين تعالى أن عدم إيمان هؤلاء إنما كان بسبب الشك والريب، وهذا يدل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن بالله.
المسألة الثالثة: قوله: {وارتابت قلوبهم} يدل على أن محل الريب هو القلب فقط، ومتى كان محل الريب هو القلب كان محل المعرفة، والإيمان أيضا هو القلب، لأن محل أحد الضدين يجب أن يكون هو محلا للضد الآخر، ولهذا السبب قال تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} وإذا كان محل المعرفة والكفر القلب، كان المثاب والمعاقب في الحقيقة هو القلب والبواقي تكون تبعا له...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر بالمتقين، عرف بغيرهم على وجه الحصر تأكيداً لتحقيق صفة العلم بما أخبر به سبحانه، فصار الاستئذان منفياً عن المؤمنين مرتين، فثبت للمنافقين على أبلغ وجه {إنما يستأذنك} أي في مثل ذلك فكيف بالاستئذان في التخلف! {الذين لا يؤمنون} أي لا يتجدد لهم إيمان {بالله} أي الملك الأعلى الذي له نهاية العظمة إيماناً مستجمعاً للشرائط {واليوم الآخر} لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً وإن ادعوا ذلك بألسنتهم. ولما كانت [هذه] صفة المصارحين بالكفر، بين أن المراد المنافقون بقوله: {وارتابت قلوبهم} أي تابعت الوساوس وتعمدت المشي معها حتى تخلقت بالشك؛ ولما كان الشاك لا يزال يتجاذبه حسن الفطرة وسوء الوسوسة، قال: {فهم} أي فتسبب عن ذلك أنهم {في ريبهم يترددون} أي بين النفي والإثبات دأب المتحير لا يجزمون بشيء منهما وإن صدقوا أن الله موجود فإن المشركين يصدقون بذلك ولكنه لا ينفعهم للإخلال بشرطه، وليس استئذانهم في أن يجاهدوا لإرادة الجهاد بل توطئة لأن يقولوا إذا أمرتهم به: إنه لا عدة لنا في هذا الوقت فائذن لنا في التخلف حتى نستعد! وقد كذبوا، ما ذلك بهم، إنما بهم أنهم لا يريدون الخروج معك...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} أي في التخلف مطلقاً على الأول أو لكراهة الجهادِ على الثاني {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} تخصيصُ الإيمان بهما في الموضعين للإيذان بأن الباعثَ على الجهاد ببذل النفسِ والمالِ إنما هو الإيمانُ بهما إذ به يتسنى للمؤمنين استبدالُ الحياةِ الأبدية والنعيمِ المقيمِ الخالدِ بالحياة الفانية والمتاعِ الكاسد {وارتابت قُلُوبُهُمْ} عطفٌ على الصلة، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدِلالة على تحقق الريب وتقرُّره {فَهُمُ} حالَ كونهم {في رَيْبِهِمْ} وشكِّهم المستقرِّ في قلوبهم {يَتَرَدَّدُونَ} أي يتحيرون فإن الترددَ ديدنُ المتحيَّرِ كما أن الثباتَ ديدنُ المستبصِر، والتعبيرُ عنه به مما لا يخفى حسنُ موقعِه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} هذا تصريح بمفهوم ما سبق لزيادة تأكيده وتقريره، وجاء الحصر فيه بإنما التي موضعها ما هو معلوم بالجملة، لأن المعنى قد علم من مفهوم الحصر بالنفي والإثبات الذي قبله. والمعنى إنما يستأذنك في التخلف عن الجهاد الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؛ لأنهم يرون بذل المال للجهاد مغرما يفوت عليهم بعض منافعهم به، ولا يرجون عليه ثوابا كما يرجو المؤمنون، ويرون الجهاد بالنفس آلاما ومتاعب وتعرضا للقتل الذي ليس بعده حياة عندهم، فطبيعة كفرهم بالله واليوم الآخر تقتضي كراهتهم للجهاد، وفرارهم منه ما وجدوا له سبيلا. بضد ما يقتضيه إيمان المؤمنين كما تقدم. {وارتابت قلوبهم} أي وقد وقع لهم الريب والشك في الدين من قبل، فلم تطمئن به قلوبهم، ولم تذعن له نفوسهم، وإنما الإيمان هو اليقين المقارن للإذعان وخضوع النفس. {فهم في ريبهم يترددون} متحيرين في أمرهم، مذبذبين في عملهم، يحسبون كل صيحة عليهم، فهم يوافقون المؤمنين فيما يسهل أداؤه من عبادات الإسلام، فإذا عرض لهم ما يشق عليهم فعله ضاقت به صدورهم، والتمسوا التفصي منه بما استطاعوا من الحيل والمعاذير الكاذبة، حتى إنه كان يشق عليهم حضور صلاة الفجر والعشاء كما ورد في الصحيح. وسيأتي في بيان فضائحهم {لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمعون} [التوبة: 57]، وقد ورد في بعض الروايات أن عدد هؤلاء المنافقين كان تسعة وثلاثين رجلا، ولعل المراد المستأذنون أو المتخلفون منهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنما يستأذن أولئك الذين خلت قلوبهم من اليقين فهم يتلكؤون ويتلمسون المعاذير، لعل عائقاً من العوائق يحول بينهم وبين النهوض بتكاليف العقيدة التي يتظاهرون بها، وهم يرتابون فيها ويترددون. إن الطريق إلى اللّه واضحة مستقيمة، فما يتردد ويتلكأ إلا الذي لا يعرف الطريق، أو الذي يعرفها ويتنكبها اتقاء لمتاعب الطريق!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وأفادت {إنما} القصر. ولمّا كان القصر يفيد مُفاد خبرين بإثبات شيء ونفي ضدّه كانت صيغة القصر هنا دالّة باعتبار أحدِ مُفَادَيها على تأكيد جملة {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 44] وقد كانت مغنية عن الجملة المؤكّدة لولا أنّ المراد من تقديم تلك الجملة التنويه بفضيلة المؤمنين، فالكلام إطناب لقصد التنويه، والتنويه من مقامات الإطناب.
وحُذف متعلِّق {يستأذنك} هنا لظهوره ممّا قبله ممّا يؤذِن به فعل الاستئذان في قوله: {لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا} [التوبة: 44] والتقدير: إنّما يستأذنك الذين لا يؤمنون في أن لا يجاهدوا، ولذلك حذف متعلّق يستأذنك هنا.
والسامع البليغ يقدر لكلّ كلام ما يناسب إرادة المتكلّم البليغ، وكلّ على منواله ينسج.
وعَطف {وارتابت قلوبهم} على الصلة وهي {لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} يدل على أنّ المراد بالارتياب الارتياب في ظهور أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلأجل ذلك الارتياب كانوا ذوي وجهين معه فأظهروا الإسلام لئلا يفوتهم ما يحصل للمسلمين من العز والنفع، على تقدير ظهور أمر الإسلام، وأبطنوا الكفر حفاظاً على دينهم الفاسد وعلى صلتهم بأهل ملّتهم، كما قال الله تعالى فيهم: {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين} [النساء: 141].
ولعلّ أعظم ارتيابهم كان في عاقبة غزوة تبوك لأنّهم لكفرهم ما كانوا يقدّرون أنّ المسلمين يغلبون الروم، هذا هو الوجه في تفسير قوله: {وارتابت قلوبهم} كما آذن به قوله: {فهم في ريبهم يترددون}.
وجيء في قوله: {لا يؤمنون} بصيغة المضارع للدلالة على تجدّد نفي إيمانهم، وفي {وارتابت قلوبهم} بصيغة الماضي للدلالة على قدم ذلك الارتياب ورسوخه فلذلك كان أثره استمرار انتفاء إيمانهم، ولما كان الارتياب ملازماً لانتفاء الإيمان كان في الكلام شبه الاحتباك إذ يَصير بمنزلة أن يقال: الذين لم يؤمنوا ولا يؤمنون وارتابت وترتاب قلوبهم.
وفرّع قوله: {فهم في ريبهم يترددون} على {وارتابت قلوبهم} تفريع المسبب على السبب: لأنّ الارتياب هو الشكّ في الأمر بسبب التردّد في تحصيله، فلتردّدهم لم يصارحوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعصيان لاستنفاره، ولم يمتثلوا له فسلكوا مسلكاً يصلح للأمرين، وهو مسلك الاستئذان في القعود، فالاستئذان مسبّب على التردّد، والتّردد مسبّب على الارتياب وقد دلّ هذا على أنّ المقصود من صلة الموصول في قوله: {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر}.
هو قوله: {وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}. لأنّه المنتج لانحصار الاستئذان فيهم.
و {في ريبهم} ظرف مستقِرّ، خبر عن ضمير الجماعة، والظرفية مجازية مفيدة إحاطة الريب بهم، أي تمكّنه من نفوسهم، وليس قوله: {في ريبهم} متعلّقاً ب {يترددون}.
والتردّد حقيقته ذهابٌ ورجوع متكرر إلى محلّ واحد، وهو هنا تمثيل لحال المتحيّر بين الفعل وعدمه بحال الماشي والراجععِ. وقريب منه قولهم: يُقدّم رِجْلاً ويؤخر أخرى.
والمعنى: أنّهم لم يعزموا على الخروج إلى الغزو. وفي هذه الآية تصريح للمنافقين بأنّهم كافرون، وأنّ الله أطْلع رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على كفرهم، لأنّ أمر استئذانهم في التخلّف قد عرفه الناس.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قصر الله سبحانه وتعالى من يستأذنون في القعود على الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فلا يستأذنك في القعود مؤمن بالله واليوم الآخر، وأفاد القصر ب (إنما) لأنها من أدواته. ذلك لأن المنافق لا يؤمن بالله تعالى، فلا يطيع أوامره ونواهيه، ولا يذعن لما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن ربه، وإن نطق لسانه بكلمات الإسلام والطاعة والخضوع ظاهرا لا يطيع قلبه، وقد ذكر الله تعالى فيهم أقوالا ثلاثة كلها تقعد بهم عن الجهاد، بل واحدة منها:
أولها: أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فعدم إيمانهم بالله يجعلهم لا يذعنون، ولا يجيبون ما فرض عليهم من جهاد، ولا يؤمنون بما فيه من عزة وكرامة، وفوق ذلك لا يريدون العزة للمؤمنين ولا يبتغونها لهم، ويريدون الذلة لهم، وعدم إيمانهم باليوم الآخر، يجعلهم يعتقدون أنه لا تعويض لهم، وأن الدنيا وحدها هي الحياة، ويقولن إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين.
ثانيها: حال الريب، فهم في ريب دائم، والريب لا يوجد معه إيمان بشيء، فأول ما يصاب المنافق يصاب في نفسه، إذ يكون في بلبال مستمر، واضطراب فكري دائم لا يستقر معه على حال، ولا يستطيعون عملا.
ثالثها: أنهم في تردد دائم نتيجة لريبهم.
ثم ينزل الله حكمه في هؤلاء فيقول: {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}. وهكذا أصدر الله حكمه فيمن أقدموا على الاستئذان، فما دام الإنسان قد تردد بين أن يخرج للجهاد أو لا يخرج، فهذا يكشف عن اهتزاز إيمانه، وهذا الاهتزاز يعني وجود شك في نفسه، فيما أعد الله له في الآخرة؛ لأنه لو كان واثقا في داخله يقينا أنه سيدخل الجنة بلا حساب إن استشهد، ما تردد ثانية واحدة، ولا أدار الأمر في رأسه هل يذهب أو لا يذهب؟ فما دامت الجنة هي الغاية، فأيّ طريق موصل إليها يكون هو الطريق الذي يتبعه من في قلبه يقين الإيمان، وكلما كان الطريق أقصر كان ذلك أدعى على فرح الإنسان المؤمن؛ لأنه يريد أن ينتقل من شقاء الدنيا إلى نعيم الآخرة، حتى ولو كان يحيا في نعيم في الدنيا، فهو يعرف أنه نعيم زائل وهو لا يريد هذا النعيم الزائل، بل يريد النعيم الباقي الذي لا يزول. والتردد والاستئذان هنا معناهما: أن الشك قد دخل في قلب الإنسان، ومعنى الشك-كما نعلم- هو وجود أمرين متساويين في نفسك لا يرجح أحدهما حتى تتبعه. والنسب الكلامية والقضايا العقلية تدور بين أشياء متعددة، فأنت حين تجزم بحكم فلا بد أن يكون له واقع يؤيده؛ لأنك إن جزمت بشيء لا واقع له فهذا جهل، والجهل-كما نعلم- أن تعتقد أن شيئا ما هو حقيقة، وهو غير ذلك ولا واقع له...
الحق سبحانه وتعالى يقول: {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر} ولو استقر في قلوبهم الإيمان اليقيني بالله وباليوم الآخر، وأن مردهم إلى الله سبحانه وتعالى، وأنهم سوف يحاسبون على ما قدموا، واعتبروا أن تضحيتهم بالمال والنفس عمل قليل بالنسبة للجزاء الكبير الذي ينتظرهم في الآخرة، لو كان الأمر كذلك لما استأذنوا، ولكن ما دام الشك قد دخل قلوبهم فمعنى هذا أن هناك ريبة في أمر ملاقاة الله في اليوم الآخر. وهل هذا الأمر حقيقة يقينية؟ ولأنهم يرتابون في هذه المسألة فهل يضحون بأموالهم وأنفسهم من أجل لا شيء، ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى: {وارتابت قلوبهم}. إذن: فالارتياب محله القلب، والعلم أيضا محله القلب، ويمر كل من الارتياب والعلم على العقل؛ لأن العقل هو الذي يصفّى مثل تلك المسائل بعد أن يستقبل المحسّات ويناقش المقدمات والنتائج، فإن صفّى العقل هذه الأمور واستقر على الإيمان، هنا يصبح الإيمان قضية يقينية ثابتة مستقرة في القلب، ولا تطفو مرة أخرى إلى العقل لتناقش من جديد، ولذلك سمّوها عقيدة، أي عقدت الشيء حتى يستقر في مكانه ولا يتزحزح. إن الطفل-مثلا- إن قرّب يده إلى شيء مشتعل فأحس بلسعة النار. هنا يعرف أن النار محرقة ولا يحاول تكرار نفس التجربة، ولا يناقشها في عقله ليقول: لن تلسعني النار في هذه المرة، بل تستقر في ذهنه المسألة، وتنتقل من قضية حسية إلى قضية عقدية لا تخضع للتجربة من جديد ولا يحتاج فيها إلى دليل. وهنا يقول الحق سبحانه: {وارتابت قلوبهم}، وفي آية أخرى يقول سبحانه: {ختم الله على قلوبهم} والقلب هو محل القضايا التي انتهت من مرحلة التفكير العقلي، وصارت قضايا ثابتة لا يبحثها العقل من جديد. وقوله هنا {وارتابت قلوبهم} معناه: أن الإيمان عندهم لم يصل إلى المرتبة التي لا يطفوا فيها مرة أخرى للتفكير العقلي.. أيؤمن أو لا؟، أي: لم يصل إلى مرتبة اليقين، بل مازال في مرحلة الشك الذي يعيد القضايا من القلب إلى العقل لمناقشتها من جديد، ولذلك يصفهم الحق سبحانه وصفا دقيقا فيقول: {فهم في ريبهم يترددون} أي: أن الإيمان عندهم يتردد بين العقل والقلب، فينزل إلى القلب ثم يطفو إلى العقل ليناقش من جديد، ثم ينزل إلى القلب مرة أخرى، وهكذا يتردد الأمر بين العقل والقلب، ولا يستقر في مكان، وهم بذلك على غير يقين من الآخرة، وما أعد الله لهم فيها من جزاء. ويشكّون في لقاء الله في اليوم الآخر. ويريد الله سبحانه وتعالى أن يوضح لنا الصورة أكثر فيقول: {ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (46)...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَارْتَابَتْ}: توهمت {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر} من هؤلاء الذين ساروا معك من مواقع المصلحة الشخصية، في ما تمثله من الرغبة والرهبة، بعيداً عن المسؤوليّة المنطلقة من واقع الإيمان، فهم لا يملكون وضوح الرؤية للخطّ الذي يربط مسألة الجهاد بالله، وحركة الإيمان في الوجدان، بحركة الإنسان في الحياة، ولهذا كانوا يعيشون القلق مع كل دعوةٍ للخير، والحيرة مع كل انطلاقةٍ للجهاد.. {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} ففقدت صفاء المشاعر وصدق النوايا، فعاشوا في داخلها ظلام الشك، وضباب الريبة {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} فلا يسكنون إلى قاعدةٍ، ولا يستريحون إلى حقيقة، بل هو الشك والحيرة والقلق والضياع...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يضيف القرآن: (إنّما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر). ويعقّب مؤكّداً عدم إيمانهم بالقول: (وارتابت قلوبُهم فهم في ريبهم يترددون). وبالرّغم من أنّ الصفات الواردة في الآيات آنفاً جاءت بصيغة الفعل المضارع، إلاّ أنّ المراد منها بيان صفات المؤمنين وصفات المنافقين وأحوالهم، ولا فرق بين الماضي والحال والاستقبال في ذلك. وعلى كل حال فإن المؤمنين بسبب إيمانهم لديهم إرادة ثابتة وتصميم أكيد لا يقبل التهاون والرجوع حيث يرون طريقهم بجلاء ووضوح، فمقصدهم معلوم وهدفهم واضح، ولذلك فهم يمضون بخطى واثقة نحو الأمام ولا يترددون أبداً. أمّا المنافقون فلأن هدفهم مظلم وغير معلوم، فهم مترددون حائرون ذاهلون، ويبحثون دائماً عن الأعذار والحجج الواهية للتخلص والفرار من تحمل المسؤولية الملقاة على عواتقهم. وهاتان العلامتان لا تختصان بالمؤمنين والمنافقين في صدر الإسلام ومعركة تبوك فحسب، بل يمكن في عصرنا الحاضر أن نميز المؤمنين الصادقين من المدَّعين الكاذبين بهاتين الصفتين. فالمؤمن شجاع ذو إِرادة وتصميم وخطى واثقة، والمنافق جبان وخائف ومتردد وحائر ويبحث عن المعاذير دائماً...