ثم وصف - سبحانه - هذه الريح التى توهموا أنها تحمل لهم الخير ، بينما هى تحمل لهم الهلاك ، وصفها بقوله : { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ } أى : ما تترك من شىء مرت عليه .
{ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } أى : إلا جعلته كالشىء الميت الذى رم وتحول إلى فتات مأخوذ من رم الشىء إذا تفتت وتهشم . ويقال للنبات إذا يبس وتفتت : رميم وهشيم .
كما يقال للعظم إذا تكسر وبَلِىَ : رميم . ومنه قوله - تعالى - : { قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ }
{ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ }أي : مما تفسده الريح { إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } أي : كالشيء الهالك البالي .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله بن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، حدثني عبد الله - يعني : ابن عياش {[27450]} - القتباني ، حدثني عبد الله بن سليمان ، عن دراج ، عن عيسى بن هلال الصَّدَفِي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الريح مسخرة من الثانية - يعني من الأرض الثانية - فلما أراد الله أن يهلك عادًا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا ، قال : أي رَبَ ، أرسل عليهم [ من ] {[27451]} الريح قدر منخر الثور ؟ قال له الجبار : لا إذًا تكفأ الأرض ومن عليها ، ولكن أرسل [ عليهم ] {[27452]} بقدر خاتم . فهي التي يقول{[27453]} الله في كتابه : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ }
هذا الحديث رفعه منكر {[27454]} ، والأقرب أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو ، من زاملتيه اللتين{[27455]} أصابهما يوم اليرموك ، والله أعلم .
قال سعيد بن المسيب وغيره في قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } قالوا : هي الجنوب . وقد ثبت في الصحيح من رواية شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدبور " {[27456]} .
وقوله : ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أتَتْ عَلَيْهِ إلاّ جَعَلَتْهُ كالرّمِيمِ والرميم في كلام العرب : ما يبس من نبات الأرض وديس . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك ، وإن اختلفت ألفاظهم بالعبارة عنه :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أتَتْ عَلَيْهِ إلاّ جَعَلَتْهُ كالرّمِيمِ قال : كالشيء الهالك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : كالرّمِيمِ قال : كالشيء الهالك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة كالرّمِيمِ : رميم الشجر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : إلاّ جَعَلَتْهُ كالرّمِيمِ قال : كرميم الشجر .
و : { تذر } معناه : تدع . وقوله تعالى : { من شيء أتت عليه } يعني مما أذن لها في إهلاكه . و : { الرميم } الفاني المتقطع يبساً أو قدماً من الأشجار والورق والحبال والعظام ، ومنه قوله تعالى { من يحيي العظام وهي رميم }{[10614]} [ يس : 78 ] أي في قوام الرمال وروي أن تلك الريح كانت تهب على الناس فيهم العادي وغيره ، فتنتزع العادي من بين الناس وتذهب به{[10615]} .
وجملة { ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } صفة ثانية ، أو حال ، فهو ارتقاء في مضرة هذا الريح فإنه لا ينفع وأنه يضر أضراراً عظيمة .
وصيغ { تذر } : بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة . و { شيء } في معنى المفعول ل { تذر } فإن ( مِن ) لتأكيد النفي والنكرة المجرورة ب ( من ) هذه نص في نفي الجنس ولذلك كانت عامة ، إلا أن هذا العموم مخصص بدليل العقل لأن الريح إنما تُبلي الأشياء التي تمر عليها إذا كان شأنها أن يتطرق إليها البِلى ، فإن الريح لا تُبلي الجبال ولا البحار ولا الأودية وهي تمر عليها وإنما تُبلي الديار والأشجار والناس والبهائم ، ومثله قوله تعالى : { تدمر كل شيء بأمر ربها } [ الأحقاف : 25 ] .
وجملة { جعلته كالرميم } في موضع الحال من ضمير { الريح } مستثناة من عموم أحوال { شيء } يبين المعرف ، أي ما تذر من شيء أتت عليه في حال من أحوال تدميرها إلا في حال قد جعلته كالرميم .
والرميم : العظم الذي بلِي . يقال : رَمَّ العظم ، إذ بَلى ، أي جعلتْه مفتتاً .
والمعنى : وفي عاد آية للذين يخافون العذاب الأليم إذ أرسل الله عليهم الريح . والمراد : أن الآية كائنة في أسباب إرسال الريح عليهم وهي أسباب تكذيبهم هوداً وإشراكهم بالله وقالوا : { من أشد منا قوة } [ فصلت : 15 ] ، فيحذر من مثل ما حلّ بهم أهل الإِيمان . وأما الذين لا يخافون العذاب الأليم من أهل الشرك فهم مصرّون على كفرهم كما أصرت عاد فيوشك أن يحلّ بهم من جنس ما حلّ بعاد .