اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَا تَذَرُ مِن شَيۡءٍ أَتَتۡ عَلَيۡهِ إِلَّا جَعَلَتۡهُ كَٱلرَّمِيمِ} (42)

قوله تعالى : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا } الكلام عليه قد تقدم عَلَى نظيره{[52931]} .

واعلم أن المراد بهذه الحكايات تسلية قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتذكيره بحال الأنبياء .

فإن قيل : لِمَ لَم يذكر في «عَادٍ » و«ثمُودَ » أنبياءهم كما ذكر إبراهيم وموسى ولوطاً - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسلام - ؟ ! .

فالجواب : أنه ذكر ست حكايات ، حكاية إبراهيم وبشارته وحكاية قوم لوط ونجاة مَنْ كان فيها من المؤمنين وحكاية موسى ، ففي هذه الحكايات الثلاثة ذكر الرسل والمؤمنين لأن الناجين منهم كانوا كثيرين ، فأما في حق إبراهيم وموسى فظاهر وأما في حق لوطٍ فلأن الناجين وإن كَانُوا أهْلَ بَيْتٍ واحد لكن المهلكين أيضاً كانوا أهل بُقْعَةٍ واحدة . وأما عاد وثمود وقوم نوح فكان عدد المهلكين بالنسبة إِلى الناجين أضعافَ المهلكين من قوم لوط عليهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَم ؛ فذكر الحكايات الثلاث الأول للتسلية بإهلاك العدو والكل مذكور للتسلية بدليل قوله تعالى في آخر هذه الآيات : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] إلى أن قال : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } [ الذاريات : 54 ] وقال في سورة هود بعد الحكايات : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } [ هود : 100 ] إلى أن قال : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] .

قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } وهي التي لا خير فيها ولا بركة ، ولا تلقح شَجَراً ، ولا تَحْمل مطراً لأنها تكسر وتقلع فكيف تلقح ؟ !{[52932]} .

واعلم أن الفَعِيلَ{[52933]} لا يلحق به تاء التأنيث ( إِن كان{[52934]} بمعنى مفعول وكذلك ) إِذا كان بمعنى فَاعِل في بعض الصُّور{[52935]} . وقد تقدم ذكر سببه ، وهو أن فَعِيلاً{[52936]} لما جاء للمفعول والفاعل جميعاً ولم يتميز المفعول عن الفاعل فأولى أن لا يتميز المؤنث عن المذكر فيه لأنه ( لو تميز ){[52937]} لَتَميَّزَ{[52938]} الفاعل عن المفعول قبل تمييز المؤنث والمذكر ، لأن الفاعلَ جزءٌ من الكلام محتاجٌ إليه ، والمفعول فيه فائدة أكيدةٌ وإن لم يكن جزءاً من الكلام محتاجاً إليه ، فأول ما يحصل في الفعل الفاعل ثم التذكير والتأنيث يصير كالصفة للفاعل ( والمفعول ){[52939]} تقول : فَاعِلٌ وفَاعِلَةٌ ، ومَفْعُولٌ ومفَعُولَةٌ ، ويدل على ذلك أيضاً أن التمييز بين الفاعل والمفعول جعل بحرف ممازج للكلمة فقيل : فَاعل بألف فاصلة بين الفاء والعين التي هي من أصل الكلمة ، وقيل : مفعُول بواو فاصلة بين العين واللام والتأنيث كان بحرف في آخر الكلمة ، فالمميز فيهما{[52940]} غيَّر نظم الكلمة لشدّة الحاجةِ ( وفي{[52941]} التأنيث ) لم يؤثر ، ولأن التمييز في الفاعل والمفعول كان بأمرين يختص كُلّ واحد منهما بأحدهما فالألف بعد الفاء يختص بالفاعل ، والميم والواو يختص بالمفعول والتمييز في التذكير والتأنيث بحرف ( واحد{[52942]} عند ) وجوده يميز المؤنث وعدمه يبقي اللفظ على أصل التذكير فإذا لم يكن «فَعِيلٌ » يمتاز فيه الفاعل عن المفعول إلا بأمر منفصل كذلك ( المؤنث{[52943]} والمذكر لا يمتاز أحدهما عن الآخر إِلا بحرف غير متصل به{[52944]} .

قوله : { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ } فيه وجهان ) :

أحدهما : أنه نصب على أنه صفة للريح بعد صفة «العَقِيم » . قاله الواحدي{[52945]} .

فإن قيل : كيف يكون وصفاً والمعرف لا يوصف بالجُمَلِ ؟ و«مَا تَذَرُ » جملة فلا يوصف بها النكرات ؟ ! .

فالجواب من وجهين :

الأول : أن يكون بإِعادة الريح تقديراً ، كأنه يقول : وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ ريحاً مَا تَذَرُ{[52946]} .

الثاني : أنها لما لم تكن معهودة صارت منكَّرة كأنه يقول : لم تكن من الرياحِ التي تقع ولا وقع مثلُها ، فهي لشدتها منكرة ، ولهذا أكثر ما ذكرت في القرآن منكَّرة ، ووصفت بالجملة كقوله تعالى : { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الأحقاف : 24 ] ، وقوله : { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ } [ الحاقة : 6 و7 ] إلى غير ذلك .

الوجه الثاني{[52947]} : أنه نصب على الحال ، تقول : جَاءَنِي ما يَفْهَمُ شَيْئاً فَعَلَّمْتُهُ وفَهَّمْتُهُ أي حاله كذا .

فإن قيل : لم يكن حال الإرسال ما تذر والحال ينبغي أن يكون موجوداً مع ذِي الحال وقت الفعل فلا يجوز أن يقال : جاءني زيد أمس راكباً غداً ، والريح بعد ما أرسلت بزمان صارت ما تذرُ شيئاً !

فالجواب : أن المراد بيان الصلاحية أي التي أرسلناها على قوةٍ وصلاحيّةٍ لا تذر ، وتقول لمن جاء وأقام عندك أياماً ثم سألك شيئاً : جئْتَني سَائلاً أيْ وقت السؤال بالصلاحية والإِمكان .

هذا إن قيل : بأنه نصب على المشهور .

ويحتمل أنه رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره هِيَ مَا تَذَرُ{[52948]} .

فَإن قِيلَ : «ما تذر » لنفي حال المتكلم ؛ يقال : مَا خَرَجَ{[52949]} زَيْدٌ إلَى الآن ، وَإِذا أَرَدْتَ المستقبل تقول : لا يخرجُ أو لن يَخْرُجَ . وتقول للماضي : مَا خَرَجَ ولم يَخْرُجْ ، والريح حالة الكلام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ما تركت من شيء إلا جعلته كالرميم فكيف قال بلفظ الحال{[52950]} : ما تذر ؟ !

فالجواب : أنّ الحكايات مقدرة على أنها محكية حال الوقوع ، كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } [ الكهف : 18 ] مع أن اسم الفاعل بمعنى الماضي لا يعمل ، وإنما يعمل ما كان منْه بمعنى الحال والاستقبال .

فإن قيل : هل في قوله تعالى : { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ } تخصيص كما في قوله تعالى : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [ الأحقاف : 25 ] .

فالجواب : أن المراد به المبالغة ، لأن قوله : «أَتَتْ عَلَيْهِ » وصف لقوله : «شَيْء » كأنه قال : كُلّ شيءٍ أَتَتْ عَلَيْه ، أو كل شيء تأتي عليه ، ولا يدخل فيه السماوات ، لأنها ما أتت عليه{[52951]} ، وإنما يدخل فيه الأجسام التي تَهُبُّ عليها الرِّياحُ .

فإِن قيل : فالجبال والصخور أتت عليه{[52952]} وما جعلته كالرَّميم ! .

فالجواب : أن المراد أتت عليه قاصدةً له وهو عادٌ وأبنيتُهم وعروشُهم لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة لهم ، فما تركت شيئاً من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم{[52953]} .

قوله : { إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } هذه الجملة في موضع المفعول الثاني ل «تَذَرُ » كأنه قيل : مَا تَتْركُ مِنْ شيء إلا مجعولاً نحو : مَا تَرَكْتُ زَيْداً إلاَّ عَالِماً . وأعربها أبو حيان{[52954]} : حالاً . وليس بظاهر .

فصل

المعنى «مَا تَذَرُ » ما تترك { مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ } من أنفسهم وأموالهم وأنعامهم { إلاَّ جعلته كالرميم } أي كالشيء الهالك البالي ، وهو نبات الأرض إذا يَبِسَ ودِيسَ . قال مجاهد : كالتِّبْن اليابسِ .

وقال أبو العالية : كالتراب المدقُوق . وقيل : أصله من العظم البَالي{[52955]} .


[52931]:في آية: "وفي موسى" ويقصد الكلام من ناحية اللفظ والإعراب.
[52932]:وانظر في كل هذا تفسير العلامة الرازي 28/221 و222.
[52933]:كذا هو الأصح وفي النسختين الفعل وهو تحريف غير مقصود بل يقصد الفعيل وهو العقيم.
[52934]:زيادة لا بد منها من الرازي والعُرف اللغوي فقد سقطت من النسختين.
[52935]:فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا علم الموصوف، تقول: امرأة جريح ورجل جريح، وتلك الصيغة –هي وغيرها مما حدده أهل اللغة- ليست قياسية. وجعل بعض العلماء فعيلا لكثرتها قياسيا فيما ليس له فعيل بمعنى فاعل، فإن كان قد ورد من المصدر فعيل بمعنى فاعل كحفيظ وقدير لا يأتي منه فعيل بمعنى مفعول قياسيا خوف اللبس (بتصرف من التبيان 70).
[52936]:في النسختين فعل. والأصح ما أثبته صرفا ونحوا.
[52937]:زيادة من الرازي عن النسختين لتوضيح السياق وبيان مراده.
[52938]:في النسختين: لتمييز والصواب ما أثبت من لفظ الفعلية.
[52939]:زيادة من الرازي للسياق.
[52940]:أي في فاعل ومفعول.
[52941]:زيادة من الرازي والسياق للتوضيح للمراد.
[52942]:كلمة واحد وجدت في ب فقط وكلمة "عند" زيادة على النسختين من الرازي.
[52943]:ما بين القوسين كله سقط من أ ووجد في ب والرازي.
[52944]:وانظر بالمعنى قليلا تفسير الرازي 28/222.
[52945]:المرجع السابق.
[52946]:وتكون ريحا المقدرة بدل من "الريح" الأولى.
[52947]:وهو اختيار الإمام الرازي في تفسيره 28/222 فإنه رحجه بعد ما ذكر الوجه الأول.
[52948]:وهذه الأشياء كلها تخريجات وتأويلات من الإمام الرازي على كلام الواحدي بأن العقيم صفة للريح، أقول: وجواب الرازي بالنسبة للوجه الأول يعتبر عرفا من حيث التأويل والتقدير، أما الثاني ففيه العقلية البحتة الاجتهادية.
[52949]:في الرازي: ما يخرج زيد أي الآن.
[52950]:كذا في النسختين وفي الرازي الحال.
[52951]:في الرازي: عليها.
[52952]:وكذلك تلك بلفظ عليها فيه أيضا.
[52953]:وانظر: الرازي السابق 28/222، 223.
[52954]:البحر المحيط 8/141.
[52955]:قال بهذه الأقوال البغوي في معالم التنزيل 6/246.