101- وذلك لأن أعينهم في الدنيا كانت في غفلة عن التبصر في آيات الله كأن عليها غطاء ، وكانوا لضلالهم لا يستطيعون سماع دعوة الحق كفاقدي حاسة السمع{[123]} .
قوله تعالى : { الذين كانت أعينهم في غطاء } أي : غشاء ، والغطاء : ما يغطى به الشيء ويستره ، { عن ذكري } يعني : عن الإيمان والقرآن ، وعن الهدى والبيان ، وقيل : عن رؤية الدلائل . { وكانوا لا يستطيعون سمعاً } أي : سمع القبول والإيمان ، لغلبة الشقاوة عليهم . وقيل : لا يعقلون وقيل : كانوا لا يستطيعون ، أي : لا يقدرون أن يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتلوه عليهم لشدة عداوتهم له ، كقول الرجل : لا أستطيع أن أسمع من فلان شيئاً ، لعداوته .
{ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ْ } أي : معرضين عن الذكر الحكيم ، والقرآن الكريم ، وقالوا : { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ْ } وفي أعينهم أغطية تمنعهم من رؤية آيات الله النافعة ، كما قال تعالى : { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ْ }
{ وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ْ } أي : لا يقدرون على سمع آيات الله الموصلة إلى الإيمان ، لبغضهم القرآن والرسول ، فإن المبغض لا يستطيع أن يلقي سمعه إلى كلام من أبغضه ، فإذا انحجبت عنهم طرق العلم والخير ، فليس لهم{[500]} سمع ولا بصر ، ولا عقل نافع فقد كفروا بالله وجحدوا آياته ، وكذبوا رسله ، فاستحقوا جهنم ، وساءت مصيرا .
ثم بين - سبحانه - ما أعده للكافرين من عذاب يوم القيامة فقال : { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } وقوله : { وعرضنا } . . أى : أظهرنا وأبرزنا يقال : عرض القائد جنده إذا أظهرهم ليشاهدهم الناس .
أى : جمعنا الخلائق يوم البعث والنشور جمعا تاما كاملا . وأبرزنا وأظهرنا جهنم فى هذا اليوم للكافرين إبرازا هائلا فظيعا ، حيث يرونها ويشاهدونها بدون لبس أو خفاء ، فيصيبهم ما يصيبهم من رعب وفزع عند مشاهدتها .
وتخصيص العرب بهم ، مع أن غيرهم - أيضا - يراها ، لأنها ما عرضت إلا من أجلهم ، ومن أجل أمثالهم ممن فسقوا عن أمر ربهم .
ويرى بعضهم أن اللام فى { للكافرين } بمعنى على ، لأن العرض يتعدى بها ، قال - تعالى - : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار . . } وقال - سبحانه - : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً . . . } ثم وصفهم - سبحانه - بما يدل على استحقاقهم دخول النار فقال : { الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي } .
أى : أبرز جهنم فى هذا اليوم العصيب للكافرين الذين كانت أعينهم فى الدنيا فى { غطاء } كثيف وغشاوة غليظة ، { عن ذكرى } أى : عن الانتفاع بالآيات التى تذكرهم بالحق ، وتهديهم إلى الرشاد ، بسبب استحواذ الشيطان عليهم .
وفى التعبير بقوله : { غطاء } إشعار بأن الحائل والساتر الذى حجب أعينهم عن الإِبصار ، كان حائلا شديدا ، إذ الغطاء هو ما يغطى الشئ ويستره من جميع جوانبه .
والمراد بالذكر : القرآن الكريم ، أو ما يشمله ويشمل كل ما فى الكون من آيات يؤدى التفكر فيها إلى الإِيمان بالله - تعالى - .
وقوله : { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } صفة أخرى من صفاتهم الذميمة ، أى : وكانوا فى الدنيا - أيضا - لا يستطيعون سمعا للحق أو الهدى ، بسبب إصرارهم على الباطل ، وإيغالهم فى الضلال والعناد ، بخلاف الأصم فإنه قد يستطيع السماع إذا صيح به .
قال الآلوسى : فالجملة الكريمة نفى لسماعهم على أتم وجه ، ولذا عدل عن : وكانوا صما مع أنه أخصر ، لأن المراد أنهم مع ذلك كفاقدى السمع بالكلية وهو مبالغة فى تصوير إعراضهم عن سماع ما يرشدهم إلى ما ينفعهم بعد تصوير تعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار . . .
ثم قال مخبرًا عنهم : { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي } أي : تعاموا وتغافلوا وتصاموا{[18552]} عن قبول الهدى واتباع الحق ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] وقال هاهنا : { وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } أي : لا يعقلون عن الله أمره ونهيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } .
يقول تعالى : وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين الذين كانوا لا ينظرون في آيات الله ، فيتفكّرون فيها ولا يتأمّلون حججه ، فيعتبرون بها ، فيتذكرون وينيبون إلى توحيد الله ، وينقادون لأمره ونهيه ، وكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعا يقول : وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله الذي ذكّرهم به ، وبيانه الذي بيّنه لهم في إي كتابه ، بخذلان الله إياهم ، وغلبة الشقاء عليهم ، وشُغْلِهم بالكفر بالله وطاعة الشيطان ، فيتعظون به ، ويتدبّرونه ، فيعرفون الهدى من الضلالة ، والكفر من الإيمان . وكان مجاهد يقول في ذلك ما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعا قال : لا يعقلون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعا قال : لا يعلمون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله الّذِينَ كانَت أعْيُنُهُمْ في غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِى . . . الاَية ، قال : هؤلاء أهل الكفر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري}، يعني: عليها غشاوة الإيمان بالقرآن، لا يبصرون الهدى بالقرآن،
{وكانوا لا يستطيعون سمعا}، يعني: الإيمان بالقرآن سمعا، كقوله سبحانه: {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي ءاذانهم وقرا} [الكهف:57].
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى: وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين الذين كانوا لا ينظرون في آيات الله فيتفكّرون فيها، ولا يتأمّلون حججه فيعتبرون بها، فيتذكرون وينيبون إلى توحيد الله وينقادون لأمره ونهيه،
"وكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعا" يقول: وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله الذي ذكّرهم به، وبيانه الذي بيّنه لهم في إي كتابه، بخذلان الله إياهم، وغلبة الشقاء عليهم، وشُغْلِهم بالكفر بالله وطاعة الشيطان، فيتعظون به، ويتدبّرونه، فيعرفون الهدى من الضلالة، والكفر من الإيمان...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قد ذكرنا في ما تقدم في غير موضع أن ظلمة الكفر تستر، وتحجب نور القلب، ونور كل حاسة من حواسه من السمع والبصر والفؤاد وغيره؛ إذ لكل حاسة من هذه الحواس نور وضياء في سريتها، لا تبصر، ولا تسمع الحق والحجة إلا بنورين جميعا نور الظاهر ونور السرية والباطن. فالكفر يستر، ويغطي ذلك النور فيجعل صاحبه لا يبصر الحق، ولا ينظر العبر، ولا يتفكر، ولا يتجلى له الحق بنور الظاهر. وللإيمان نور وضياء يبصر صاحبه به، ويسمع، ويرفع له غطاء كل شيء حتى يتجلى له الحق، ويعرف به حسن كل حسن وقبح كل قبيح. فهو كما يرى الإنسان الشيء بنور بصره وبنور الهواء. فإذا ذهب أحدهما صار بحيث لا يبصر، ولا يرى شيئا. فعلى ذلك إنما يعرف الشيء، وتظهر له حقيقته بنورين بنور القلب وبنور الحواس. فإذا غطت ظلمة الكفر نور القلب صار لا يبصر شيئا، ولا يعتبر، ولا يسمع، ولا ينطق بالحق. والإيمان يُنَوِّرُ ذلك القلب، ويضيئه، فيجعله يبصر كل شيء، ويتجلى له الحق من الباطل، ويعرف الآيات من التمويهات، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{عَن ذِكْرِي} عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتعظيم. أو عن القرآن وتأمل معانيه وتبصرها، ونحوه {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْي} [البقرة: 18]. {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} يعني وكانوا صماً عنه، إلاّ أنه أبلغ؛ لأنّ الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به، وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله {أعينهم} كناية عن البصائر، لأن عين الجارحة لا نسبة بينها وبين الذكر...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" في غِطاءٍ عَنْ ذِكْري "أي هُمْ بِمَنزِلةِ مَنْ عَيْنُه مُغَطَّاةٌ فلا يَنظُرُ إلى دلائل الله تعالى. "وكانوا لا يَستطيعونَ سَمْعاً"... فهم بِمنزِلةِ مَنْ صَمَّ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم وصفهم بما أوجب سجنهم فيها وتجهمها لهم فقال: {الذين كانت} كوناً كأنه جبلة لهم {أعينهم} الوجهية والقلبية {في غطاء عن ذكري} بعدم النظر فيما جعلنا على الأرض من زينة دليلاً على الساعة بإفنائه إثر إحيائه وإعادته بعد إبدائه {وكانوا} بما جبلناهم عليه {لا يستطيعون} أي استطاعة عظيمة تسعدهم، لضعف عقولهم، وغرق استبصارهم في فضولهم {سمعاً} لآياتي التي تسمع الصم وتبصر الكمه، وهو أبلغ في التبكيت بالغباوة والتقريع بالبلادة من مجرد نفي البصر والسمع، لأن ذلك لا ينفي الاستطاعة...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{الذين كَانَتْ أَعْيُنُهم} وهُمْ في الدنيا {في غِطَاءٍ} كثيفٍ وغِشاوةٍ غليظةٍ مُحاطةٍ من جميع الجوانب {عَن ذِكْرِي} عن الآيات المؤدِّيةِ لأُولِي الأبصار المتدبِّرين فيها إلى ذِكْري بالتوحيد والتمجيدِ، أو كانت أعينُ بصائرِهم في غِطاءٍ عن ذِكْري على وَجْهٍ يَلِيقُ بشَأْنِي... {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً}... وهذا تمثيلٌ لإعراضِهم عن الأدلّة السمعيّةِ كما أن الأوّلَ تصويرٌ لتَعامِيهم عن الآيات المشاهَدةِ بالأبصار...، والموصولُ... بيانٌ جِيءَ به لِذَمِّهم بما في حَيِّزِ الصِّلةِ وللإشعار بِعِلِّيَّته لإصابة ما أصابَهم مِن عَرْض جهنمَ لهم، فإن ذلك إنما هو لعدم استعمالِ مَشاعرِهم فيما عرِض لهم في الدنيا من الآيات وإعراضِهم عنها مع كونها أسباباً مُنَجِّيةً عما ابتُلوا به في الآخِرة...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{الَّذِينَ كانت أَعْيُنُهم في غِطاءٍ عن ذِكْرِي وكانوا لا يَستطيعون سَمْعاً}... ذاكَ أنّهم لَمّا دَنَّسوا أنفُسَهم باجْتراح المعاصي والآثامِ، وأطاعوا وَساوِسَ الشيطانِ، وما نَصَبَه لهم مِن الحَبائل، طَبَعَ اللهُ على قلوبهم وجَعَلَ على سَمْعِهم وعلى أبصارِهم غِشاوةً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم إذا الكافرون الذين أَعْرَضوا عن ذِكْر الله حتى لَكأنّ على عيونهم غِطاءً، ولَكأنّ في أسماعهم صَمَماً.. إذا بهؤلاء تُعْرَض عليهم جهنّمُ فلا يُعْرِضون عنها كما يُعرِضون عن ذِكر الله. فما يستطيعون اليومَ إِعْراضاً. لقد نُزع الغطاءُ عن عيونهم نَزْعاً فرَأوا عاقبةَ الإعراضِ والعَمَى جزاءً وِفاقاً! والتعبيرُ يُنَسِّقُ بين الإعراضِ والعَرْضِ مُتقابِلَيْن في المَشهَد، متقابلَيْن في الحركة على طريقة التناسق الفني في القرآن...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{الَّذِينَ كانت أَعْيُنُهم في غِطاءٍ}... والغطاء: مُستعارٌ لِعدم الانتفاع بدلالة البَصَرِ على تَفَرُّد اللهِ بالإلَهِيّة. وحرف (في) للظرفية المجازية، وهي تَمكُّن الغطاء من أعينهِم بحيث كأنها مَحْوِيَّةٌ للغطاء. و (عن) للمُجاوَزة، أي عن النّظرِ فيما يَحْصُلُ به ذِكْري...
وحُذف مفعولُ {سَمْعاً} لِدلالة قولِه {عَنْ ذِكْري} عليه. والتقدير: سَمْعاً لآياتِي...
{وكانوا لا يَستطيعون سَمْعاً}: والمراد هنا السَّمْعُ الذي يستفيد منه السامعُ، سَمْعُ العِبْرةِ والعِظَةِ، وإلا فآذانهم موجودة وصالحة للسمع، ويسمعون بها، لكنه سماع ٌلا فائدةَ منه؛ لأنهم ينفِرون من سماع الحقِّ ومِن سماع الموعظةِ ويَسُدُّون دونَها آذانَهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فلا يبصرون آيات الله، ولا يقرأونها كما لو كان هناك غطاءٌ يغطي أعينهم، {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} إذا تليت عليهم، كما لو كانوا في حالة صممٍ... وها هم يواجهون الموقف بالعذاب الشديد، فماذا يفعلون الآن؟ وكيف يفكرون؟ هل يعتقدون أن كل ذلك التمرد والكفر والطغيان يمكن أن يمرّ بدون حسابٍ أو يذهب بدون عقاب؟؟ هل القضية بهذه السهولة؟! إنهم لو فكروا بهذه الطريقة، فإن تفكيرهم يكون تفكيراً خاطئاً.