تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱلَّذِينَ كَانَتۡ أَعۡيُنُهُمۡ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكۡرِي وَكَانُواْ لَا يَسۡتَطِيعُونَ سَمۡعًا} (101)

الآية101 : وقوله تعالى : { الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري } قد ذكرنا في ما تقدم في غير موضع أن ظلمة الكفر تستر ، وتحجب نور القلب ، ونور كل حاسة من حواسه من السمع والبصر والفؤاد وغيره ؛ إذ لكل حاسة من هذه الحواس نور وضياء في سريتها ، لا تبصر ، ولا تسمع الحق والحجة إلا بنورين جميعا نور الظاهر ونور السرية والباطن .

فالكفر يستر ، ويغطي ذلك النور ( فيجعل صاحبه ) {[11844]} لا يبصر الحق ، ولا ينظر العبر ، ولا يتفكر ، ولا يتجلى له الحق بنور الظاهر .

وللإيمان نور وضياء يبصر ( صاحبه ) {[11845]} به ، ويسمع ، ويرفع{[11846]} له غطاء كل شيء حتى يتجلى له الحق ، ويعرف به حسن ( كل حسن ) {[11847]} وقبح كل قبيح . فهو كما يرى الإنسان الشيء بنور بصره وبنور الهواء . فإذا ذهب أحدهما صار بحيث لا يبصر ، ولا يرى شيئا . فعلى ذلك إنما يعرف الشيء ، وتظهر له حقيقته بنورين بنور القلب وبنور الحواس . فإذا غطت ظلمة الكفر نور القلب صار لا يبصر شيئا ، ولا يعتبر ، ولا يسمع ، ولا ينطق بالحق . والإيمان يُنَوِّرُ ذلك ( القلب ، ويضيئه ، فيجعله ) {[11848]} يبصر كل شيء ، ويتجلى له الحق من الباطل ، ويعرف{[11849]} الآيات من التمويهات ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وكانوا لا يستطيعون سمعا } فيه وجهان من الدلالة :

أحدهما : أنه نفى عنهم استطاعة السمع ، وقد كان لهم السمع . فدل أن الاستطاعة التي هي استطاعة الفعل تقترن بالفعل ، لا يتقدم ، ولا يتأخر ( حين{[11850]} قال : { وكانوا لا يستطيعون سمعا } وكذلك قول صاحب موسى حين{[11851]} قال له { إنك لن تستطيع معي صبرا } ( الكهف : 68 و72 و75 ) في ( ثلاثة ) {[11852]} مواضع ، فدل ما نفى عنه الفعل إنما تقارن عنه الفعل ، لا تحتمل التقدم والتأخر ) {[11853]} .

والثاني : فيه دلالة أن هنالك استطاعة ، هم يستفيدون بما وعد الله ، ويستوجبون به ، فضيعوها باشتغالهم بغيرها حين{[11854]} عوتبوا ، واستوجبوا ذلك العتاب والتوبيخ بالتضييع الذي كان منهم . فلو لم يكن ( ذلك منهم ) {[11855]} لم يكن للعتاب والتوبيخ الذي عوتبوا ، ووبخوا معنى .

قال قوم : إنما نفى عنهم ذلك للاستثقال الذي كان منهم . وقد يقال مثله على المجاز للاستثقال دون الحقيقة ، يقول الرجل لآخر : ما أستطيع أن أنظر إليك لكذا ، وهو ناظر إليه . لكن قد ذكرنا أنه على الوجه الذي قال : لا أستطيع أن أنظر إليك ، وهو ناظر إليه ، غير مستطيع النظر إليه ، وهو نظر رحمة وشفقة .

وقال بعضهم : هو على الطبع ، وهو قول الحسن . وقال بعضهم : إنما نفى ذلك عنهم ( لما لم ينتفعوا به كما نفى عنهم ) {[11856]} السمع والبصر والنطق لما لم ينتفعوا به ، ليس على أنهم لم يكن لهم تلك الحواس . فعلى ذلك ما نفى عنهم من الاستطاعة لما لم ينتفعوا بها ، ليس على أنها ليست قبل هكذا . نفى عنهم ذلك لما عموا ، وصموا عن ذلك ، والله أعلم .


[11844]:في الأصل و م: فجعل.
[11845]:ساقطة من الأصل و م.
[11846]:من م، في الأصل: ويبصر.
[11847]:ساقطة من الأصل و م.
[11848]:في الأصل و م: ويضيء فجعل.
[11849]:في الأصل و م: وعرفوا.
[11850]:في الأصل: حيث.
[11851]:في الأصل: حيث.
[11852]:ساقطة من الأصل.
[11853]:ساقطة من م.
[11854]:في الأصل و م: حيث.
[11855]:ساقطة من الأصل و م.
[11856]:من م، ساقطة من الأصل.