ثم حكى - سبحانه - أقوال هؤلاء المتقين ومدحهم على إيمانهم وصلاحهم فقال - تعالى - { الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النار } أى أن هذه الجنات وغيرها من أنواع النعم قد أعدها الله - تعالى - لهؤلاء المتقين الذين يضرعون إلى الله ملتمسين منه المغفرة فيقولون : يا ربنا إننا آمنا بك وصدقنا رسولك في كل ما جاء به من عندك ، فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا في أمرنا فأنت الغفار الرحيم ، { وَقِنَا عَذَابَ النار } أي جنبنا هذا العذاب الأليم يا أرحم الراحمين .
وفي حكاية هذا القول عنهم بصيغة المضارعة { يَقُولُونَ } إشعار بأنهم يجددون التوبة إلى الله دائما لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وإحساسهم بأنهم مهما قدموا من طاعات فهى قليلة بجانب فضل الله عليهم ، ولذلك فهم يلتمسون منه الستر والغفران ، والوقاية من النار ، وهذا شأن الأخيار من الناس .
وقوله - سبحانه - { الذين يَقُولُونَ } بدل أو عطف بيان من قوله { لِلَّذِينَ اتقوا } ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة منهما جواب عن سؤال كأنه قيل : من أولئك المتقون ؟ فقيل : هم الذين يقولون ربنا إننا آمنا . ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح .
يصف تعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل ، فقال تعالى : { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا } أي : بك وبكتابك وبرسولك { فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من{[4889]} أمرنا بفضلك ورحمتك { وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .
{ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَآ إِنّنَآ آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النّارِ }
ومعنى ذلك : قل هل أنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا يقولون ربنا آمنا إننا ، فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار . وقد يحتمل «الذين يقولون » وجهين من الإعراب : الخفض على الرد على «الذين » الأولى ، والرفع على الابتداء ، إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها «الذين » الأولى ، فيكون رفعها نظير قول الله عز وجل : { إنّ الله اشْتَرَى منَ المُؤْمِنِينَ أنفُسَهُمْ وَأَموَالَهُمْ } ثم قال في مبتدإ الآية التي بعدها { التّائِبُونَ العابِدونَ } ،
ولو كان جاء ذلك مخفوضا كان جائزا .
ومعنى قوله : { الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا إنّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا } الذين يقولون : إننا صدقنا بك وبنبيك ، وما جاء به من عندك¹ { فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا } يقول : فاستر علينا بعفوك عنها وتركك عقوبتنا عليها¹ { وَقِنا عَذَابَ النّارِ } ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها . وإنما معنى ذلك : لا تعذبنا يا ربنا بالنار . وإنما خصوا المسألة بأن يقيهم عذاب النار ، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب النار وحسن مآبه . وأصل قوله «قِنا » : من قول القائل : وقى الله فلانا كذا ، يراد به : دفع عنه فهو يقيه ، فإذا سأل بذلك سائل قال : قني كذا .
{ الذين } بدل من { الذين اتقوا } [ آل عمران : 15 ] ، فسر في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات ، ويحتمل أن يكون إعراب قوله :
{ الذين } في هذه الآية على القطع وإضمار الابتداء ويحتاج إلى القطع وإضمار فعل في قوله : { الصابرين } والخفض في ذلك كله على البدل أوجه . ويجوز في { الذين } ، وما بعده النصب على المدح .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
معنى ذلك: قل هل أنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين [لعل الصواب: الذين] اتقوا؛ يقولون:"ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار".
{الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا إنّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا}: إننا صدقنا بك وبنبيك، وما جاء به من عندك. {فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا}: فاستر علينا بعفوك عنها وتركك عقوبتنا عليها. {وَقِنا عَذَابَ النّارِ}: ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها. وإنما معنى ذلك: لا تعذبنا يا ربنا بالنار. وإنما خصوا المسألة بأن يقيهم عذاب النار، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب النار وحسن مآبه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الذين يقولون ربنا إننا آمنا} الآية؛ قد رضي منهم بهذا القول، وفيه تزكية لهم. ولو كان الإيمان جميع الطاعات لم يرض منهم التزكية بها، وقد أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن للذين اتقوا عند ربهم في الجنة خيرا من هذا الذي زين للناس في الدنيا من النساء وما ذكر إلى آخره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ينقطعون إلينا بالكلية، ويتضرعون بين أيدينا بذكر المحن والرزية، أولئك ينالون منا القربة والخصوصية، والدرجات العليَّة، والقِسَم المُرضيَّة...
اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: {ربنا إننا ءامنا} ثم إنهم قالوا بعد ذلك: {فاغفر لنا ذنوبنا}؛ وذلك يدل على أنهم توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة والله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم، والثناء عليهم، فدل هذا على أن العبد بمجرد الإيمان يستوجب الرحمة والمغفرة من الله تعالى...
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا} إجابة لدعوتك {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} إنجازاً لوعدك {وَقِنَا عَذَابَ النار} بفضلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر سبحانه وتعالى بأنه بصير بمن يستحق ما أعد من الفوز أتبعه ما استحقوا ذلك به من الأوصاف تفضلاً منه عليهم بها وبإيجاب ذلك على نفسه حثاً لهم على التخلق بتلك الأوصاف فقال: -وقال الحرالي: لما وصف تعالى قلوبهم بالتقوى وبرأهم من الاستغناء بشيء من دونه وصف أدبهم في المقال فقال؛ انتهى- {الذين يقولون ربنا} أي يا من ربانا بإحسانه وعاد علينا بفضله، وأسقط أداة النداء إشعاراً بما لهم من القرب لأنهم في حضرة المراقبة؛ ولما كانت أحوالهم في تقصيرها عن أن يقدر الله حق قدره كأنها أحوال من لم يؤمن اقتضى المقام التأكيد فقالوا: {إننا} فأثبتوا النون إبلاغاً فيه {آمنا} أي بما دعوتنا إليه، وأظهروا هذا المعنى بقولهم: {فاغفر لنا ذنوبنا} أي فإننا عاجزون عن دفعها ورفع الهمم عن مواقعتها وإن اجتهدنا لما جبلنا عليه من الضعف والنقص، تنبيهاً منه تعالى على أن مثل ذلك لا يقدح في التقوى إذا هدم بالتوبة لأنه ما أصر من استغفر، والتوبة تجب ما قبلها. قال الحرالي: وبين المغفرة على مجرد الإيمان إشارة إلى أنه لا تغيرها الأفعال، من ترتب إيمانه على تقوى غفرت ذنوبه، فكانت مغفرة الذنوب لأهل هذا الأدب في مقابلة الذين آخذهم الله بذنوبهم من الذين كذبوا، ففي شمول ذكر الذنوب في الصنفين إعلام بإجراء قدر الذنوب على الجميع، فما كان منها مع التكذيب أخذ به، وما كان منها مع التقوى والإيمان غفر له -انتهى. ولما رتب سبحانه وتعالى الغفران على التقوى ابتداء رتب عليها الوقاية انتهاء؛ فقال: {وقنا عذاب النار} أي الذي استحققناه بسوء أعمالنا...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{الذين يقولون ربنا إننا آمنا} قال الأستاذ الإمام: وصف أهل التقوى بشأن من شؤونهم، وهو أنهم لتأثر قلوبهم بالتقوى التي هي ثمرة الإيمان تفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان في مقام الابتهال والدعاء. وهذا اختيار منه للقول بأن الكلام وصف للذين اتقوا... كأنه قيل: من أولئك المتقون الذين لهم هذا الجزاء الحسن؟ فقيل هم الذين يقولون إلخ...
وقالوا في قوله تعالى: {فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار} أنهم رتبوا طلب المغفرة والوقاية من النار على الإيمان فدل ذلك على أن الإيمان وحده كاف في استحقاقهما من غير توقف على العمل الصالح. وأقول قد يصح هذا إذا أريد مغفرة الشرك السابق على الإيمان وما تبعه من الذنوب والوقاية من الخلود في النار بذلك. ولا يمكن أن يصح إذا أريد به أن الإنسان قد يكون مؤمنا ولا يعمل صالحا بل يكون منغمسا في المعاصي والخطايا ثم يكون مستحقا للمغفرة والوقاية من العذاب. فإن العقل والنقل يحيلان هذا الفرض. ذلك أن المعروف من سنة الله تعالى في الإنسان أن عقائده الراسخة اليقينية لها السلطان الأعلى على أعماله البدنية. وما الإيمان إلا الاعتقاد اليقيني الراسخ في العقل المهيمن على القلب. ولا عمل إلا عن فكر من العقل أو وجدان من القلب، فأعمال المؤمن يجب أن تكون تابعة لإيمانه لا تستبد دونه ولا تتحول على طاعته إلا لنسيان أو جهالة، كغلبة انفعال يعرض ولا يلبث أن يزول وتقفي التوبة على أثره فتمحوه: {إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17] فهذا دليل العقل. وأما النقل فالآيات التي يعسر إحصاؤها ومنها في المغفرة قوله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه: 82] وقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} [غافر: 8] إلى قوله: {وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ رحمته} [غافر: 9] والفرق بين وعده بالمغفرة وبين حكايته دعاء المستغفرين لا يحتاج إلى بيان، على أن الآية التي نفسرها لا تعارض هذه الآيات وما في معناها بل تؤيدها لأن الدعاء فيها لم يرد به أن كل متق ينطق به نطقا بلسانه وإنما هو بيان لشأن المتقين الموصوفين بما يأتي في الآية التالية من أكمل صفات المؤمنين. على أنه لو لم يكن الكلام في المؤمنين المتقين ولو لم يوصفوا بعد الدعاء بما يأتي من الصفات بأن قيل: للذين آمنوا عند ربهم إلخ الدعاء فقط. لكان لنا أن نقول: إن المراد بالإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وعمل الصالحات لتتفق الآية مع سائر آيات القرآن الموافقة للعقل والعلم بطبيعة البشر والإجماع والسلف على أن الإيمان قول واعتقاد وعمل. ولكن القوم غفلوا عن هذا وحجبوا عنه بالتماس ما يؤيدون به مذاهبهم ويفندون به من خالفها. وقد قررنا هذه الحقيقة في الإيمان والعمل من قبل ولا نزال نبدئ القول فيها ونعيده لعل التكرار في المقامات المختلفة يؤثر في صخرة التقليد الصماء فيفتتها أو ينسفها نسفا، فيعود المسلمون إلى إيمان القرآن الذي كان عليه السلف وصفوة علماء الخلف، كحجة الإسلام الغزالي في المشرق وشيخ الإسلام ابن تيمية في الوسط والعلامة الشاطبي صاحب الموافقات في المغرب كل هؤلاء من القرون الوسطى وحسبك بالأستاذ الإمام من المتأخرين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {الذين يقولون} عطف بيان {للذين اتقوا} وصفهم بالتقوى وبالتوجّه إلى الله تعالى بطلب المغفرة. ومعنى القول هنا الكلامُ المطابق للواقع في الخبرِ، والجاري على فرط الرغبة في الدعاء، في قولهم: {فاغفر لنا ذنوبنا} إلخ، وإنّما يجري كذلك إذا سعى الداعي في وسائل الإجابة وترقّبها بأسبابها التي ترشد إليها التقوى، فلا يُجازَى هذا الجزاءَ من قال ذلك بفمه ولم يعمل لهُ...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار} هذه أول أوصاف المؤمنين الذين استحقوا ذلك الجزاء الكريم من رب العالمين: {الذين يقولون} وهذا الوصف يدل على انهم دائما متذكرون للإيمان وحالهم إنما هو تصديق للنبي في كل ما جاء به،فلسان حالهم دائما انهم يقولون {آمنا} أي يقولون إنهم يذعنون ويصدقون كل ما جاء به القرآن الكريم،وهدى النبي الأمين، ومن كان لسان حاله تذكر الإيمان والإذعان لأمر الله تعالى لا تكون منه معصية كبيرة، ولا إهمال لأوامر الله تعالى؛ لأن ارتكاب المعاصي يتنافى مع الإذعان المطلق،وتذكر الإيمان الدائم؛ إذ المعصية نكون في غفلة القلب وعدم تذكر الإيمان؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام:"لا يزني الزاني وهو مؤمن"،وإذا كان الإيمان بالله مستوليا على شعورهم فهم دائما يغلبون الخوف على الرجاء والضراعة على الطمع، ولذا رتبوا على هذه الحالة طلبهم المغفرة وقالوا: {فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار} فهم دائما يحسون بعظم أخطائهم، وذلك من قوة إيمانهم، وقوة إذعانهم؛ ولذلك يطلبون الستر والغفران، والوقاية من النار، ولذلك كله من قوة الوجدان الديني،وعظم سلطان النفس اللوامة، والضمير المستيقظ، فتكبر في نظرهم هفواتهم،وتصغر حسناتهم، ويعتقدون أنه لا جزاء إلا أن يتغمدهم الله برحمته...
إن قولهم: {رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا} هو أول مرتبة للدخول على باب الله، فكأن الإيمان بالله يتطلب رعاية من الذي تلقى التكليف لحركة نفسه، لأن الإيمان له حق يقتضي ذلك، كأن المؤمن يقول: أنا ببشريتي لا أستطيع أن أوفي بحق الإيمان بك، فيارب اغفر لي ما حدث لي فيه من غفلة، أو من زلة، أو من كبر، أو من نزوة نفس. وهذا الدعاء دليل على أنه عرف مطلوب الإيمان كما أوضحه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيانه لمعنى الإحسان حين قال:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". كأن تستحضر الله في كل عمل؛ لأنه يراك. وهل يتأتى لواحد من البشر أن يجترئ على محارم من يراه بعينه؟ حينئذ يستحضر المؤمن ما جاء إلينا من مأثور القول، فكأنه سبحانه وتعالى يوجه إلينا الحديث: يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟ وكأن الحق سبحانه يقول للعبد: هل أنا أقل من عبيدي؟ أتقدر أن تسيء إلى أحد وهو يراك؟ إذن فكيف تجرؤ على الإساءة لخالقك؟... ويختم الحق سبحانه الآية بقوله على ألسنة المؤمنين: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} لأنه ساعة أن أعلم أن الحق سبحانه وتعالى ضمن لي بواسع مغفرته أن يستر عليّ الذنب، فإن العبد قد يخجل من ارتكاب الذنب، أو يسرع بالاستغفار. ولماذا لا يكون قوله {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} بمعنى استرها يارب عنا فلا تأتي لنا أبدا؟ وإن جاءت فهي محل الاستغفار والتوبة. فإذا أذنبت ذنبا، واستغفرت ربي، وعلمت أن ربي قد أذن بالمغفرة؛ لأنه قال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 10]...
فإن الوجل يمتنع، والخوف يذهب عني، وأقبل على الله بمحبة على تكاليفه وأحمل نفسي على تطبيق منهج الله كله. ولذلك حينما شرع الله الحق سبحانه وتعالى للخلق التوبة كان ذلك رحمة أخرى. وهذه الرحمة الأخرى تتجلى في المقابل والنقيض. هب أن الله لم يشرع التوبة وأذنب واحد ذنبا، وبمجرد أن أذنب ذنبا خرج من رحمة الله فماذا يصيب المجتمع منه؟ إن كل الشرور تصيب المجتمع من هذا الإنسان لأنه فقد الأمل في نفسه، أما حينما يفتح الله له باب التوبة فإن ارتكب العبد ذنبا ساهيا عن دينه، فإن يرجع إلى ربه...
وتلك واقعية الدين الإسلامي، فليس الدين مجرد كلام يقال، ولكنه دين يقدر الواقع البشري، فإنه -سبحانه- يعلم أن العباد سيرتكبون الذنوب، فيرسم لهم أيضا طريق الاستغفار. وإذا ما ارتكب العباد ذنوبا، فإن الحق يطلب منهم أن يتوبوا عنها، وأن يستغفروا الله. فإذا ما لذعتهم التوبة حينما يتذكرون الذنب فإن هذه اللذعة كلما لذعتهم أعطاهم الله حسنة. كأن غفران الذنب شيء، والوقاية من النار شيء آخر. كيف؟ لأنه ساعة أن يعلم العبد أن الحق سبحانه وتعالى ضمن للعبد مغفرته، وهو الخالق المربي، فإن العبد يذهب إلى الله مستغفرا طامعا في المغفرة والرحمة. إنها دعوة المؤمنين إن كانوا قد نسوا أن يستغفروا لأنفسهم. لماذا؟ لأن الاستغفار من الذنب تكليف من الله. وكما قلنا: إن الإنسان قد ينسى بعضا من التكاليف، لذلك فمن الممكن أن يسهو عن الاستغفار، ولذا يقول الحق على ألسنة عباده المؤمنين: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. ومعنى التقوى أن تجعل بينك وبين النار وقاية، أو تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية، فإذا ما أخذت النعم من الله لتصرفها في منهج الله تكون حسنة لك، وقلنا: إن "اتقوا الله "و "اتقوا النار "ملتقيتان، لأن معنى" اتقوا النار "كي لا تصيبكم بأذى،" اتقوا الله "تعني أن نضع بيننا وبين غضب الله وقاية، لأن غضب الله سيأتي...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِننا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ}. إنها صفات المؤمنين المتقين في تطلعاتهم لما عند الله، وفي خصائصهم الذاتية المنطلقة في خط الإيمان بالله... فهم يعيشون الحياة من خلال الشعور بإيمانهم كحقيقةٍ تحتوي كيانهم، وتستوعب كل نشاطهم، وتدفعهم إلى تحمّل المسؤولية بوعيٍ كامل لنتائجها العاجلة والآجلة، ومحاسبة دقيقةٍ لكل خطواتها العملية المستقيمة والمنحرفة... وهذا ما يتمثل في هذا الدعاء الخاشع {رَبَّنا إِنَّنا ءَامَنَّا} بك، فهو القاعدة الفكرية والشعورية التي ننطلق منها من موقع القوّة، فليكن هذا الإيمان شفيعنا عندك في ما أخطأنا فيه، فإننا لم نخطىء جحوداً بألوهيتك ولا تمرّداً على عبوديتنا لك، ولكنها تسويلات النفس الأمّارة بالسوء التي خلقتها من ضعف وأعطيتنا القوة لنستعين بها على مقاومة الضعف، ولكنّك تعلم أننا قد نضعف أمام أنفسنا، فلا تؤاخذنا {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} لنقف بين يديك طاهرين من الدنس، مطهرين من الذنوب، ننتظر رضاك في دخول جنتك...