القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ * ثُمّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّىَ * فَجَعَلَ مِنْهُ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ وَالاُنثَىَ * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىَ } .
يقول تعالى ذكره : ألم يك هذا المنكر قدرة الله على إحيائه من بعد مماته ، وإيجاده من بعد فنائه نُطْفَةً يعني : ماء قليلاً في صلب الرجل من منيّ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : يُمْنَى فقرأه عامة قرّاء المدينة والكوفة : «تُمْنَى » بالتاء بمعنى : تمنى النطفة ، وقرأ ذلك بعض قرّاء مكة والبصرة : يُمْنَى بالياء ، بمعنى : يمنى المنيّ .
والصواب من القول أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
ثم قرر تعالى على أحوال ابن آدم في بدايته التي إذا تؤملت لم ينكر معها جواز البعث من القبور عاقل . وقرأ الجمهور : «ألم يك » بالياء من تحت ، وقرأ الحسن : «ألم تك » بالتاء من فوق «و » النطفة « : القطعة من الماء . يقال ذلك للقليل والكثير ، و » المني «معروف ، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وأبو عمرو بخلاف وابن محيصن والجحدري وسلام ويعقوب : » يمنى «بالياء ، يراد بذلك المني ، ويحتمل أن يكون يمنى من قولك أمنى الرجل ، ويحتمل أن يكون من قولك منى الله الخلق{[11491]} ، فكأنه قال : من مني تخلق ، وقرأ جمهور السبعة والناس . » تمنى «بالتاء ، يراد بذلك النطفة ، و » تمنى «يحتمل الوجهين اللذين ذكرت .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ألم يك هذا المنكر قدرة الله على إحيائه من بعد مماته، وإيجاده من بعد فنائه" نُطْفَةً "يعني: ماء قليلاً في صلب الرجل "من منيّ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ألم يك نطفة من منيّ يُمنى} {ثم كان علقة فخلق فسوّى} {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} والوجه فيه أن كل أحد يعلم أن نشوءه كان من نطفة، وتلك النطفة لو رئيت موضوعة على طبق، ثم اجتمع حكماء الأرض على أن يقدروا منها بشرا سويا كما قدره الله تعالى في تلك الظلمات، لم يصلوا إليه أبدا، وإن استفرغوا جهودهم، وأنفدوا حيلهم وقواهم، ولو أرادوا أن يتعرفوا المعنى الذي لذلك المعنى صلحت النطفة على أن ينشأ منها العلقة والمضغة إلى أن ينشأ بشر سوي عليه، لعلموا أن من بلغت قدرته هذا، هو أحكم الحاكمين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم قرر تعالى على أحوال ابن آدم في بدايته التي إذا تؤملت لم ينكر معها جواز البعث من القبور عاقل.
فإن قيل: ما الفائدة في يمنى في قوله: {من مني يمنى}؟
قلنا: فيه إشارة إلى حقارة حاله، كأنه قيل: إنه مخلوق من المني الذي جرى على مخرج النجاسة، فلا يليق بمثل هذا الشيء أن يتمرد عن طاعة الله تعالى، إلا أنه عبر عن هذا المعنى، على سبيل الرمز كما في قوله تعالى في عيسى ومريم: {كانا يأكلان الطعام} والمراد منه قضاء الحاجة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي غير تعقيد ولا غموض يأتي بالدلائل الواقعة البسيطة التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى.. إنها دلائل نشأته الأولى..
ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك جنينا معتدلا منسق الأعضاء؟ مؤلفا جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحية، وهو في الأصل خلية واحدة مع بويضة؟ والرحلة المديدة التي قطعها من الخلية الواحدة إلى الجنين السوي -وهي أطول بمراحل من رحلته من مولده إلى مماته- والتغيرات التي تحدث في كيانه في الرحلة الجنينية أكثر وأوسع مدى من كل ما يصادفه من الأحداث في رحلته من مولده إلى مماته! فمن ذا الذي قاد هذه الرحلة المديدة، وهو خليقة صغيرة ضعيفة، لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب؟! ألم يك نطفة صغيرة من الماء، من مني يمنى ويراق؟ ألم تتحول هذه النطفة من خلية واحدة صغيرة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمد الغذاء؟ فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة؟ ومن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟ ومن ذا الذي وجهها هذا الإتجاه؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي أنَّ خلق الإِنسان من مادة ضعيفة وتدرجه في أطوار كيانِهِ دليل على إثبات القدرة على إنشائه إنشاء ثانياً بعد تفرق أجزائه واضمحلالها، فيتصل معنى الكلام هكذا: أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه ويُعد ذلك متعذراً. ألم نَبْدَأ خلقه إذْ كوَّنَّاه نطفة ثم تطوَّر خلقُه أطوَاراً فماذا يعجزنا أن نعيد خلقه ثانياً كذلك، قال تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده}...
فالإِنسان خُلق من ماء وطُوِّر أطواراً حتى صار جسداً حيّاً تامّ الخلقة والإِحساسِ فكان بعضه من صنف الذكور وبعضه من صنف الإِناث، فالذي قدر على هذا الخلق البديع لا يعجزه إعادة خلق كل واحد كما خلقه أول مرة بحكمة دقيقة وطريقة أخرى لا يعلمها إلاّ هو.