قوله عز وجل{ لا تحرك به لسانك لتعجل به } . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل :{ لا تحرك به لسانك لتعجل به } قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي كان يحرك لسانه وشفتيه فيشتد عليه ، وكان يعرف منه ، فأنزل الله عز وجل الآية التي في ( لا أقسم بيوم القيامة ) { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه } .
{ 16 - 19 } { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالوحي ، وشرع في تلاوته عليه ، بادره النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص قبل أن يفرغ ، وتلاه مع تلاوة جبريل إياه ، فنهاه الله عن هذا ، وقال : { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ }
كما قال - تعالى - : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ . إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } .
والضمير فى { به } يعود إلى القرآن الكريم المفهوم من المقام . والمراد بقوله : { لاَ تُحَرِّكْ } نهيه صلى الله عليه وسلم عن التعجيل فى القراءة .
والمقصود بقوله : قرآنه ، قراءته عليك ، وتثبيته على لسانك وفى قلبك بحيث تقرؤه متى شئت فهو مصدر مضاف لمفعوله .
قال الآلوسى : قوله : { وَقُرْآنَهُ } أى : إثبات قراءته فى لسانك ، فالقرآن هنا ، وكذا فيما بعده ، مصدر كالرجحان بمعنى القراءة . . مضاف إلى المفعول وقيل : قرآنه ، أى : تأليفه على لسانك . .
أى : لا تتعجل - أيها الرسول الكريم - بقراءة القرآن الكريم عندما تسمعه من أمين وحينا جبريل - عليه السلام - ، بل تريث وتمهل حتى ينتهى من قراءته ثم اقرأ من بعده ، فإننا قد تكفلنا بجمعه فى صدرك وبقراءته عليك عن طريق وحينا ، وما دام الأمر كذلك ، فمتى قرأ عليك جبريل القرآن فاتبع قراءته ولا تسبقه بها ، ثم إن علينا بعد ذلك بيان ما خفى عليك منه ، وتوضيح ما أشكل عليك من معانيه .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : هذا تعليم من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم فى كيفية تلقيه الوحى من الملك ، فإنه كان يبادر إلى أخذه ، ويسابق الملك فى قراءته .
روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال كان النبى صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ، فكان يحرك شفتيه - يريد أن يحفظه مخافة أن يتفلت منه شئ ، أو من شدة رغبته فى حفظه - فأنزل الله - تعالى - هذه الآيات .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد ضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يجمع له القرآن فى صدره وأن يجريه على لسانه ، بدون أى تحريف أو تبديل ، وأن يوضح له ما خفى عليه منه .
قالوا : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما نزل عليه الوحى بعد ذلك بالقرآن ، أطرق وأنصت ، وشبيه بهذه الآيات قوله - سبحانه - : { فتعالى الله الملك الحق وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }
ثم تجيء الآيات الأربع الخاصة بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في شأن الوحي وتلقي هذا القرآن :
( لا تحرك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه ) . .
وبالإضافة إلى ما قلناه في مقدمة السورة عن هذه الآيات ، فإن الإيحاء الذي تتركه في النفس هو تكفل الله المطلق بشأن هذا القرآن : وحيا وحفظا وجمعا وبيانا ؛ وإسناده إليه سبحانه وتعالى بكليته . ليس للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من أمره إلا حمله وتبليغه . ثم لهفة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه ؛ وأخذه مأخذ الجد الخالص ، وخشيته أن ينسى منه عبارة أو كلمة ، مما كان يدعوه إلى متابعة جبريل عليه السلام في التلاوة آية آية وكلمة كلمة يستوثق منها أن شيئا لم يفته ، ويتثبت من حفظه له فيما بعد !
وتسجيل هذا الحادث في القرآن المتلو له قيمته في تعميق هذه الإيحاءات التي ذكرناها هنا وفي مقدمة السورة بهذا الخصوص .
الضمير في { به } عائد على كتاب الله تعالى ولم يجر له ذكر ، ولكن القرائن تبينه ، فهذا كقوله تعالى : { توارت بالحجاب }{[11472]} [ ص : 32 ] ، وكقوله تعالى : { كلا إذا بلغت التراقي }{[11473]} يعني النفس ، واختلف المتأولون في السبب الموجب أن يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر ، فقال الشعبي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرصه على أداء الرسالة والاجتهاد في ذات الله تعالى ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي ، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يفضى إليه وحيه . وجاءت هذه الآية في هذا المعنى . وقال الضحاك . كان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق ، فنزلت الآية في ذلك ، وقال كثير من المفسرين وهو في صحيح البخاري عن ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ، وكان مما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه ، فنزلت الآية بسبب ذلك وأعمله الله تعالى أنه يجمعه له في صدره . {[11474]}
هذه الآية وقعت هنا معترضة . وسبب نزولها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يُحرك به لسانه يُريد أن يحفَظَه مخافةَ أن يتَفَلَّتَ منه ، أو من شدة رغبته في حِفْظه فكان يلاقي من ذلك شدة فأنَزَل الله تعالى : { لا تُحَرِّكْ به لسانك لتَعْجَل بِه إِنَّ علينا جمعَه وقرآنه } . قال : جَمْعَه في صدرك ثم تَقْرَأُه فإذا قرأنَاه فاتّبعْ قُرْآنه قال فاستَمِعْ له وأنْصِتْ ، ثم إن علينا أن نبيّنه بلسانك ، أي أن تقرأه » اه . فلما نزل هذا الوحي في أثناء نزول السورة للغرض الذي نزل فيه ولم يَكن سورةً مستقلة كان ملحقاً بالسورة وواقعاً بين الآي التي نَزَل بينها .