ولقد كانت نتيجة هذا الدعاء ، الإجابة السريعة ، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } .
أى : فأجبنا لنوح دعاءه ، ففتحنا أبوبا السماء بماء كثير منهمر ، أى : منصب على الأرض بقوة وبكثرة وتتابع . يقال : همر فلان الماء يهمر - بكسر الميم وضمها - إذا صبه بكثرة . وقراءة الجمهور { فَفَتَحْنَآ } بتخفيف التاء ، وقرأ ابن عامر بتشديدها على المبالغة .
قال الجمل : والمراد من الفتح والأبواب والسماء : حقائقها فإن للسماء أبوابا تفتح وتغلق . والباء فى قوله : { بِمَاءٍ } للتعدية على المبالغة ، حيث جعل الماء كالآلة التى يفتح بها ، كما تقول : فتحت بالمفتاح .
وما تكاد هذه الكلمات تقال ؛ وما يكاد الرسول يسلم الأمر لصاحبه الجليل القهار ، حتى تشير اليد القادرة القاهرة إلى عجلة الكون الهائلة الساحقة . . فتدور دورتها المدوية المجلجلة :
( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ) . .
وهي حركة كونية ضخمة غامرة تصورها ألفاظ وعبارات مختارة . تبدأ بإسناد الفعل إلى الله مباشرة : ( ففتحنا )فيحس القارئ يد الجبار تفتح ( أبواب السماء ) . . بهذا اللفظ وبهذا الجمع . ( بماء منهمر ) . . غزير متوال .
وقرأ جمهور القراء : «ففتَحنا » بتخفيف التاء . وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج : «ففتّحنا » بشدها على المبالغة ورجحها أبو حاتم لقوله تعالى : { مفتحة لهم الأبواب }{[10765]} [ ص : 50 ] ، قال النقاش : يعني بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرج العيبة{[10766]} ، وقال قوم من أهل التأويل : الأبواب حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء . وقال جمهور المفسرين : بل هو مجاز وتشبيه ، لأن المطر كثر كأنه من أبواب . والمنهمر الشديد الوقوع الغزير . قال امرؤ القيس : [ الرمل ]
راح تمْريه الصبا ثم انتحى . . . فيه شؤبوب جنوب منهمر{[10767]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فأجابه الله تعالى: {ففتحنا أبواب السماء}... {بماء منهمر} يعني منصب كثير...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فَفَتَحْنا لما دعانا نوح مستغيثا بنا على قومه" أبْوَابَ السّماءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ "وهو المندفق... عن سفيان "بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ" قال: ينصبّ انصبابا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال قوم من أهل التأويل: الأبواب حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء. وقال جمهور المفسرين: بل هو مجاز وتشبيه، لأن المطر كثر كأنه من أبواب. والمنهمر: الشديد الوقوع الغزير.
المسألة الأولى: المراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها أو هو مجاز؟ نقول فيه قولان؛
أحدهما: حقائقها وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا استبعاد فيه.
وثانيهما: هو على طريق الاستعارة، فإن الظاهر أن الماء كان من السحاب، وعلى هذا فهو كما يقول القائل: في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفتح أفواه القرب أي كأنه ذلك، فالمطر في الطوفان كان بحيث يقول القائل: فتحت أبواب السماء، ولا شك أن المطر من فوق.
المسألة الثالثة: الباء في قوله: {بماء منهمر} ما وجهه وكيف موقعه؟ نقول فيه وجهان؛ أحدهما: كما هي في قول القائل فتحت الباب بالمفتاح وتقديره هو أن يجعل كأن الماء جاء وفتح الباب وعلى هذا تفسير قول من يقول: يفتح الله لك بخير، أي يقدر خيرا يأتي، ويفتح الباب غاية الهطلان.
قوله تعالى: {ففتحنا} بيان أن الله انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله، كما قال تعالى: {وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين، إن كانت إلا صيحة واحدة} بيانا لكمال القدرة...
{بماء منهمر} والانهمار الانسكاب والانصباب صبا شديدا، والتحقيق فيه أن المطر يخرج من السماء التي هي السحاب خروج مترشح من ظرفه، وفي ذلك اليوم كان يخرج خروج مرسل خارج من باب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمنهمر: المنصب، أي المصبوب يقال: عمرَ الماء إذا صبه، أي نازل بقوة. فأرسلنا عليهم الطوفان بهذه الكيفية المحكمة السريعة.