قوله تعالى : { وجعلها } يعني هذه الكلمة . { كلمةً باقيةً في عقبه } قال مجاهد وقتادة : يعني كلمة التوحيد ، وهي لا إله إلا الله كلمة باقية في عقبه أي في ذريته . قال قتادة : لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده . وقال القرظي : يعني : جعل وصية إبراهيم التي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته ، وهو قوله عز وجل :{ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب } ( البقرة-143 ) . وقال ابن زيد : يعني قوله :{ أسلمت لرب العالمين }( البقرة-131 ) ، وقرأ :{ هو سماكم المسلمين } ( الحج-78 ) . { لعلهم يرجعون } لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه إلى دين إبراهيم . وقال السدي : لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله عز وجل .
{ وَجَعَلَهَا } أي : هذه الخصلة الحميدة ، التي هي أم الخصال وأساسها ، وهي إخلاص العبادة للّه وحده ، والتبرِّي من عبادة ما سواه .
{ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } أي : ذريته { لَعَلَّهُمْ } إليها { يَرْجِعُونَ } لشهرتها عنه ، وتوصيته لذريته ، وتوصية بعض بنيه -كإسحاق ويعقوب- لبعض ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } إلى آخر الآيات .
فلم تزل هذه الكلمة موجودة في ذريته عليه السلام حتى دخلهم الترف والطغيان .
وضمير الفاعل المستتر فى قوله - سبحانه - : { وَجَعَلَهَا . . . } يعود إلى الله - تعالى - .
أى : وجعل الله - تعالى - بفضله وكرمه ، كلمة التوحيد ، باقية فى عقب ابراهيم ، وفى ذرتيه من بعده ، بأن جعل من ذريته الأنبياء والصالحين الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا .
ويؤيد هذا المعنى قوله - تعالى - فى سورة الصافات : { سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ . . }
ويصح أن يكون ضمير الفاعل يعود إلى إبراهيم - عليه السلام - ، على معنى أنه وصى ذريته من بعده بعبادة الله - تعالى - وحده ، وأنه دعا ربه أن يجعل فى ذريته من يعبده وحده .
فيكون المعنى : وجعل ابراهيم هذه الكلمة وهى كلمة التوحيد باقية فى ذريته حيث أوصافهم بعبادة الله وحده .
ويشهد لذلك قوله - تعالى - : { ووصى بِهَآ } - أى بكلمة التوحيد - { إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ . . } .
ثم بين - سبحانه - الحكمة فى ذلك الجعل فقال : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أى : جعلها كذلك رجاء أن يرجع إلى كملة التوحيد من أشرك من ذرية ابراهيم ، ببركة دعائه لهم بالإِيمان ودعاء من آمن منهم .
فلقد حكى القرآن عن إبراهيم أن دعا الله - تعالى - بقوله : { رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي . . . } وبقوله : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام }
قال إبراهيم هذه الكلمة التي تقوم بها الحياة . كلمة التوحيد التي يشهد بها الوجود . قالها :
( وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) . .
ولقد كان لإبراهيم - عليه السلام - أكبر قسط في إقرار هذه الكلمة في الأرض ، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده ، عن طريق ذريته وعقبه . ولقد قام بها من بنيه رسل ، كان منهم ثلاثة من أولي العزم : موسى وعيسى ومحمد خاتم الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - واليوم بعد عشرات القرون يقوم في الأرض أكثر من ألف مليون ، من أتباع الديانات الكبرى يدينون بكلمة التوحيد لأبيهم إبراهيم ، الذي جعل هذه الكلمة باقية في
عقبه ، يضل منهم عنها من يضل ، ولكنها هي باقية لا تضيع ، ثابتة لا تتزعزع ، واضحة لا يتلبس بها الباطل ( لعلهم يرجعون ) . . يرجعون إلى الذي فطرهم فيعرفوه ويعبدوه . ويرجعون إلى الحق الواحد فيدركوه ويلزموه .
ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد قبل إبراهيم . ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعد إبراهيم . عرفتها على لسان نوح وهود وصالح وربما إدريس ، وغيره من الرسل الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة ، ويعيش بها ، ولها . فلما عرفتها على لسان إبراهيم ظلت متصلة في أعقابه ؛ وقام عليها من بعده رسل متصلون لا ينقطعون ، حتى كان ابنه الأخير من نسل إسماعيل ، وأشبه أبنائه به : محمد [ صلى الله عليه وسلم ] خاتم الرسل ، وقائل كلمة التوحيد في صورتها الأخيرة الكاملة الشاملة ، التي تجعل الحياة كلها تدور حول هذه الكلمة ، وتجعل لها أثراً في كل نشاط للإنسان وكل تصور .
فهذه هي قصة التوحيد منذ أبيهم إبراهيم الذي ينتسبون إليه ؛ وهذه هي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه . هذه هي تأتي إلى هذا الجيل على لسان واحد من عقب إبراهيم فكيف يستقبلها من ينتسبون إلى إبراهيم ، وملة إبراهيم ?
لقد بعد بهم العهد ؛ ومتعهم الله جيلاً بعد جيل ، حتى طال عليهم العمر ، ونسوا ملة إبراهيم ، وأصبحت كلمة التوحيد فيهم غريبة منكرة ، واستقبلوا صاحبها أسوأ استقبال وقاسوا الرسالة السماوية بالمقاييس الأرضية ، فاختل في أيديهم كل ميزان :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.