الأولى- قوله تعالى : " وجعلها كلمة باقية " الضمير في " جعلها " عائد على قوله : " إلا الذي فطرني " . وضمير الفاعل في " جعلها " لله عز وجل ، أي وجعل الله هذه الكلمة والمقالة باقية في عقبه ، وهم ولده وولد ولده ، أي إنهم توارثوا البراءة عن عبادة غير الله ، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك . والعقب من يأتي بعده . وقال السدي : هم آل محمد صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس : قوله : " في عقبه " أي في خلقه . وفي الكلام تقديم وتأخير ؛ المعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها كلمة باقية في عقبه . أي قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله . قال مجاهد وقتادة : الكلمة لا إله إلا الله . قال قتادة : لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة . وقال الضحاك : الكلمة أن لا تعبدوا إلا الله . عكرمة : الإسلام ؛ لقوله تعالى : " هو سماكم المسلمين من قبل " {[13614]} [ الحج : 78 ] . القرظي : وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه وهو قوله : " يا بني إن الله اصطفى لكم الدين " . [ البقرة : 132 ] الآية المذكورة في البقرة{[13615]} - كلمة باقية في ذريته وبنيه . وقال ابن زيد : الكلمة قوله : " أسلمت لرب العالمين " [ البقرة : 131 ] وقرأ " سماكم المسلمين من قبل " . وقيل : الكلمة النبوة . قال ابن العربي : ولم تزل النبوة باقية في ذرية إبراهيم . والتوحيد هم أصله وغيرهم فيه تبع لهم .
الثانية- قال ابن العربي : إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاب بدعوتيه المجابتين ، إحداهما في قوله : " إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " {[13616]} [ البقرة : 124 ] فقد قال نعم إلا من ظلم منهم فلا عهد . ثانيهما قوله : " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " {[13617]} [ إبراهيم : 35 ] . وقيل : بل الأولى قوله : " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " {[13618]} [ الشعراء : 84 ] فكل أمة تعظمه ، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو نوح .
الثالثة- قال ابن العربي : جرى ذكر العقب ها هنا موصولا في المعنى ، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى{[13619]} والتحبيس . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أيما رجل أعمر عُمْرَى له وأعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ) . وهي ترد على أحد عشر لفظا : اللفظ الأول : الولد ، وهو عند الإطلاق عبارة عمن وجد من الرجل وامرأته في الإناث والذكور . وعن ولد الذكور دون الإناث لغة وشرعا ؛ ولذلك وقع الميراث على الولد المعين وأولاد الذكور من المعين دون ولد الإناث لأنه من قوم آخرين ، ولذلك لم يدخلوا في الحبس بهذا اللفظ ، قاله مالك في المجموعة وغيرها .
قلت : هذا مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين ، ومن حجتهم على ذلك الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم مع قوله تعالى : " يوصيكم الله في أولادكم " {[13620]} [ النساء : 11 ] . وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس ، يقول المحبس : حبست على ولدي أو على عقبي . وهذا اختيار أبي عمر بن عبد البر وغيره ، واحتجوا بقول الله جل وعز : " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " {[13621]} [ النساء : 23 ] . قالوا : فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع علم أنها بنت ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أو عقبه . وقد مضى هذا المعنى في " الأنعام " {[13622]} مستوفى .
اللفظ الثاني : البنون ، فإن قال : هذا حبس على ابني ، فلا يتعدى الولد المعين ولا يتعدد . ولو قال ولدي ، لتعدى وتعدد في كل من ولد . وإن قال على بني ، دخل فيه الذكور والإناث . قال مالك : من تصدق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بناته يدخلن في ذلك . روى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته ، فإن بنات بنته يدخلن في ذلك مع بنات صلبه . والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنات لا يدخلون في البنين . فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن ابن ابنته ( إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) . قلنا : هذا مجاز ، وإنما أشار به إلى تشريفه وتقديمه ، ألا ترى أنه يجوز نفيه عنه فيقول الرجل في ولد بنته ليس بابني ، ولو كان حقيقة ما جاز نفيه عنه ؛ لأن الحقائق لا تنفى عن منتسباتها{[13623]} . ألا ترى أنه ينتسب إلى أبيه دون أمه ؛ ولذلك قيل في عبد الله بن عباس : إنه هاشمي وليس بهلالي وإن كانت أمه هلالية .
قلت : هذا الاستدلال غير صحيح ، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة لوجود معنى الولادة فيه ، ولأن أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنت البنت من قول الله تعالى : " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " [ النساء : 23 ] . وقال تعالى : " ومن ذريته داود وسليمان " إلى قوله " من الصالحين " {[13624]} [ الأنعام : 84 - 85 ] فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته على ما تقدم بيانه هناك . فإن قيل فقد قال الشاعر :
بنونا بنو أبنائنا ، وبناتُنا *** بنوهُنّ أبناءُ الرجال الأباعدِ
قيل لهم : هذا لا دليل فيه ؛ لأن معنى قوله : إنما هو ولد بنيه الذكران هم الذين لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب ، وإن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك ؛ إذ ينتسبون إلى غيره فأخبر بافتراقهم بالحكم مع اجتماعهم في التسمية ولم ينف عن ولد البنات اسم الولد لأنه ابن ، وقد يقول الرجل في ولده ليس هو بابني إذ لا يطيعني ولا يرى لي حقا ، ولا يريد بذلك نفي اسم الولد عنه ، وإنما يريد أن ينفي عنه حكمه . ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولدا فقد أفسد معناه وأبطل فائدته ، وتأول على قائله ما لا يصح ؛ إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في اللسان العربي ابنا ، ولا يسمى ولد الابنة ابنا ؛ من أجل أن معنى الولادة التي اشتق منها اسم الولد فيه أبين وأقوى ؛ لأن ولد الابنة هو ولدها بحقيقة الولادة ، وولد الابن إنما هو ولده بمال مما كان سببا للولادة . ولم يخرج مالك رحمه الله أولاد البنات من حبس على ولده من أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان ، وإنما أخرجهم منه قياسا على الموارثة . وقد مضى هذا في " الأنعام " {[13625]} والحمد لله . اللفظ الثالث : الذرية ، وهي مأخوذة من ذرأ الله الخلق ، فيدخل فيه ولد البنات لقوله : " ومن ذريته داود وسليمان " إلى أن قال " وزكريا ويحيى وعيسى " [ الأنعام : 84 - 85 ] . وإنما كان من ذريته من قبل أمه . وقد مضى في " البقرة " {[13626]} اشتقاق الذرية وفي " الأنعام " الكلام على " ومن ذريته " [ الأنعام : 84 ] الآية ، فلا معنى للإعادة . اللفظ الرابع : العقب ، وهو في اللغة عبارة عن شيء بعد شيء كان من جنسه أو من غير جنسه ، يقال : أعقب الله بخير ، أي جاء بعد الشدة بالرخاء . وأعقب الشيب السواد . وعقب يعقب عقوبا وعقبا إذا جاء شيئا بعد شيء ؛ ولهذا قيل لولد الرجل : عقبه . والمِعْقَاب من النساء : التي تلد ذكرا بعد أنثى ، هكذا أبدا وعقب الرجل : ولده وولد ولده الباقون بعده . والعاقبة الولد . قال يعقوب : في القرآن " وجعلها كلمة باقية في عقبه " وقيل : بل الورثة كلهم عقب . والعاقبة الولد ؛ ولذلك فسره مجاهد هنا . وقال ابن زيد : ها هنا هم الذرية . وقال ابن شهاب : هم الولد وولد الولد . وقيل غيره على ما تقدم عن السدي . وفي الصحاح والعقب ( بكسر القاف ) مؤخر القدم وهي مؤنثة . وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده . وفيه لغتان : عقب وعقب ( بالتسكين ) وهي أيضا مؤنثة ، عن الأخفش . وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده . وعقب فلان مكان أبيه عاقبة أي خلفه ، وهو اسم جاء بمعنى المصدر كقوله تعالى : " ليس لوقعتها كاذبة " {[13627]} [ الواقعة : 2 ] . ولا فرق عند احد من العلماء بين لفظ العقب والولد في المعنى . واختلف في الذرية والنسل فقيل إنهما بمنزلة الولد والعقب ، لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك . وقيل : إنهم يدخلون فيهما . وقد مضى الكلام في الذرية هنا وفي " الأنعام " {[13628]} . اللفظ الخامس : نسلي ، وهو عند علمائنا كقول : ولدي وولد ولدي ، فإنه يدخل فيه ولد البنات . ويجب أن يدخلوا ؛ لأن نسل به بمعنى خرج ، وولد البنات قد خرجوا منه بوجه ، ولم يقترن به ما يخصه كما اقترن بقول عقبي ما تناسلوا . وقال بعض علمائنا : إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه والد البنات ، إلا أن يقول المحبس نسلي ونسل نسلي ، كما إذا قال : عقبي وعقب عقبي ، وأما إذا قال ولدي أو عقبي مفردا فلا يدخل فيه البنات . اللفظ السادس : الآل ، وهم الأهل ، وهو اللفظ السابع . قال ابن القاسم : هما سواء ، وهم العصبة والإخوة والبنات والعمات ، ولا يدخل فيه الخالات . وأصل أهل الاجتماع يقال : مكان أهل إذا كان فيه جماعة ، وذلك بالعصبة ومن دخل في القعدد{[13629]} من النساء والعصبة مشتقة منه وهي أخصى به . وفي حديث الإفك : يا رسول الله ، أهلك ! ولا نعلم إلا خيرا ، يعني عائشة . ولكن لا تدخل فيه الزوجة بإجماع وإن كانت أصل التأهل ؛ لأن ثبوتها ليس بيقين إذ قد يتبدل ربطها وينحل بالطلاق . وقد . قال مالك : آل محمد كل تقي ، وليس من هذا الباب . وإنما أراد أن الإيمان أخصى من القرابة فاشتملت عليه الدعوة وقصد بالرحمة . وقد قال أبو إسحاق التونسي : يدخل في لأهل كل من كان من جهة الأبوين ، فوفى الاشتقاق حقه وغفل عن العرف ومطلق الاستعمال . وهذه المعاني إنما تبنى على الحقيقة أو على العرف المستعمل عند الإطلاق ، فهذان لفظان .
اللفظ الثامن : قرابة ، فيه أربعة أقوال : الأول : قال مالك في كتاب محمد بن عبدوس : إنهم الأقرب فالأقرب بالاجتهاد ، ولا يدخل فيه ولد البنات ولا ولد الخالات . الثاني : يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه ، قاله علي بن زياد . الثالث : قال أشهب : يدخل فيه كل رحم من الرجال والنساء . الرابع : قال ابن كنانة : يدخل فيه الأعمام والعمات والأخوال والخالات وبنات الأخت . وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " {[13630]} [ الشورى : 23 ] قال : إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم . وقال : لم يكن بطن من قريش إلا كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ، فهذا يضبطه والله أعلم .
اللفظ التاسع : العشيرة ، ويضبطه الحديث الصحيح : إن الله تعالى لما أنزل : " وأنذر عشيرتك الأقربين " {[13631]} [ الشعراء : 214 ] دعا النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وسماهم - كما تقدم ذكره - وهم العشيرة الأقربون ، وسواهم عشيرة في الإطلاق . واللفظ يحمل على الأخص الأقرب بالاجتهاد ، كما تقدم من قول علمائنا .
اللفظ العاشر : القوم ، يحمل ذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء . والقول يشمل الرجال والنساء ، وإن كان الشاعر قد قال :
وما أدري وسوف إِخَالُ أدري *** أقوم آل حِصْنٍ أم نساء
ولكنه أراد أن الرجل إذا دعا قومه للنصرة عنى الرجال ، وإذا دعاهم للحرمة دخل فيهم الرجال والنساء ، فتعممه الصفة وتخصصه القرينة . اللفظ الحادي عشر : الموالي ، قال مالك : يدخل فيه موالي أبيه وابنه مع مواليه . وقال ابن وهب : يدخل فيه أولاد مواليه . قال ابن العربي : والذي يتحصل منه أنه يدخل فيه من يرثه بالولاء . قال : وهذه فصول الكلام وأصول المرتبطة بظاهر القرآن والسنة المبينة له ، والتفريع والتتميم في كتاب المسائل ، والله أعلم .