فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (28)

{ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } الضمير في جعلها عائد إلى قوله إلا الذي فطرني ، وهي بمعنى التوحيد كأنه قال : وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم ، وهم ذريته ، فلا يزال فيهم من يوحد الله ، وفاعل جعلها إبراهيم ، وذلك حيث وصاهم بالتوحيد ، وأمرهم أن يدينوا به ، كما في قوله : { ووصّى بِها إِبْراهِيمُ بنِيهِ ويعْقُوبُ } الآية ، وقيل : الفاعل هو الله عز وجل ، أي وجعل الله سبحانه كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم ، والعقب من بعد ، قال مجاهد وقتادة . الكلمة لا إله إلا الله ، لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة ، ويوحده ويدعو إلى توحيده وقال عكرمة : هي الإسلام ، قال ابن زيد : الكلمة هي قوله { أسلمت لرب العالمين } قال ابن عباس : كلمة باقية لا إله إلا الله وعقب إبراهيم ولده .

{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } تعليل للجعل أي جعلها باقية رجاء أن يرجع إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد ، وقيل : الضمير في لعلهم يرجع إلى أهل مكة أي لعل أهلها يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها الخ ، قال السدي : لعلهم يتوبون فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله ، قال الرازي في تفسيره .

والمقصود من هذه الآية ذكر وجه آخر يدل على فساد القول بالتقليد ، وتقريره من وجهين ، الأول أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تبرأ عن دين آبائه بناء على الدليل ، فنقول : إما أن يكون تقليد الآباء في الأديان محرما أو جائزا فإن كان محرما فقد بطل القول بالتقليد ، وإن كان جائزا فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو إبراهيم عليه السلام ، وذلك لأنه ليس لهم فخر ولا شرف إلا بأنهم من أولاده ، وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول : إنه ترك دين الآباء وحكم بأن إتباع الدليل أولى من متابعة الآباء ، وإذا كان كذلك وجب تقليده في ترك تقليد الآباء ، ووجب تقليده في ترجيح الدليل على التقليد .

وإذا ثبت هذا فنقول : فقد ظهر أن القول بوجوب التقليد يوجب المنع من التقليد ، وما أفضى ثبوته إلى نقله كان باطلا ، فوجب أن يكون القول بالتقليد باطلا ، فهذا طريق دقيق في إبطال التقليد ، وهو المراد من هذه الآية ، الوجه الثاني في بيان أن ترك التقليد والرجوع إلى متابعة الدليل أولى في الدنيا والدين ، أنه تعالى بين أن إبراهيم عليه السلام لما عدل عن طريقة أبيه إلى متابعة الدليل ، لا جرم جعل الله دينه ومذهبه باقيا في عقبه إلى يوم القيامة ، وأما أديان آبائه فقد اندرست وبطلت ، فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة ، وأن التقليد والإصرار ينقطع أثره ولا يبقى منه في الدنيا خبر ، ولا أثر ، فثبت من هذين الوجهين أن متابعة الدليل ، وترك التقليد أولى ، فهذا بيان المقصود الأصلي من هذه الآية انتهى .