ثم بين - سبحانه - أن أحدا لن يستطيع منع عقابه فقال : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } .
أى : فما منكم من أحد - أيها المشركون - يستطيع أن يدفع عقابنا عنه ، أو يحول بيننا وبين ما نريده ، فالضمير فى " عنه " يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآيات : التقول : افتعال القول ، كأن فيه تكلفا من المفتعل ، وسمى الأقوال المتقولة " أقاويلط تصغيراً بها وتحقيرا ، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة من القول .
والمعنى : ولو ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا ، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم .
معالجة بالسخط والانتقام ، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده ، وتضرب رقبته .
وخص اليمين عن اليسار ، لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب فى قفا المقتول أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه فى جيده وأن يكفحه بالسيف - وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف - أخذ بيمينه .
ومعنى : { لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين } : لأخذنا بيمينه . كما أن قوله : { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } : لقطعنا وتينه ، والوتين : نياط القلب ، وهو حبل الوريد ، إذا قطع مات صاحبه .
وفى هذه الآيات الكريمة أقوى الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - لأنه لو كان - كما زعم الزاعمون أنه من تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم لما نطق بهذه الألفاظ التى فيها ما فيها من تهديده ووعيده .
كما أنها كذلك فيها إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يتقول شيئا . . وإنما بلّغ هذا القرآن عن ربه - عز وجل - دون أن يزيد حرفا أو ينقص حرفا . . لأن حكمة الله - تعالى - قد اقتضت أن يهلك كل من يفترى عليه الكذب ، ومن يزعم أن الله - تعالى - أوحى إليه ، مع أنه - سبحانه - لم يوح إليه .
وفي النهاية يجيء ذلك التهديد الرعيب ، لمن يفتري على الله في شأن العقيدة وهي الجد الذي لا هوادة فيه . يجيء لتقرير الإحتمال الواحد الذي لا احتمال غيره ، وهو صدق الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وأمانته فيما أبلغه إليهم أو يبلغه . بشهادة أن الله لم يأخذه أخذا شديدا . كما هو الشأن لو انحرف أقل انحراف عن أمانة التبليغ :
( ولو تقول علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين ) . .
ومفاد هذا القول من الناحية التقريرية أن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] صادق فيما أبلغهم . وأنه لو تقول بعض الأقاويل التي لم يوح بها إليه ، لأخذه الله فقتله على هذا النحو الذي وصفته الآيات . ولما كان هذا لم يقع فهو لا بد صادق .
هذه هي القضية من الناحية التقريرية . . ولكن المشهد المتحرك الذي ورد فيه هذا التقرير شيء آخر ، يلقي ظلالا بعيدة وراء المعنى التقريري . ظلالا فيها رهبة وفيها هول . كما أن فيها حركة وفيها حياة . ووراءها إيحاءات وإيماءات وإيقاعات !
فيها حركة الأخذ باليمين وقطع الوتين . وهي حركة عنيفة هائلة مروعة حية في الوقت ذاته . ووراءها الإيحاء بقدرة الله العظيمة وعجز المخلوق البشري أمامها وضعفه . . البشر أجمعين . . كما أن وراءها الإيماء إلى جدية هذا الأمر التي لا تحتمل تسامحا ولا مجاملة لأحد كائنا من كان . ولو كان هو محمد الكريم عند الله الأثير الحبيب . ووراءها بعد هذا كله إيقاع الرهبة والهول والخشوع !
وأما موقع تفريع قوله : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } فهو شديد الاتصال بما استتبعه فرض التقوُّل من تأييسهم من أن يتقول على الله كلاماً لا يسوءَهم ، ففي تلك الحالة من أحوال التَقوُّل لو أخذنَا منه باليمين فقطعنا منه الوتين ، لا يستطيع أحد منكم أو من غيركم أن يحجز عنه ذلك العقاب ، وبدون هذا الاتصال لا يَظهر معنى تعجيزهم عن نصره إذ ليسوا من الولاء له بمظنة نصره ، فمعنى هذه الآية يحوم حول معنى قوله : { وإن كادُوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذن لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدتَ تركَنُ إليهم شيئاً قليلاً إذنْ لأذقناك ضِعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً } [ الإسراء : 73 75 ] .
والخطاب في قوله : { منكم } للمشركين .
وإنما أخبر عن { أحد } وهو مفرد ب { حاجزين } جمعاً لأن { أحد } هنا وإن كان لفظه مفرداً فهو في معنى الجمع لأن { أحد } إذا كان بمعنى ذات أو شخص لا يقع إلاّ في سياق النفي مثل عَريب ، ودَيّار ونحوهما من النكرات التي لا تستعمل إلاّ منفية فيفيد العموم ، أي كل واحد لا يستطيع الحجز عنه ويستوي في لفظه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى : { لا نُفرق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] وقال : { لَسْتُنَّ كأحدٍ من النساء } [ الأحزاب : 32 ] .
والمعنى : ما منكم أناس يستطيعون الحجز عنه .
والحجز : الدفع والحيلولة ، أي لا أحد منكم يحجزنا عنه . والضمير عائد إلى { رسول كريم } [ الحاقة : 40 ] .
و { مِن } في قوله : { مِن أحد } مزيدة لتأكيد النفي وللتنصيص على العموم . وذِكر { منكم } مع { عنه } تجنيس محرّف .
وهذه الآية دليل على أن الله تعالى لا يُبقي أحداً يدعي أن الله أوحى إليه كلاماً يبلغه إلى الناس ، وأنه يعجل بهلاكه .
فأما من يدعي النبوءة دون ادعاء قوللٍ أُوحي إليه ، فإن الله قد يهلكه بعد حين كما كان في أمر الأسود العنسي الذي ادعى النبوءة باليَمن ، ومُسيلمة الحنفي الذي ادعى النبوءة في اليَمامة ، فإنهما لم يأتيا بكلام ينسبانه إلى الله تعالى ، فكان إهلاكهما بعد مدة ، ومثْلهما من ادعَوا النبوءة في الإِسلام مثل ( بَابك ومازيّار ) .
وقال الفخر : « قيل : اليمين بمعنى القُوة والقدرة ، والمعنى : لأخذنا منه اليمينَ ، أي سلبنا عنه القوة ، والباء على هذا التقدير صلة زائدة . واعلم أن حاصل هذا أنه لو نسب إلينا قولاً لم نقله لمنعناه عن ذلك : إِما بواسطة إقامة الحجة فإنا نقيض له من يعارضه فيه وحينئذٍ يظهر للناس كذبه فيه فيكون ذلك إبطالاً لدعواه وهدْماً لكلامه ، وإما بأن نسلب عنه القدرة على التكلم بذلك القول ، وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشتبه الصادق بالكاذب » اه . فركّب من تفسير اليمين بمعنى القوة ، أن المراد قوة المتقوِّل لا قوة الله وانتزع من ذلك تأويل الباء على معنى الزيادة ولم يسبقه بهذا التأويل أحد من المفسرين ولا تَبعه فيه مَن بعده فيما رأينا . وفيه نظر ، وقد تبين بما فسرنا به الآية عدم الاحتجاج إلى تأويل الفخر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ليس أحد منكم يحجز الرب عز وجل عن ذلك.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فما منكم أيها الناس من أحد عن محمد -لو تقوّل علينا بعض الأقاويل، فأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين- حاجزين يحجزوننا عن عقوبته، وما نفعله به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ففي هذا يأس منه لأولئك الكفرة لأنهم كانوا يطعمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعهم وموافقتهم على ملتهم، فأخبر أنه لو أجابهم لقطع منه وتينه، وأخذه، لا يملكون منع ذلك عنه ولا دفعه، ولم يكن أحد ينصره عند ذلك، أو يحجزه عنها. وهو كقوله عز وجل {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك} إلى قوله: {إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا} [الإسراء 73 و 74 و 75].
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فالحاجز هو الحائل بين الشيئين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 44]
وفي النهاية يجيء ذلك التهديد الرعيب، لمن يفتري على الله في شأن العقيدة وهي الجد الذي لا هوادة فيه. يجيء لتقرير الاحتمال الواحد الذي لا احتمال غيره، وهو صدق الرسول [صلى الله عليه وسلم] وأمانته فيما أبلغه إليهم أو يبلغه. بشهادة أن الله لم يأخذه أخذا شديدا. كما هو الشأن لو انحرف أقل انحراف عن أمانة التبليغ:
(ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين)..
ومفاد هذا القول من الناحية التقريرية أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] صادق فيما أبلغهم. وأنه لو تقول بعض الأقاويل التي لم يوح بها إليه، لأخذه الله فقتله على هذا النحو الذي وصفته الآيات. ولما كان هذا لم يقع فهو لا بد صادق.
هذه هي القضية من الناحية التقريرية.. ولكن المشهد المتحرك الذي ورد فيه هذا التقرير شيء آخر، يلقي ظلالا بعيدة وراء المعنى التقريري. ظلالا فيها رهبة وفيها هول. كما أن فيها حركة وفيها حياة. ووراءها إيحاءات وإيماءات وإيقاعات!
فيها حركة الأخذ باليمين وقطع الوتين. وهي حركة عنيفة هائلة مروعة حية في الوقت ذاته. ووراءها الإيحاء بقدرة الله العظيمة وعجز المخلوق البشري أمامها وضعفه.. البشر أجمعين.. كما أن وراءها الإيماء إلى جدية هذا الأمر التي لا تحتمل تسامحا ولا مجاملة لأحد كائنا من كان. ولو كان هو محمد الكريم عند الله الأثير الحبيب. ووراءها بعد هذا كله إيقاع الرهبة والهول والخشوع!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: ما منكم أناس يستطيعون الحجز عنه. والحجز: الدفع والحيلولة، أي لا أحد منكم يحجزنا عنه. والضمير عائد إلى {رسول كريم} [الحاقة: 40]. و {مِن} في قوله: {مِن أحد} مزيدة لتأكيد النفي وللتنصيص على العموم. وذِكر {منكم} مع {عنه} تجنيس محرّف.
وهذه الآية دليل على أن الله تعالى لا يُبقي أحداً يدعي أن الله أوحى إليه كلاماً يبلغه إلى الناس، وأنه يعجل بهلاكه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهكذا كانت الآيات حاسمة في مسألة تحريف القرآن بالزيادة عليه، بحيث لو كان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) هو الذي يقوم بذلك لتعرض لجزاء الله ولكنه (صلى الله عليه وسلم) الصادق في كلامه، لا يقول إلا حقاً وصدقاً، الأمين على كل شيء، لا سيّما على وحي الله، فلا يزيد فيه شيئاً، ولا يخون أمانة الله في كتابه، بل يقدّمه إلى الأمة كلها كما أنزله الله مصوناً من أيّة زيادة ومن أي نقصان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وقد يتساءل البعض قائلا: إذا كان الموت الفوري والهلاك الحتمي هو عقوبة كلّ من يكذب على الله سبحانه، فهذا يستلزم هلاك جميع من يدّعي النبوّة كذباً وبسرعة، وهذا ما لم يلاحظ في حياتنا العملية، حيث بقي الكثير منهم لسنين طويلة. بل حتّى معتقداتهم الباطلة بقيت أيضاً فترة زمنية من بعدهم.
الجواب يتّضح جليّاً بالانتباه إلى ما يلي: وهو أنّ القرآن الكريم لم يقل بأنّ الله يهلك كلّ مدّع يدّعي النبوّة.. بل إنّه سبحانه خصّص هذه العقوبة لشخص الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما لو انحرف عن طريق الحقّ، فسوف لن يهمل لحظة واحدة، لأنّه يكون سبباً لضياع الرسالة وضلال الناس.
أمّا الأشخاص الذين يدّعون ادّعاءات باطلة، وليس لديهم أي دليل عليها، فليس هنالك ضرورة لأن يهلكهم الله فوراً، لأنّ بطلان ادّعاءاتهم واضح لكلّ من يطلب الحقّ، إلاّ أنّ الأمر يلتبس ويصعب حينما يكون الادّعاء بالنبوّة مقترناً بأدلّة ومعاجز دامغة كما هو بالنسبة للنبي الإلهي، فإنّ ذلك ممّا يؤدّي إلى الانحراف عن طريق الحقّ.
ومن هنا يتّضح بطلان ادّعاء بعض (الفرق الضالّة) لإثبات ما يقوله أسيادهم من خلال الاستشهاد بهذه الآية المباركة. فلو صحّ ذلك لكان (مسيلمة الكذّاب) وكلّ مدّع كاذب من أمثاله يستطيعون إثبات ادّعاءاتهم من خلال الاستدلال بهذه الآية أيضاً.