قوله تعالى : { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } قيل : أراد به السفن الصغار التي عملت بعد سفينة نوح على هيئتها . وقيل : أراد بالسفن التي تجري في الأنهار ، فهي في الأنهار كالفلك الكبار في البحار ، هذا قول قتادة ، و الضحاك وغيرهما :
وروي عن ابن عباس أنه قال : ( ( وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ) ) ، يعني : الإبل ، فالإبل في البر كالسفن في البحر .
{ وَخَلَقْنَا لَهُمْ } أي : للموجودين من{[755]} بعدهم { مِنْ مِثْلِهِ } أي : من مثل ذلك الفلك ، أي : جنسه { مَا يَرْكَبُونَ } به ، فذكر نعمته على الآباء بحملهم في السفن ، لأن النعمة عليهم ، نعمة على الذرية . وهذا الموضع من أشكل المواضع عليَّ في التفسير ، فإن ما ذكره كثير من المفسرين ، من أن المراد بالذرية الآباء ، مما لا يعهد في القرآن إطلاق الذرية على الآباء ، بل فيها من الإيهام ، وإخراج الكلام عن موضوعه ، ما يأباه كلام رب العالمين ، وإرادته البيان والتوضيح لعباده .
وثَمَّ احتمال أحسن من هذا ، وهو أن المراد بالذرية الجنس ، وأنهم هم بأنفسهم ، لأنهم هم من ذرية [ بني ] آدم ، ولكن ينقض هذا المعنى قوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } إن أريد : وخلقنا من مثل ذلك الفلك ، أي : لهؤلاء المخاطبين ، ما يركبون من أنواع الفلك ، فيكون ذلك تكريرا للمعنى ، تأباه فصاحة القرآن . فإن أريد بقوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } الإبل ، التي هي سفن البر ، استقام المعنى واتضح ، إلا أنه يبقى أيضا ، أن يكون الكلام فيه تشويش ، فإنه لو أريد هذا المعنى ، لقال : وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَاهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُون ، ِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ، فأما أن يقول في الأول : وحملنا ذريتهم ، وفي الثاني : حملناهم ، فإنه لا يظهر المعنى ، إلا أن يقال : الضمير عائد إلى الذرية ، واللّه أعلم بحقيقة الحال .
فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع ، ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد اللّه تعالى ، وذلك أن من عرف جلالة كتاب اللّه وبيانه التام من كل وجه ، للأمور الحاضرة والماضية والمستقبلة ، وأنه يذكر من كل معنى أعلاه وأكمل ما يكون من أحواله ، وكانت الفلك من آياته تعالى ونعمه على عباده ، من حين أنعم عليهم بتعلمها إلى يوم القيامة ، ولم تزل موجودة في كل زمان ، إلى زمان المواجهين بالقرآن .
فلما خاطبهم اللّه تعالى بالقرآن ، وذكر حالة الفلك ، وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك في غير وقتهم ، وفي غير زمانهم ، حين يعلمهم [ صنعة ] الفلك [ البحرية ] الشراعية منها والنارية ، والجوية السابحة في الجو ، كالطيور ونحوها ، [ والمراكب البرية ] مما كانت الآية العظمى فيه لم توجد إلا في الذرية ، نبَّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال :
{ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أي : المملوء ركبانا وأمتعة .
وقوله - تعالى - : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } بيان لنعمة أخرى من نعمه - تعالى - على عباده .
والضمير فى قوله - تعالى - : { مِّن مِّثْلِهِ } يعود على السفن المشبهة لسفينة نوح - عليه السلام - .
قال القرطبى : ما ملخصه قوله - تعالى - : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } والأصل ما يركبونه . . . والضمير فى { مِّن مِّثْلِهِ } للإِبل . خلقها لهم للركوب فى البر ، مثل السفن المركوبة فى البحر ، والعرب تشبه الإِبل بالسفن . وقيل إنه للإِبل والدواب وكل ما يركب .
والأصح أنه للسفن . أى : خلقنا لهم سفنا أمثالها ، أى : أمثال سفينة نوح يركبون فيها .
قال الضحاك وغيره : هى السفن المتخذة بعد سفينة نوح - عليه السلام - .
وقوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } : قال العَوْفي ، عن ابن عباس : يعني بذلك : الإبل ، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها . وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة - في رواية - عبد الله بن شَداد ، وغيرهم . {[24761]}
وقال السدي - في رواية - : هي الأنعام .
وقال ابن جرير : حدثنا الفضل بن الصباح ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير{[24762]} ، عن ابن عباس قال : تدرون ما { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } ؟ قلنا : لا . قال : هي السفن ، جعلت من بعد سفينة نوح على مثلها .
وكذا قال [ غير واحد و ]{[24763]} أبو مالك ، والضحاك ، وقتادة ، وأبو صالح ، والسدي أيضًا : المراد بقوله :{[24764]} { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } : أي السفن .
ويُقَوِّي هذا المذهب في المعنى قوله تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11 ، 12 ] .
{ آية } معناه علامة ودليل ، ورفعها بالابتداء وخبره في قوله { لهم } ، و { أنا } بدل من { آية } وفيه نظر ، ويجوز أن تكون «أن » مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، والحمل منع الشيء أن يذهب سفلاً ، وذكر الذرية لضعفهم عن السفر فالنعمة فيهم أمكن ، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش «ذرياتهم » بالجمع ، وقرأ الباقون «ذريتهم » بالإفراد ، وهي قراءة طليحة وعيسى ، والضمير المتصل بالذريات هو ضمير الجنس ، كأنه قال ذريات جنسهم أو نوعهم هذا أصح ما اتجه في هذا ، وخلط بعض الناس في هذا حتى قالوا الذرية تقع على الآباء وهذا لا يعرف لغة ، وأما معنى الآية فيحتمل تأويلين : أحدهما قاله ابن عباس وجماعة ، وهو أن يريد ب «الذريات المحمولين » أصحاب نوح في السفينة ، ويريد بقوله { من مثله } السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة ، وإياها أراد الله تعالى بقوله { وإن نشأ نغرقهم } ، والتأويل الثاني قاله مجاهد والسدي وروي عن ابن عباس أيضاً هو أن يريد بقوله { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة .
ويريد بقوله { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } الإبل وسائر ما يركب فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلغ إلى الأقطار فقط ، ويعود قوله { وإن نشأ نغرقهم } على السفن الموجودة في الناس ، وأما من خلط القولين فجعل الذرية في الفلك في قوم نوح في سفينة وجعل { من مثله } في الإبل فإن هذا نظر فاسد يقطع به قوله تعالى : { وإن نشأ نغرقهم } فتأمله ، و { الفلك } جمع على وزنه هو الإفراد معناه الموفر ، و { من } في قوله { من مثله } ، يتجه على أحد التأويلين : أن تكون للتبعيض ، وعلى التأويل الآخر أن تكون لبيان الجنس فانظره ، ويقال الإبل مراكب البر .
وجملة { وخَلَقْنَا لهُمْ مِن مِثْلِهِ ما يركَبُونَ } معترضة في خلال آية البحر اقتضتها مراعاة النظير تذكيراً بنعمة خلق الإِبل صالحة للأسفار فحُكيت آية الإِلهام بصنع الفلك من حيث الحكمة العظيمة في الإِلهام وتسخير البحر لها وإيجادها في وقت الحاجة لحفظ النوع ، فلذلك لم يؤت في جانبها بفعل الخلق المختص بالإِيجاد دون صنع الناس . وحكيت آية اتخاذ الرواحل بفعل { خلقنا } ، ونظير هذه المقارنة قوله تعالى : { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } [ الزخرف : 12 ] ، فَمَا صدْق { مَا يَركَبُونَ } هنا هو الرواحل خاصة لأنها التي تشبه الفلك في جعلها قادرة على قطع الرمال كما جعل الفلك صالحاً لمخْر البحار ، وقد سمت العرب الرواحل سفائن البرّ و { مِن } التي في قوله : { مِن مِثلِهِ } بيانية بتقديم البيان على المبين وهو جائز على الأصح ، أو مؤكدة ومجرورها أصله حال من { ما } الموصولة في قوله : { ما يركَبُون } . والمراد المماثلة في العظمة وقوة الحمل ومداومة السير وفي الشكل .