ثم كانت بعد ذلك المفاجأة الكبرى فقد آمن السحرة حين رأوا ما رأوا بعد أن ألقى موسى ما فى يمينه ، قال - تعالى - : { فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } .
قال الآلوسى : " والفاء فى قوله { فَأُلْقِيَ . . . } فصيحة معربة عن جمل غنية عن التصريح " .
أى : فزال الخوف ، وألقى موسى ما في يمينه ، وصارت حية ، وتلقفت حبالهم وعصيهم ، وعلم السحرة أن ذلك معجزة ، فخروا سجدا لله على وجوههم قائلين آمنا برب هارون وموسى .
والحق أن التعبير بقوله - تعالى - : { فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً . . . } يدل على قوة البرهان الذى عاينوه ، حتى لكأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التى عاينوها ، وأطلق - سبحانه - عليهم اسم السحرة فى حال سجودهم له - تعالى - وإيمانهم به ، نظرا إلى حالهم الماضية .
وهكذا النفوس النقية عندما يتبين لها الحق ، لا تلبث أن تفىء إليه ، وتستجيب لأهله . قال الكرخى : خروا ساجدين لله لأنهم كانوا فى أعلى طبقات السحر ، فلما رأوا ما فعله موسى خارجا عن صناعتهم ، عرفوا أنه ليس من السحر البتة .
وقال صاحب الكشاف : " ما أعجب أمرهم ، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود . ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود . فما أعظم الفرق بين الإلقاءين " .
( فألقي السحرة سجدا . قالوا : آمنا برب هارون وموسى ) . .
إنها اللمسة تصادف العصب الحساس فينتفض الجسم كله . وتصادف " الزر الصغير " فينبعث النور ويشرق الظلام . إنها لمسة الإيمان للقلب البشري تحوله في لحظة من الكفر إلى الإيمان .
ولكن أنى للطغاة أن يدركوا هذا السر اللطيف ? أنى لهم أن يدركوا كيف تتقلب القلوب ? وهم قد نسوا لطول ما طغوا وبغوا ، ورأوا الأتباع ينقادون لإشارة منهم ، نسوا أن الله هو مقلب القلوب ؛ وأنها حين تتصل به وتستمد منه وتشرق بنوره لا يكون لأحد عليها سلطان :
فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه ، ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه ، علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل ، وأنه حق لا مرية فيه ، ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون ، فعند ذلك وقعوا سُجَّدًا لله وقالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [ الشعراء : 47 ، 48 ] .
ولهذا قال ابن عباس ، وعُبَيد بن عُمَير : كانوا أول النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء بررة .
قال محمد بن كعب : كانوا ثمانين ألفًا ، وقال القاسم بن أبي بزَّة : كانوا سبعين ألفًا .
وقال السدي : بضعة وثلاثين ألفًا .
وقال الثوري : عن عبد العزيز بن رُفَيْع ، عن أبي ثمامة : كان{[19425]} سحرة فرعون تسعة عشر ألفًا .
وقال محمد بن إسحاق : كانوا خمسة عشر ألفًا .
وقال كعب الأحبار كانوا اثني عشر ألفًا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن علي بن حمزة ، حدثنا{[19426]} علي بن الحسين بن واقد ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت السحرة سبعين رجلا أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المسيب بن واضح بمكة ، حدثنا ابن المبارك قال : قال الأوزاعي : لما خرَّ السحرة سُجَّدًا رُفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها .
قال : وذُكر عن سعيد بن سلام : حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن سليمان ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قوله : { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا } قال : رأوا منازلهم تبني لهم وهم في سجودهم . وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بَزَّة .
{ فألقي السحرة سجدا } أي فألقى فتلقفت فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر وإنما هو آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته ، فألقاهم ذلك على وجوههم سجدا لله توبة عما صنعوا وإعتابا وتعظيما لما رأوا . { قالوا آمنا برب هارون وموسى } قدم هارون لكبر سنه أو لروي الآية ، أو لأن فرعون ربى موسى في صغره فلو اقتصر على موسى أو قدم ذكره لربما توهم أن المراد فرعون وذكر هارون على الاستتباع . روي أنهم رأوا في سجودهم الجنة ومنازلهم فيها .
ثم إن موسى عليه السلام ألقى عصاه من يده فاستحالت ثعباناً وجعلت تنمو حتى روي أنها عبرت النهر بذنبها ، وقيل البحر ، وفرعون في هذا يضحك ويرى أن الاستواء حاصل ، ثم أقبلت تأكل الحبال والعصي حتى أفنتها ففرت نحو فرعون ففزع عند ذلك وقال يا موسى فمد موسى يده إليها فرجعت عصى كما كانت فنظر السحرة وعلموا الحق ورأوا الحبال والعصي فآمنوا رضي الله عنهم .
في خلال هذه الآيات تقدير وحذف يدل عليه ظاهر القول فالمقدر من ذلك هنا فألقى موسى عصاه فالتقمت كل ما جاؤوا به أو نحو هذا ، وروي أن السحرة لما رأوا العصا لا أثر فيها للسحر ثم رأت انقلابها حية وأكلها للحبال والعصي ثم رجوعها إلى حالها وعدم الحبال والعصي أيقنوا بنبوءة موسى وأن الأمر من عند الله تعالى وقدم { هارون } قبل { موسى } لتستوي رؤوس آي السور فنقل معنى السحرة وهذا كقوله عز وجل : { أزواجاً من نبات شتى }{[8132]} [ طه : 53 ] تأخر شتى إنما هو لتستوي رؤوس الآي ، وكذلك قوله تعالى : { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى }{[8133]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وفي هذا الكلام متروك قد استغنى بدلالة ما ترك عليه هو: فألقى موسى عصاه، فتلقفت ما صنعوا "فأُلْقيَ السّحَرَةُ سُجّدا قالُوا آمَنّا بِرَبّ هارُونَ وَمُوسَى". وذكر أن موسى لما ألقى ما في يده تحوّل ثعبانا، فالتقم كلّ ما كانت السحرة ألقته من الحبال والعصيّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لأنهم عرفوا حقيقة ما أتى به موسى فعلموا أنه آية، ليس بسحر، فآمنوا إيمانا، لم يرتابوا فيه قط...
وهذا يدل أن كل ذي بصر وعلم في شيء يكون أبصر وأعلم في ذلك الشيء من غيره، ألا ترى أنهم لم ينظروا لما رأوا ما أتى به موسى، وعاينوا وقتا ينظرون فيه؟ بل لسرعة معرفتهم ذلك لم يملكوا أنفسهم، بل ألقوا على وجوههم على ما أخبر حين قال: {فألقي السحرة سجدا}،وقال: {وألقي السحرة ساجدين} [الأعراف: 120 والشعراء: 46].
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} أي بالرب الذي دعا إليه هارون وموسى، لأنه رب لنا ولجميع الخلق...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وتحقق السحرة أن ذلك أمر سماوي حيث تلاشى عين ما كان معهم من أوقار الحِبَال، وصار الثعبانُ عَصَاً كما كان، فسجدوا لله مؤمنين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
سبحان الله ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين.
في قولهم: {آمنا برب هارون وموسى} فائدتان سوى ما ذكروه؛
الفائدة الأولى: وهي أن فرعون ادعى الربوبية في قوله: {أنا ربكم الأعلى} والإلهية في قوله: {ما علمت لكم من إله غيري} فلو أنهم قالوا: آمنا برب العالمين لكان فرعون يقول: إنهم آمنوا بي لا بغيري فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة، والدليل عليه أنهم قدموا ذكر هارون على موسى لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى بناء على أنه رباه في قوله: {ألم نربك فينا وليدا} فالقوم لما احترزوا عن إيهامات فرعون لا جرم قدموا ذكر هارون على موسى قطعا لهذا الخيال.
الفائدة الثانية: وهي أنهم لما شاهدوا أن الله تعالى خصهما بتلك المعجزات العظيمة والدرجات الشريفة لا جرم قالوا: رب هارون وموسى لأجل ذلك.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه، ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه، علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل، وأنه حق لا مرية فيه، ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون، فعند ذلك وقعوا سُجَّدًا لله وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47، 48].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى عليه الصلاة والسلام و -] حذف ذكر الإلقاء وما سببه من التلقف لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية: {فألقي السحرة} أي فألقاهم ما رأوا من أمر الله بغاية السرعة وبأيسر أمر {سجداً} على وجوههم؛ ... فكأن قائلاً قال: هذا فعلهم فما قالوا؟ فقيل: {قالوا آمنا} أي صدقنا.
ولما كان سياق هذه السورة مقتضياً لتقديم هارون عليه السلام قال: {برب هارون وموسى} بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه سبحانه لا يشقيه بهذا القرآن بل يهدي الناس به ويذلهم له، فيجعل العرب على شماختها أذل شيء لوزرائه وأنصاره وخلفائه وإن كانوا أضعف الناس، وقبائلهم أقل القبائل، مع ما في ذلك من الدليل على صدق إيمانهم وخلوص ادعائهم بتقديم الوزير المترجم ترقياً في درج المعرفة ممن أوصل ذلك إليهم إلى من أمره بذلك ثم إلى من أرسله شكراً للمنعمين بالتدريج
" لا يشكر الله من لم يشكر الناس "وهذا لما أوجب تقديمه هنا لا لهذا فقط، وذكروا اسم الرب إشارة إلى أنه سبحانه أحسن إليهما بإعلاء شأنهما على السحرة، وعلى من كانوا يقرون بالربوبية، وهو فرعون الذي لم يغن عنهم شيئاً، فكانوا أول النهار سحرة، وآخره شهداء بررة...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وفي التعبير ب"ألقي" دون فسجد إشارة إلى أنهم شاهدوا ما أزعجهم فلم يتمالكوا حتى وقعوا على وجوههم ساجدين، وفيه إيقاظ السامع لإلطاف الله تعالى في نقله من شاء من عباده من غاية الكفر والعناد إلى نهاية الإيمان والسداد مع ما فيه من المشاكلة والتناسب، والمراد أنهم أسرعوا إلى السجود...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها اللمسة تصادف العصب الحساس فينتفض الجسم كله. وتصادف "الزر الصغير "فينبعث النور ويشرق الظلام. إنها لمسة الإيمان للقلب البشري تحوله في لحظة من الكفر إلى الإيمان. ولكن أنى للطغاة أن يدركوا هذا السر اللطيف؟ أنى لهم أن يدركوا كيف تتقلب القلوب؟ وهم قد نسوا لطول ما طغوا وبغوا، ورأوا الأتباع ينقادون لإشارة منهم، نسوا أن الله هو مقلب القلوب؛ وأنها حين تتصل به وتستمد منه وتشرق بنوره لا يكون لأحد عليها سلطان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء عاطفة على محذوف يدلّ عليه قوله {وألق ما في يمينك} [طه: 69]. والتقدير: فألقى فتلقفت ما صنعوا، كقوله تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} [الشعراء: 63].
والإلقاء: الطرح على الأرض. وأسند الفعل إلى المجهول لأنّهم لا ملقي لهم إلاّ أنفسهم، فكأنّه قيل: فألقوا أنفسهم سُجّداً، فإنّ سجودهم كان إعلاناً باعترافهم أنّ موسى مرسل من الله. ويجوز أن يكون سجودهم تعظيماً لله تعالى.
ويجوز أن يكون دلالة على تغلب موسى عليهم فسجدوا تعظيماً له...
وجملة {قَالُوا} يصح أن تَكون في موضع الحال، أي ألقَوْا قائلين. ويصح أن تكون بدل اشتمال من جملة {فَأُلقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} فإن سجودهم اشتمل على إيمانهم، وأن تكون مستأنفة ابتدائية لافتتاح المحاورة بينهم وبين فرعون.
وإنما آمنوا بالله حينئذ لأنّهم أيقنوا أن ما جرى على يد موسى ليس من جنس السحر لأنّهم أيمّة السحر فعلموا أنّه آية من عند الله.
وتعبيرهم عن الرب بطريق الإضافة إلى هارون وموسى لأن الله لم يكن يعرف بينهم يومئذ إلا بهذه النسبة لأن لهم أرباباً يعبدونها ويعبدها فرعون.
وتقديم هارون على موسى هنا وتقديم موسى على هارون في قوله تعالى في سورة الأعراف (121، 122): {قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} لا دلالة فيه على تفضيل ولا غيره، لأنّ الواو العاطفة لا تفيد أكثر من مطلق الجمع في الحكم المعطوف فيه، فهم عرفوا الله بأنه ربّ هذين الرجلين؛ فحكي كلامهم بما يدلّ على ذلك؛ ألا ترى أنه حكي في سورة الأعراف (121) قول السحرة {قالوا آمنا برب العالمين}، ولم يحك ذلك هنا، لأن حكاية الأخبار لا تقتضي الإحاطة بجميع المحكي وإنما المقصود موضع العبرة في ذلك المقام بحسب الحاجة.
ووجه تقديم هارون هنا الرعاية على الفاصلة، فالتقديم وقع في الحكاية لا في المحكي، إذ وقع في الآية الأخرى {قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} [الشعراء: 47، 48]. ويجوز أن يكون تقديم هارون في هذه الآية من حكاية قول السحرة، فيكون صدر منهم قولان، قدموا في أحدهما اسم هارون اعتباراً بكبر سنّه، وقدموا اسم موسى في القول الآخر اعتباراً بفضله على هارون بالرسالة وكلام الله تعالى، فاختلاف العبارتين باختلاف الاعتبارين.
نعم، لقد دخلوا كافرين فجرة فخرجوا مؤمنين بررة، لأنهم جاءوا بكل ما لديهم من الكيد، وجمعوا صفوة السحر وأساتذته ممن يعلمون السحر جيدا، ولا تنطلي عليهم حركات السحرة وألاعيبهم، فلما رأوا العصا وما فعلت بسحرهم لم يخالطهم شك في أنها معجزة بعيدة عما يصنعونه من السحر، لذلك سارعوا ولم يترددوا في إعلان إيمانهم بموسى وهارون. وهذا يدلنا على أن الفطرة الإيمانية في النفس قد تطمسها الأهواء، فإذا ما تيقظت الفطرة الإيمانية وأزيلت عنها الغشاوة سارعت إلى الإيمان وتأثرت به...
لقد سارع السحرة إلى الإيمان، وكان له هوى في نفوسهم، بدليل أنهم سيقولون فيما بعد: {وما أكرهتنا عليه من السحر}: فكانوا مكرهين، كانوا أيضا مسخرين، بدليل قولهم: {إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين (113)} (الأعراف). كأنهم كانوا لا يأخذون على السحر أجرا، فلما كانت هذه المهمة صعبة طلبوا عليها أجرا، فهي معركة تتوقف عليها مكانته بين قومه، أما ممارستهم للسحر إرهابا للناس وتخويفا لمن تسول له نفسه الخروج والتمرد على فرعون، فكان سخرة، لا يتقاضون عليه أجرا. لذلك لم يعارض فرعون سحرته في طلبهم، بل زادهم منحة أخرى {وإنكم لمن المقربين (114)} (الأعراف)... إذن: فطباعهم وفطرتهم تأبى هذا الفعل، وتعلم أنه كذب وتلفيق، لكن ماذا يفعلون وكبيرهم يأمرهم به، بل ويكرههم عليه، ويلزمهم أن يعلموا غيرهم، لماذا؟ لأن السحر والشعوذة والتلفيق هي رأس ماله وبضاعته التي يسعى إلى ترويجها؛ فعليها يقوم ملكه وتبنى ألوهيته. وقوله تعالى: {فألقي السحرة سجدا}: فرق بين {فألقوا حبالهم وعصيهم... (44)} (الشعراء): وهذا منهم عمل اختياري، وبين {فألقي السحرة سجدا}: يعني على غير اختيارهم وعلى غير إرادتهم، كأن صولة الحق فاجأت صحوة الفطرة، فلم يملكوا إلا أن خروا لله ساجدين، فالإلقاء هنا عمل تلقائي دون تفكير منهم ودون شعور، فقد فاجأهم الحق الواضح والمعجزة الباهرة في عصا موسى، لأنها ليست سحرا فهم أعلم الناس بالسحر. ونلحظ في هذه الآية أنها جاءت بصيغة الجمع: ألقي السحرة، قالوا: آمنا، لتدل على أنهم كانوا يدا واحدة لم يشذ منهم واحد، مما يدل على أنهم كانوا مكرهين مسخرين. كما أن إعلان إيمانهم جاء بالفعل المرئي المشاهد للجميع {فألقي السحرة سجدا}، ثم بالقول المسموع {قالوا آمنا برب هارون وموسى}، وفي آية أخرى: {قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)} (الشعراء): ونعلم أن موسى – عليه السلام – هو الأصل، ثم أرسل معه أخوه هارون، ولما عرض القرآن موقف السحرة مع موسى حكى قولهم: {آمنا برب هارون وموسى}: وقولهم: {آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)} (الشعراء). لذلك كانت هذه المسألة مثار جدل من خصوم الإسلام، يقولون: ماذا قال السحرة بالضبط؟ أقالوا الأولى أم الثانية؟ ولك أن تتصور جمهرة السحرة الذين حضروا هذه المعركة، فكان رؤساؤهم وصفوتهم سبعين ساحرا، فما بالك بالمرؤوسين؟ إذن: هم كثيرون، فهل يعقل مع هذه الكثرة وهذه الجمهرة أن يتحدوا في الحركة وفي القول؟ أم يكون لكل منهم انفعاله الخاص على حسب مداركه الإيمانية؟ لا شك أنهم لم يتفقوا على قول واحد، فمنهم من قال: {آمنا برب هارون وموسى} وآخرون قالوا: {آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)} (الشعراء). كذلك كان منهم سطحي العبارة، فقال: {آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)} (الشعراء) ولم يفطن إلى أن فرعون قد ادعى الألوهية وقال أنا ربكم الأعلى فربما يفهم من قوله: {رب موسى وهارون (48)} (الشعراء): أنه فرعون، فهو الذي ربى موسى وهو صغير. وآخر فطن إلى هذه المسألة، فكان أدق في التعبير، وأبعد موسى عن هذه الشبهة، فقال: {آمنا برب هارون وموسى}: وجاء أولا بهارون الذي لا علاقة لفرعون بتربيته، ولا فضل له عليه، ثم جاء بعده بموسى. إذن: هذه أقوال متعددة ولقطات مختلفة لمجتمع جماهيري لا تنضبط حركاته، ولا تتفق تعبيراته، وقد حكاها القرآن كما كانت فليس لأحد بعد ذلك أن يقول: إن كان القول الأول صحيحا، فالقول الآخر خطأ أو العكس. وما أشبه هذا الموقف الآن بمباراة رياضية يشهدها الآلاف ويعلقون عليها، ترى أتتفق تعبيراتهم في وصف هذه المباراة؟ نقول: إذن، تعددت اللقطات وتعددت الأقوال للقصة الواحدة لينقل لنا القرآن كل ما حدث.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ التعبير ب (ألقي) وهو فعل مبني للمجهول ربّما كان إشارة إلى أنّهم قد صدّقوا موسى، وتأثّروا بمعجزته إلى الحدّ الذي سجدوا معه دون إرادة. ونقطة أُخرى يلزم ذكرها وتستحقّ الالتفات، وهي أنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الإيمان القلبي، بل رأوا أنّ من واجبهم إظهار هذا الإيمان بصورة جليّة، بتعابير لا يشوبها أي إبهام، أي التأكيد على ربوبية ربّ موسى وهارون، حتّى يرجع اُولئك الذين ضلّوا بسبب سحرهم، ولا تبقى على عاتقهم مسؤولية من هذه الجهة. من البديهي أنّ عمل السّحرة هذا قد وجّه صفعة قويّة إلى فرعون وحكومته الجبّارة المستبدّة الظالمة، وهزّ كلّ أركانها، لأنّ الإعلام كان قد ركّز على هذه المسألة مدّة طويلة في جميع أنحاء مصر، وكانوا قد جلبوا السّحرة من كلّ أرجاء البلاد، ووعد هؤلاء بكلّ نوع من المكافئات والجوائز والامتيازات إذا ما غلبوا وانتصروا في المعركة!