إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{فَأُلۡقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدٗا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَٰرُونَ وَمُوسَىٰ} (70)

والفاء في قوله تعالى : { فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً } كما سلف فصيحةٌ معربةٌ عن محذوفَين ينساق إليهما النظمُ الكريم غنيّين عن التصريح بهما لعدم احتمال تردّدِ موسى عليه السلام في الامتثال بالأمر واستحالةِ عدمِ وقوعِ اللقْف الموعود ، أي فألقاه عليه السلام فوقع ما وقع من اللقف فألقى السحرةُ سجّداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر وإنما هي آيةٌ من آيات الله عز وجل .

روي أن رئيسَهم قال : كنا نغلِب الناسَ وكانت الآلاتُ تبقى علينا ، فلو كان هذا سحراً فأين ما ألقَيناه من الآلاتِ ؟ فاستَدلّ بتغير أحوال الأجسامِ على الصانع القادرِ العالِم ، وبظهور ذلك على يد موسى عليه الصلاة والسلام على صحة رسالتِه لا جرم ، ألقاهم ما شاهدوه على وجوههم وتابوا وآمنوا وأتَوا بما هو غايةُ الخضوعِ ، قيل : لم يرفعوا رؤوسَهم حتى رأَوا الجنةَ والنارَ والثوابَ والعقاب ، وعن عِكرمة لما خرّوا سجداً أراهم الله تعالى في سجودهم منازلَهم في الجنة ولا ينافيه قولهم : { إِنَّا آمَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا } الخ ، لأن كونَ تلك المنازلِ منازلَهم باعتبار صدورِ هذا القول عنهم { قَالُواْ } استئناف كما مر غيرَ مرة { آمَنَّا بِرَبّ هارون وموسى } تأخيرُ موسى عند حكاية كلامِهم لرعاية الفواصل وقد جُوّز أن يكون ترتيبُ كلامهم أيضاً هكذا ، إما لِكبَر سنَّ هارون عليه الصلاة والسلام وإما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطلِ من جهة فرعونَ وقومِه ، حيث كان فرعونُ ربى موسى عليه الصلاة والسلام في صِغَره فلو قدّموا موسى عليه الصلاة والسلام لربما توهم اللعينُ وقومُه من أول الأمر أن مرادَهم فرعونُ .