قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } قال ابن عباس : لم يفرض الله تعالى فريضة على عباده لا يجعل لها حداً معلوماً ، وعذر أهلها في حال العذر غير الذكر ، فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه ، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله ، فلذلك أمرهم به في كل الأحوال ، فقال : { فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم } وقال : { اذكروا الله ذكراً كثيراً } أي : بالليل والنهار ، في البر والبحر وفي الصحة والسقم ، وفي السر والعلانية . وقال مجاهد : الذكر الكثير أن لا تنساه أبداً .
{ 41 - 44 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * َْتَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا }
يأمر تعالى المؤمنين ، بذكره ذكرا كثيرًا ، من تهليل ، وتحميد ، وتسبيح ، وتكبير وغير ذلك ، من كل قول فيه قربة إلى اللّه ، وأقل ذلك ، أن يلازم الإنسان ، أوراد الصباح ، والمساء ، وأدبار الصلوات الخمس ، وعند العوارض والأسباب .
وينبغي مداومة ذلك ، في جميع الأوقات ، على جميع الأحوال ، فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل ، وهو مستريح ، وداع إلى محبة اللّه ومعرفته ، وعون على الخير ، وكف اللسان عن الكلام القبيح .
ثم جاءت الآيات الكريمة بعد ذلك لتؤكد هذا المعنى وتقرره ، فأمرت المؤمنين بالإِكثار من ذكر الله - تعالى - ومن تسبيحه وتحميده وتكبيره - فقال - سبحانه - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } .
والمقصود بذكر الله - تعالى - فى قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } ما يشمل التهليل والتحميد والتكبير وغير ذلك من القوال والأفعال التى ترضيه - عز وجل - .
أى : يا من آمنتم بالله حق الإِيمان اكثروا من التقرب إلى الله - تعالى - بما يرضيه ، فى كل أوقاتكم وأحوالكم ، فإن ذكر الله - تعالى - هو رطب النفوس ودواؤها ، وهو عافية الأبدان وشفاؤها ، به تطمئن القلوب ، وتنشرح الصدور . .
والتعبير بقوله : { اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } يشعر بأن من شأن المؤمن الصادق فى إيمانه ، أن يواظب على هذه الطاعة مواظبة تامة .
ومن الأحاديث التى وردت فى الض على الإِكثار من ذكر الله ، ما رواه الإِمام أحمد عن أبى الدرداء . . رضى الله عنه . . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها فى درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والوَرِقِ - أى : الفضة ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ، قالوا : وما هو يا رسول الله ؟ قال : ذكر الله - عز وجل - " .
وعن عمرو بن قيس قال : " سمعت عبد الله بن بسر يقول : جاء اعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله ، أى الناس خير ؟ قال : " من طال عمره وحسن عمله " .
وقال الآخر : يا رسول الله ، إن شرائع الإِسلام قد كثرت علينا ، فمرنى بأمر أتشبت به . قال : " لا يزال لسانك رطبا بذكر الله " " .
وقال ابن عباس : لم يفرض الله - تعالى - فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ، ثم عذر أهلها فى حال العذر ، غير الذكر ، فإن الله - تعالى - لم يجعل له حدا ينتهى إليه ، ولم يعذر أحداً فى تركه إلا مغلوبا على عقله ، وأمرهم به فى الأحوال كلها . فقال - تعالى - : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ . . . } وقال - سبحانه - : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ . . } أى : بالليل وبالنهار ، فى البر والبحر ، وفى السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال . .
ثم يمضي السياق القرآني في ربط القلوب بهذا المعنى الأخير ، ووصلهم بالله الذي فرض على رسوله ما فرض ، واختار للأمة المسلمة ما اختار ؛ يريد بها الخير ، والخروج من الظلمات إلى النور :
( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ، وسبحوه بكرة وأصيلا . هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور ، وكان بالمؤمنين رحيما . تحيتهم يوم يلقونه سلام . وأعد لهم أجرا كريما ) . .
وذكر الله اتصال القلب به ، والاشتغال بمراقبته ؛ وليس هو مجرد تحريك اللسان . و إقامة الصلاة ذكر لله . بل إنه وردت آثار تكاد تخصص الذكر بالصلاة :
روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين ، كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات " . .
وإن كان ذكر الله أشمل من الصلاة . فهو يشمل كل صورة يتذكر فيها العبد ربه ، ويتصل به قلبه . سواء جهر بلسانه بهذا الذكر أم لم يجهر . والمقصود هو الاتصال المحرك الموحي على أية حال .
وإن القلب ليظل فارغا أو لاهيا أو حائرا حتى يتصل بالله ويذكره ويأنس به . فإذا هو مليء جاد ، قار ، يعرف طريقه ، ويعرف منهجه ، ويعرف من أين وإلى أين ينقل خطاه !
ومن هنا يحض القرآن كثيرا ، وتحض السنة كثيرا ، على ذكر الله .
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تعالى ، المنعم عليهم بأنواع النعم وأصناف {[23587]} المنن ، لما لهم في ذلك من جزيل الثواب ، وجميل المآب .
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن سعيد{[23588]} ، حدثني مولى بن عياش {[23589]} عن أبي بَحرية{[23590]} ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والوَرق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ " قالوا : وما هو يا رسول الله ؟ قال : " ذكر الله عز وجل " .
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن زياد - مولى ابن عياش{[23591]} - عن أبي بَحرية - واسمه عبد الله بن قيس التراغمي - عن أبي الدرداء ، به{[23592]} . قال الترمذي : ورواه بعضهم عنه فأرسله .
قلت : وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى : { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ } في مسند [ الإمام ]{[23593]} أحمد ، من حديث زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عَيَّاش : أنه بلغه عن معاذ بن جبل ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه ، فالله أعلم .
وقال{[23594]} الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا فرج بن فَضَالة ، عن أبي سعد الحِمْصي قال : سمعت أبا هريرة يقول : دعاء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدعه : " اللهم ، اجعلني أعظم شكرك ، وأتبع نصيحتك ، وأكثر ذكرك ، وأحفظ وصيتك " . {[23595]}
ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى ، عن وكيع ، عن أبي فضالة الفرج بن فضالة ، عن أبي سعيد الحمصي ، عن أبي هريرة ، فذكر مثله وقال : غريب . {[23596]}
وهكذا رواه الإمام أحمد أيضا عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن فرج بن فضالة ، عن أبي سعيد المدني{[23597]} عن أبي هريرة فذكره . {[23598]}
وقال{[23599]} الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، عن معاوية بن صالح ، عن عمرو بن قيس قال : سمعت عبد الله بن بُسْر يقول : جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهما : يا رسول الله ، أي الناس خير ؟ قال : " مَنْ طال عمره وحسن عمله " . وقال الآخر : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا{[23600]} ، فمرني بأمر أتشبث به . قال : " لا يزال لسانك رَطْبًا بذكر الله " . {[23601]}
وروى الترمذي وابن ماجه [ منه ]{[23602]} الفصل الثاني ، من حديث معاوية بن صالح ، به{[23603]} . وقال الترمذي : حسن غريب .
وقال{[23604]} الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج{[23605]} ، حدثنا ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث قال : إنّ دَرّاجا أبا السمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون . " {[23606]}
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا عقبة بن مُكرم العَمِّي ، حدثنا سعيد بن سفيان{[23607]} الجَحْدَرِي ، حدثنا الحسن بن أبي جعفر ، عن عقبة بن أبي ثُبَيت{[23608]} الراسبي ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اذكروا الله ذكرا كثيرا [ حتى ]{[23609]} يقول المنافقون : تراءون . " {[23610]}
وقال{[23611]} الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي ، سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله فيه ، إلا رأوه حسرة يوم القيامة . " {[23612]}
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } : إن الله لم يفرض [ على عباده ]{[23613]} فريضة إلا [ جعل لها حدا معلوما ، ثم ]{[23614]} عذر أهلها في حال عذر ، غير الذكر ، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه ، ولم يعذر أحدًا في تركه ، إلا مغلوبا على تركه ، فقال : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } [ النساء : 103 ] ، بالليل والنهار ، [ في البر والبحر ]{[23615]} ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والصحة والسقم ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال ،
ثم أمر تعالى عباده بأن يذكروه { ذكراً كثيراً } ، وجعل تعالى ذلك دون حد ولا تقدير لسهولته على العبد ولعظم الأجر فيه ، قال ابن عباس لم يعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غلب على عقله ، وقال الكثير أن لا تنساه أبداً ، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم «أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون »{[9532]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذكرا كثيرا، فلا تخلو أبدانكم من ذكره في حال من أحوال طاقتكم ذلك
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وجائز أن يكون تأويل أمره بالذكر كثيرا أي اذكروا نعمه لتشكروا له، واذكروا أوامره ليؤتمر، ونواهيه ومناهيه لينهى، ومواعيده ليخاف، وعداته ليرغب، واذكروا عظمته وجلاله وكبرياءه ليهاب.
{ذكرا كثيرا} أي دائما، تذكرون ما ذكرنا ليكون ما ذكرنا؛ إذ إنما يكون ذلك بالذكر، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإشارة فيه: أَحِبُّوا الله... ويقال: اذكروا الله بقلوبكم؛ فإِنَّ الذكرَ الذي تمكن استدامته ذكرُ القلب؛ فأمَّا ذِكْرُ اللسانِ فإدامته مُسرمَداً كالمتعذر.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{اذكروا الله ذكراً كثيراً} أي: بالليل والنهار، في البر والبحر وفي الصحة والسقم، وفي السر والعلانية، وقال مجاهد: الذكر الكثير أن لا تنساه أبداً.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال ابن عباس لم يعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غلب على عقله.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
اشترط الله الكثرة في الذكر حيثما أمر به بخلاف سائر الأعمال.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{اذكروا} أي تصديقاً لدعواكم ذلك {الله} الذي هو أعظم من كل شيء {ذكراً كثيراً} أي بأن تعقدوا له سبحانه صفات الكمال وتثنوا عليه بها بألسنتكم، فلا تنسوه في حال من الأحوال ليحملكم ذلك على تعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم حق تعظيمه، واعتقاد كماله في كل حال، وأنه لا ينطق عن الهوى، لتحوزوا مغفرة وأجراً عظيماً، كما تقدم الوعد به.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وذكر الله اتصال القلب به، والاشتغال بمراقبته؛ وليس هو مجرد تحريك اللسان، و إقامة الصلاة ذكر لله... وإن كان ذكر الله أشمل من الصلاة، فهو يشمل كل صورة يتذكر فيها العبد ربه، ويتصل به قلبه. سواء جهر بلسانه بهذا الذكر أم لم يجهر.
والمقصود هو الاتصال المحرك الموحي على أية حال. وإن القلب ليظل فارغا أو لاهيا أو حائرا حتى يتصل بالله ويذكره ويأنس به؛ فإذا هو مليء جاد، قار، يعرف طريقه، ويعرف منهجه، ويعرف من أين وإلى أين ينقل خطاه! ومن هنا يحض القرآن كثيرا، وتحض السنة كثيرا، على ذكر الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إقبال على مخاطبة المؤمنين بأن يشغلوا ألسنتهم بذكر الله وتسبيحه، أي أن يمسكوا عن مماراة المنافقين أو عن سبّهم فيما يُرجفون به في قضية تزوج زينب، فأمر المؤمنين أن يعتاضوا عن ذلك بذكر الله وتسبيحه خيراً لهم، فهذا من نحو قوله لنبيّئه {ودَعْ أذاهم} [الأحزاب: 48]، وفيه تسجيل على المنافقين بأن خوضهم في ذلك بعد هذه الآية علامة على النفاق لأن المؤمنين لا يخالفون أمر ربهم.
أمرنا ربنا سبحانه بذكره ذكرا كثيرا، لأن الذكر عمدة العبادات وأيسرها على المؤمن، لذلك نجد ربنا يأمرنا به عند الانتهاء من العبادات كالصلاة والصيام والحج، وجعله سبحانه أكبر فقال: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت 45]