وإذا علم من هذا المثال أن من اتخذ من دون اللّه شريكا يعبده ويتوكل عليه في أموره ، فإنه ليس معه من الحق شيء فما الذي أوجب له الإقدام على أمر باطل توضح له بطلانه وظهر برهانه ؟ [ لقد ]{[650]} أوجب لهم ذلك اتباع الهوى فلهذا قال : { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } هويت أنفسهم الناقصة التي ظهر من نقصانها ما تعلق به هواها ، أمرا يجزم العقل بفساده والفطر برده بغير علم دلهم عليه ولا برهان قادهم إليه .
{ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } أي : لا تعجبوا من عدم هدايتهم فإن اللّه تعالى أضلهم بظلمهم ولا طريق لهداية من أضل اللّه لأنه ليس أحد معارضا للّه أو منازعا له في ملكه .
{ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } ينصرونهم حين تحق عليهم كلمة العذاب ، وتنقطع بهم الوصل والأسباب .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن هؤلاء المشركين لم ينتفعوا بهذه الأمثال لاستيلاء الجهل والعناد عليهم فقال : { بَلِ اتبع الذين ظلموا أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } .
أى : لم ينتفع هؤلاء الظالمون بهذا المثل الجلى فى إبطال الشرك ، بل لجوا فى كفرهم ، واتبعوا أهواءهم الزائفة ، وأفكارهم الفاسدة ، وجهالاتهم المطبقة دون أن يصرفهم عن ذلك علم نافع { فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله } أى : إذا كان هذا هو حالهم ، فمن الذى يستطيع أن يهدى إلى الحق ، من أضله الله - تعالى - : عنه بسبب زيفه واستحبابه العمى على الهدى .
إنه لا أحد يستطيع ذلك { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ينصرونهم من عقابه - سبحانه - لهم .
وعند هذا الحد من عرض تناقضهم في دعوى الشرك المتهافتة ، يكشف عن العلة الأصلية في هذا التناقض المريب : إنه الهوى الذي لا يستند على عقل أو تفكير :
( بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم . فمن يهدي من أضل الله ? وما لهم من ناصرين ) . .
والهوى لا ضابط له ولا مقياس . إنما هو شهوة النفس المتقلبة ونزوتها المضطربة ، ورغباتها ومخاوفها . وآمالها ومطامعها التي لا تستند إلى حق ولا تقف عند حد ولا تزن بميزان . وهو الضلال الذي لا يرجى عمه هدى ، والشرود الذي لا ترجى معه أوبة : ( فمن يهدي من أضل الله ? )نتيجة لاتباعه هواه ? ( وما لهم من ناصرين )يمنعونهم من سوء المصير .
ثم قال تعالى مبينا أن المشركين إنما عبدوا غيره سَفَهًا من أنفسهم وجهلا { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : المشركون { أَهْوَاءَهُمْ } أي : في عبادتهم الأنداد بغير علم ، { فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } [ أي : فلا أحد يهديهم إذا كتب الله إضلالهم ]{[22816]} ، { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } أي : ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير ، ولا محيد لهم عنه ؛ لأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} يعلمونه بأن معه شريكا.
{فمن يهدي من أضل الله}: فمن يهدى إلى توحيد الله من قد أضله الله عز وجل عنه.
{وما لهم من ناصرين} يعني مانعين من الله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما ذلك كذلك، ولا أشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله الاَلهة والأوثان، لأن لهم شركا فيما رزقهم الله من ملك أيمانهم، فهم وعبيدهم فيه سواء، يخافون أن يقاسموهم ما هم شركاؤهم فيه، فرضوا لله من أجل ذلك بما رضوا به لأنفسهم، فأشركوهم في عبادته، ولكن الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله، اتبعوا أهواءهم، جهلاً منهم لحقّ الله عليهم، فأشركوا الآلهة والأوثان في عبادته. "فَمَنْ يهْدِي مَنْ أضَلّ اللّهُ "يقول: فمن يسدّد للصواب من الطرق، يعني بذلك من يوفق للإسلام من أضلّ الله عن الاستقامة والرشاد؟
"وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ" يقول: وما لمن أضلّ الله من ناصرين ينصرونه، فينقذونه من الضلال الذي يبتليه به تعالى ذكره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الذين ظلموا} أنفسهم حين لم يستعملوها في ما أمروا بالاستعمال فيه، بل صرفوها إلى غير ما أمروا بالاستعمال فيه، وظلموا حجج الله وآياته وبراهينه حين لم يتبعوها، ولم يضعوها موضعها حيث وضعت {أهواءهم} في عبادتهم الأصنام وصرفها عن الله على من لا يستحق العبادة والشكر، وذلك لهواهم لأنه ليس معهم حجة ولا برهان كقوله: {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا} [الحج: 71] أي حجة وبرهانا.
{فمن يهدي من أضل الله} أي [لا أحد] سوى الله يهدي من أضله الله، أي من آثر الضلال، واختاره، أضله الله: لا يهديه سواه.
{وما لهم من ناصرين} ينصرونهم في دفع عذاب الله عن أنفسهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أشدُّ الظلمِ متابعةُ الهوى، لأنه قريبٌ من الشِّرْكِ، قال تعالى: {أَفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]. فَمَنْ اتَّبَعَ هواه خالف رضا مولاه؛ فهو بوضعه الشيءَ غيرَ موضعه صار ظالماً، كما أَنَّ العاصيَ بوضعه المعصيةَ موضعَ الطاعةِ ظالمٌ.. كذلك هذا بمتابعة هواه بَدَلاً عن موافقة ومتابعة رضا مولاه صار في الظلم متمادياً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الإضراب ب {بل} هو عما تضمنه معنى الآية المتقدمة، كأنه يقول: ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من تشريكهم مع الله تعالى، بل اتبعوا أهواءهم جهالة وشهوة وقصداً لأمر دنياهم، ثم قرر على جهة التوبيخ لهم على من يهدي إذا أضل الله، أي لا هادي لأهل هذه الحال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان جوابهم قطعاً: ليس لنا شركاء بهذا الوصف، كان التقدير، فلم تتبعوا في الإشراك بالله دليلاً، فنسق عليه: {بل} وكان الأصل: اتبعتم، ولكنه أعرض عنهم، إيذاناً بتناهي الغضب للعناد بعد البيان، وأظهر الوصف الحامل لهم على ذلك تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال: {اتبع} أي بتكليف أنفسهم خلاف الفطرة الأولى {الذين ظلموا} أي وضعوا الشيء في غير موضعه فعل الماشي في الظلام {أهواءهم} وهو ما يميل إليه نفوسهم. ولما كان اتباع الهوى قد يصادف الدليل، وإذا لم يصادف وكان من عالم رده عنه علمه قال: {بغير علم} إشارة إلى بعدهم في الضلال لأن الجاهل يهيم على وجهه بلا مرجح غير الميل كالبهيمة لا يرده شيء، وأما العالم فربما رده علمه. ولما كان هذا ربما أوقع في بعض الأوهام أن هذا بغير إرادته سبحانه، دل بفاء السبب على أن التقدير: وهذا ضلال منهم بإرادة الله، فلما أساؤوا بإعراقهم فيه كانت عاقبتهم السوء والخذلان، لأنهم أبعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى: {فمن يهدي} أي بغير إرادة الله، ولفت الكلام من مظهر العظمة إلى أعظم منه بذكر الاسم الأعظم لاقتضاء الحال له فقال: {من أضل الله} الذي له الأمر كله، ودل بواو العطف على أن التقدير: ليس أحد يهديهم لأنهم أبعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى فبعدوا عن أسباب النصر لأنهم صاروا على جرف هار في كل أمورهم، فلذا حسن موضع تعقيبه بقوله: {وما لهم} وأعرق في النفي فقال: {من ناصرين} أي من الأصنام ولا غيرها يخلصونهم مما هم فيه من الخذلان وأسر الشيطان، ومما يسببه من النيران، ونفى الجمع دون الواحد لأن العقل ناصر لهم بما هو مهيأ له من الفهم واتباع دليل السمع لو استعملوه، أو لأنه ورد جواباً لنحو {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً لعلهم ينصرون} [مريم: 81] أو للإشارة إلى أن تتبع الهوى لا ينفع في تلافي أمره إلا أعوان كثيرون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعند هذا الحد من عرض تناقضهم في دعوى الشرك المتهافتة، يكشف عن العلة الأصلية في هذا التناقض المريب: إنه الهوى الذي لا يستند على عقل أو تفكير: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم. فمن يهدي من أضل الله؟ وما لهم من ناصرين).. والهوى لا ضابط له ولا مقياس. إنما هو شهوة النفس المتقلبة ونزوتها المضطربة، ورغباتها ومخاوفها. وآمالها ومطامعها التي لا تستند إلى حق ولا تقف عند حد ولا تزن بميزان. وهو الضلال الذي لا يرجى معه هدى، والشرود الذي لا ترجى معه أوبة.
(فمن يهدي من أضل الله؟) نتيجة لاتباعه هواه؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إضراب إبطالي لما تضمنه التعريض الذي في قوله {كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون} [الروم: 28] إذ اقتضى أن الشأن أن ينتفع الناس بمثل هذا المثل فيُقلع المشركون منهم عن إشراكهم ويَلِجُوا حظيرة الإيمان، ولكنهم اتبعوا أهواءهم وما تسوله لهم نفوسهم ولم يطلبوا الحق ويتفهموا دلائله فهم عن العلم بمنأى. فالتقدير: فما نفعتهم الآيات المفصلة بل اتبعوا أهواءهم.
و الذين ظلموا: المشركون {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] وتقييد اتباع الهوى بأنه بغير علم تشنيع لهذا الاتباع فإنه اتباع شهوة مع جهالة، فإن العالم إذا اتبع الهوى كان متحرزاً من التوغل في هواه لعلمه بفساده، وليس ما هنا مماثلاً لقوله تعالى {ومن أضل مِمنّ اتبع هواه بغير هدىً من الله} [القصص: 50] في أنه قيد كاشف من حيث إن الهوى لا يكون إلا ملتبساً بمغايرة هدى الله.
والفاء في {فَمَن يهدي} للتفريع، أي يترتب على اتباعهم أهواءهم بغير علم انتفاء الهدى عنهم أبداً.
{مَن} اسم استفهام إنكاري بمعنى النفي فيفيد عموم نفي الهادي لهم، إذ التقدير: لا أحد يهدي من أضل الله لا غيرُهم ولا أنفسُهم، فإنهم من عموم ما صدق {مَن يَهدي}.
{من أضل الله} مَن قَدَّر له الضلال وطبع على قلبه، فإسناد الإضلال إلى الله إسناد لتكوينه على ذلك لا للأمر به وذلك بيّن.
ومعنى انتفاء هاديهم: أن من يحاوله لا يجد له في نفوسهم مسلكاً. ثم عطف على جملة نفي هداهم خبرٌ آخر عن حالهم وهو {ما لهم من ناصرين} ردّاً على المشركين الزاعمين أنهم إذا أصابوا خطيئة عند الله أن الأصنام تشفع لهم عند الله...
اتبعوا أهوائهم؛ لأنهم اختاروا عبادة من لا منهج له ولا تكليف، عبدوا إلها لا أمر له ولا نهي، لا يرتب على التقصير عقوبة، ولا على العمل ثوابا، وهذا كله من وحي الهوى الذي اتبعوه.
إياك أن تقدم الهوى على العقل؛ لأنك حين تقدم الهوى يصير العقل عقلا تبريريا، يحاول أن يعطيك ما تريد بصرف النظر عن عاقبته. لكن بالعقل أولا حدد الهوى، ثم اجعل حركة حياتك تبعا له.
والبعض يظن أن الهوى شيء مذموم على إطلاقه، لكن الهوى الواحد غير مذموم، أما المذموم فهي الأهواء المتعددة المتضاربة؛ لأن الهوى الواحد في القلب يجند القالب كله لخدمة هذا الهوى، فحين يكون هواي أن أذهب إلى مكان كذا، فإن القالب يسعى ويخطط لهذه الغاية، فيحدد الطريق، ويعد الزاد، ويأخذ بأسباب الوصول. وهذا الهوى الواحد هو المعني في الحديث الشريف:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع أن يكون للإنسان هوى تميل إليه نفسه وتحبه؛ لأن ذلك الهوى يعينه على الجهاد والكفاح في حركة الحياة. أما حين تتعدد الأهواء فلك محبوب، ولي محبوب آخر، فإنها لا شك تتعارض وتتعاند، والله تعالى يريد من المجتمع الإيماني أن تتساند كل أهوائه، وأن تتعاضد لا تتعارض، وأن تتضافر لا تتضارب، لأن تضارب الأهواء يبدد حركة الحياة ويضيع ثمرتها. أما إن كان هواي هو هواك، وهو هوى ليس بشريا، إنما هوى رسمه لنا الخالق –عز وجل- فسوف نتفق فيه، وتثمر حركة حياتنا من خلاله {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير 14} (الملك).
وسبق أن قلنا: إن صاحب الصنعة في الدنيا يجعل معها كتالوجا يبين طريقة صيانتها، والحق –سبحانه وتعالى- هو الذي خلقك، وهو الذي يحدد لك هواك.
{بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} ظلموا لأنهم عزلوا الهوى الواحد، ونحوه جانبا، وأخذوا أهواء شتى تعارضت وتضاربت، فلم يصلوا منها إلى نتيجة. وما ظلموا بالشرك إلا أنفسهم، والله تعالى يقول: {إن الشرك لظلم عظيم13} (لقمان) ظلموا أنفسهم حينما أعطوها شهوة عاجلة ولذة فانية، وغفلوا عن عاقبة ذلك، فهم إما كارهون لأنفسهم، أو يحبونها حبا أحمق، وهذه آفة الهوى حينما يسبق العقل ويتحكم فيه.
{بغير علم} أولا: ما هو العلم؟ في الكون قضايا نجزم بها، فإن كان ما نجزم به مطابقا للواقع ونستطيع أن ندلل عليه فهو علم، والحق سبحانه يريد الهوى الذي تخدمه حركة حياتنا هوى عن علم وعن قضية مجزوم بها، مطابقة للواقع، وعليها دليل، لكن ما دام هؤلاء قد اتبعوا أهواءهم المتفرقة، وأخذوها بدون أصولها من العلم، فسوف أكمل لهم ما أرادوا وأعينهم على ما أحبوا.
{فمن يهدي من أضل الله}، إذ يعينهم على ما هم عليه من الضلال بعد أن عشقوه، كما قال سبحانه: {ختم الله على قلوبهم وسمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} (البقرة7)
{فمن يهدي من أضل الله} يعني: من ينقذه؟ ومن يضع له قانون صيانته إن تخلى عنه ربه وتركه يفعل ما بدا له؟ لا أحد.