قد افتتح الله - تعالى - سورة المدثر ، بالملاطفة والمؤانسة فى النداء والخطاب ، كما افتتح سورة المزمل . والمدثر اسم فاعل من تدثر فلان ، إذا لبس الدثار ، وهو ما كان من الثياب فوق الشعار الذى يلى البدن ، ومنه حديث : " الأنصار شعار والناس دثار " .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { ياأيها المدثر } ملاطفة فى الخطاب من الكريم إلى الحبيب ، إذ ناداه بحاله ، وعبر عنه بصفته ، ولم يقل يا محمد ويا فلان ، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه ، كما تقدم فى سورة المزمل . ومثله قول النبى صلى الله عليه وسلم لِعَلىٍّ إذ نام فى المسجد " قم أبا تراب " .
وكان قد خرج مغاضبا لفاطمة - رضى الله عنها - ، فسقط رداؤه وأصابه التراب . ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان ليلة الخندق " قم يا نومان " .
والمراد بالقيام فى قوله - تعالى - : قم فأنذر ، المسارعة والمبادرة والتصميم على تنفيذ ما أمره - سبحانه - به ، والإِنذار هو الإِخبار الذى يصاحبه التخويف .
أى : قم - أيها الرسول الكريم - وانهض من مضجعك ، وبادر بعزيمة وتصميم ، على إنذار الناس وتخويفهم من سوء عاقبتهم ، إذا ما استمروا فى كفرهم ، وبلغ رسالة ربك إليهم دون أن تخشى أحدا منهم ، ومرهم بأن يخلصوا له - تعالى - العبادة والطاعة .
والتعبير بالفاء فى قوله : { فَأَنذِرْ } للإِشعار بوجوب الإِسراع بهذا الإِنذار بدون تردد .
وقال : فأنذر ، دون فبشر ، لأن الإِنذار هو المناسب فى ابتداء تبليغ الناس دعوة الحق حتى يرجعوا عما هم فيه من ضلال .
ومفعول أنذر محذوف . أى : قم فأنذر الناس ، ومرهم بإخلاص العبادة لله .
( يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر . ولا تمنن تستكثر . ولربك فاصبر ) . .
إنه النداء العلوي الجليل ، للأمر العظيم الثقيل . . نذارة هذه البشرية وإيقاظها ، وتخليصها من الشر في الدنيا ، ومن النار في الآخرة ؛ وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان . . وهو واجب ثقيل شاق ، حين يناط بفرد من البشر - مهما يكن نبيا رسولا - فالبشرية من الضلال والعصيان والتمرد والعتو والعناد والإصرار والإلتواء والتفصي من هذا الأمر ، بحيث تجعل من الدعوة أصعب وأثقل ما يكلفه إنسان من المهام في هذا الوجود !
( يا أيها المدثر . قم فأنذر ) . . والإنذار هو أظهر ما في الرسالة ، فهو تنبيه للخطر القريب الذي يترصد للغافلين السادرين في الضلال وهم لا يشعرون . وفيه تتجلى رحمة الله بالعباد ، وهم لا ينقصون في ملكه شيئا حين يضلون ، ولا يزيدون في ملكه شيئا حين يهتدون . غير أن رحمته اقتضت أن يمنحهم كل هذه العناية ليخلصوا من العذاب الأليم في الآخرة ، ومن الشر الموبق في الدنيا . وأن يدعوهم رسله ليغفر لهم ويدخلهم جنته من فضله !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
كفار مكة العذاب إن لم يوحدوا الله تعالى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قم من نومك فأنذر عذاب الله قومك الذين أشركوا بالله، وعبدوا غيره.
عن قتادة" قُمْ فأنْذِرْ": أي أنذر عذاب الله ووقائعه في الأمم، وشدّة نقمته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
خص النذارة دون البشارة، وقد كان هو نذيرا وبشيرا. ففي ذكر النذارة ذكر البشارة، وإن أمسك عنها، لأن النذارة ليست ترجع إلى نفس الخلائق، وإنما النذارة هي تبيين عواقب ما ينتهي إليه حال من التزم الفعل المذموم، فإذا استوجب النذارة بالتزامه ذلك الفعل، فقد استوجب البشارة في تركه. فثبت أن في النذارة بشارة، وفي البشارة نذارة أيضا. فاقتصر بذكر إحداهما عن ذكر الأخرى، وليس في قوله: {قم} إلزام قيام، ولكن معناه: {قم} في إنذار الخلق وبشارتهم على ما ينتهي إليه وسعك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أمر من الله تعالى له أن يقوم وينذر قومه، والإنذار: الإعلام بموضع المخافة ليُتقى، فلما كان لا مخافة أشد من الخوف من عقاب الله، كان الإنذار منه أجل الإنذار، وتقديره؛ قم إلى الكفار فأنذر من النار.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَأَنذِرْ} فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا. والصحيح أنّ المعنى: فأفعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
بعثة عامة إلى جميع الخلق. قاله قتادة.
قم قيام عزم وتصميم، فاشتغل بفعل الإنذار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان في- حال تدثره قد لزم موضعاً واحداً فلزم من ذلك إخفاء نفسه الشريفة، أمره صلى الله عليه وسلم بالقيام، وسبب عنه الإنذار إشارة إلى أن ما يراد به من أنه يكون أشهر الخلق بالرسالة العامة مقتض لتشمير الذيل والحمل على النفس بغاية الجد والاجتهاد اللازم عنه كثرة الانتشار، فهو مناف للتدثر بكل اعتبار فقال: {قم} أي مطلق قيام، ولا سيما من محل تدثرك بغاية العزم والجد.
ولما كان الأمر عند نزول هذه السورة في أوله والناس قد عمهم الفساد، ذكر أحد وصفي الرسالة إيذاناً بشدة الحاجة إليه فقال مسبباً عن قيامه: {فأنذر} أي فافعل الإنذار لكل من يمكن إنذاره...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولا تمنن تستكثر. ولربك فاصبر)..
إنه النداء العلوي الجليل، للأمر العظيم الثقيل.. نذارة هذه البشرية وإيقاظها، وتخليصها من الشر في الدنيا، ومن النار في الآخرة؛ وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان.. وهو واجب ثقيل شاق، حين يناط بفرد من البشر -مهما يكن نبيا رسولا- فالبشرية من الضلال والعصيان والتمرد والعتو والعناد والإصرار والالتواء والتفصي من هذا الأمر، بحيث تجعل من الدعوة أصعب وأثقل ما يكلفه إنسان من المهام في هذا الوجود!
(يا أيها المدثر. قم فأنذر).. والإنذار هو أظهر ما في الرسالة، فهو تنبيه للخطر القريب الذي يترصد للغافلين السادرين في الضلال وهم لا يشعرون. وفيه تتجلى رحمة الله بالعباد، وهم لا ينقصون في ملكه شيئا حين يضلون، ولا يزيدون في ملكه شيئا حين يهتدون. غير أن رحمته اقتضت أن يمنحهم كل هذه العناية ليخلصوا من العذاب الأليم في الآخرة، ومن الشر الموبق في الدنيا. وأن يدعوهم رسله ليغفر لهم ويدخلهم جنته من فضله!