{ فَقَالُوا } كبرا وتيها ، وتحذيرا لضعفاء العقول ، وتمويها : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } كما قاله من قبلهم سواء بسواء ، تشابهت قلوبهم في الكفر ، فتشابهت أقوالهم وأفعالهم ، وجحدوا منة الله عليهما بالرسالة .
{ وَقَوْمُهُمَا } أي : بنو إسرائيل { لَنَا عَابِدُونَ } أي : معبدون بالأعمال والأشغال الشاقة ، كما قال تعالى : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ }
فكيف نكون تابعين بعد أن كنا متبوعين ؟ " وكيف يكون هؤلاء رؤساء علينا ؟ " ونظير قولهم ، قول قوم نوح : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } من المعلوم أن هذا لا يصلح لدفع الحق ، وأنه تكذيب ومعاندة .
ثم بين - سبحانه - مظاهر هذا الغرور والتكبر من فرعون وملئه فقال : { فقالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } وهما موسى وهارون { وَقَوْمُهُمَا } أى : بنو إسرائيل الذين منهم موسى وهارون { لَنَا عَابِدُونَ } أى : مسخرون خاضعون منقادون لنا كما ينقاد الخادم لمخدومه .
فأنت ترى أن فرعون وملأه ، قد أعرضوا عن دعوة موسى وهارون ، لأنهما - أولاً - بشر مثلهم ، والبشرية - فى زعمهم الفاسد - تتنافى مع الرسالة والنبوة ، ولأنهما - ثانياً - من قوم بمنزلة الخدم لفرعون وحاشيه ، ولا يليق - فى طبعهم المغرور - أن يتبع فرعون وحاشيته من كان من هؤلاء القوم المستضعفين .
قال الآلوسى : " وقوله : { فقالوا } عطف على { استكبروا } وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار ، والمراد : فقالوا فيما بينهم . . . وثنى البشر لأنه يطلق على الواحد كقوله - تعالى - { بَشَراً سَوِيّاً } وعلى الجمع ، كما فى قوله : - تعالى - { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً . . . } ولم يئن { مِثْل } نظرا إلى كونه فى حكم المصدر ، ولو أفرد البشر لصح ، لأنه اسم جنس يطلق على الواحد وغيره ، وكذا لو ثنى المثل ، فإنه جاء مثنى فى قوله : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } ومجموعاً كما فى قوله : { . . . ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } وهذه أحوالهم ، بناء على جهلهم بتفاصيل شئون الحقيقة البشرية ، وتباين طبقات أفرادها فى مراقى الكمال . . . ومن عجب أنهم لم يرضوا للنبوة ببشر ، وقد رضى أكثرهم للإلهية بحجر . . . "
ثم يجمل قصة موسى في الرسالة والتكذيب لتتمشى مع نسق العرض وهدفه المقصود :
ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وبسلطان مبين ، إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين . فقالوا : أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ? فكذبوهما فكانوا من المهلكين .
ويبرز في هذا الاستعراض الاعتراض ذاته على بشرية الرسل : ( فقالوا : أنؤمن لبشرين مثلنا ) . ويزيد عليه تلك الملابسة الخاصة بوضع بني إسرائيل في مصر : ( وقومهما لنا عابدون )مسخرون خاضعون . وهي أدعى - في اعتبار فرعون وملئه - إلى الاستهانة بموسى وهارون !
فأما آيات الله التي معهما ، وسلطانه الذي بأيديهما ، فكل هذا لا إيقاع له في مثل تلك القلوب المطموسة ، المستغرقة في ملابسات هذه الأرض ، وأوضاعها الباطلة ، وقيمها الرخيصة .
يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى ، عليه السلام ، وأخاه هارون إلى فرعون وملئه ، بالآيات والحجج الدامغات ، والبراهين القاطعات ، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما ، والانقياد لأمرهما ، لكونهما بَشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر ، تشابهت قلوبهم ، فأهلك الله فرعون وملأه ، وأغرقهم في يوم واحد أجمعين ، وأنزل على موسى الكتاب - وهو التوراة - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه ، وذلك بعد ما قصم الله فرعون والقبط ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ؛ وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة ، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ القصص : 43 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فقال فرعون وملؤه : أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا فنتبعهما وَقَوْمُهُما من بني إسرائيل لَنا عابِدُونَ يعنون أنهم لهم مطيعون متذللون ، يأتمرون لأمرهم ويدينون لهم . والعرب تسمي كل من دان الملك عابدا له ، ومن ذلك قيل لأهل الحِيرة : العباد ، لأنهم كانوا أهل طاعة لملوك العجم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قال فرعون : أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا . . . الاَية ، نذهب نرفعهم فوقنا ، ونكون تحتهم ، ونحن اليوم فوقهم وهم تحتنا ، كيف نصنع ذلك ؟ وذلك حين أتوهم بالرسالة . وقرأ : وَتَكُونَ لَكُما الكِبْرياءُ فِي الأَرْضِ قال : العلوّ في الأرض .
وقوله { عابدون } معناه خامدون متذللون ، ومن هنا قيل لعرب الحيرة العباد لأَنهم دخلوا من بين العرب في طاعة كسرى ، هذا أَحد القولين في تسميتهم والطريق المعبد المذلل وعلو هؤلاء هو الذي ذكر الله تعالى في قوله { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً }{[1]} [ القصص : 83 ]
بين ذلك بالتفريع بقوله : { فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون } فهو متفرّع على قوله { فاستكبروا } ، أي استكبر فرعون وملؤه عن اتباع موسى وهارون ، فأفصحوا عن سبب استكبارهم عن ذلك بقولهم { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون } . وهذا ليس من قول فرعون ولكنه قول بعض الملإ لبعض ، ولما كانوا قد تراوضوا عليه نسب إليهم جميعاً . وأما فرعون فكان مصغياً لرأيهم ومشورتهم وكان له قول آخر حكي في قوله تعالى : { وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمتُ لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] فإن فرعون كان معدوداً في درجة الآلهة لأنه وإن كان بشراً في الصورة لكنه اكتسب الإلهية بأنه ابن الآلهة .
والاستفهام في { أنؤمن } إنكاري ، أي ما كان لنا أن نؤمن بهما وهما مثلنا في البشرية وليسا بأهل لأن يكونا ابنين للآلهة لأنهما جاءا بتكذيب إلهية الآلهة ، فكان ملأ فرعون لضلالهم يتطلبون لصحة الرسالة عن الله أن يكون الرسول مبايناً للمرسل إليهم ، فلذلك كانوا يتخيلون آلهتهم أجناساً غريبة مثل جسد آدمي ورأس بقرة أو رأس طائر أو رأس ابن آوى أو جسد أسد ورأس آدمي ، ولا يقيمون وزناً لتباين مراتب النفوس والعقول وهي أجدر بظهور التفاوت لأنها قرارة الإنسانيَّة .
وهذه الشبهة هي سبب ضلال أكثر الأمم الذين أنكروا رسلهم .
واللام في قوله : { لبشرين } لتعدية فعل { نؤمن } . يقال للذي يصدّق المخبر فيما أخبر به : آمن له ، فيعدى فعل ( آمن ) باللام على اعتبار أنه صدّق بالخبر لأجْل المخبر ، أي لأجل ثقته في نفسه . فأصل هذه اللام لام العلة والأجْل . ومنه قوله تعالى : { فآمن له لوط } [ العنكبوت : 26 ] وقوله : { وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } [ الدخان : 21 ] . وأما تعدية فعل الإيمان بالباء فإنها إذا علق به ما يدل على الخبر تقول : آمنت بأن الله واحد . وبهذا ظهر الفرق بين قولك : آمنت بمحمد وقولك : آمنت لمحمد . فمعنى الأول : أنك صدقت شيئاً . ولذلك لا يقال : آمنت لله وإنما يقال : آمنت بالله . وتقول : آمنت بمحمد وآمنت لمحمد . ومعنى الأول يتعلق بذاته وهو الرسالة ومعنى الثاني أنك صدقته فيما جاء به .
و { مثلنا } وصف { لبشرين } وهو مما يصح التزام إفراده وتذكيره دون نظر إلى مخالفة صيغه موصوفه كما هنا . ويصح مطابقته لموصوفه كما في قوله تعالى : { إن الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالُكم } [ الأعراف : 194 ] .
وهذا طعن في رسالتهما من جانب حالهما الذاتي ثم أعقبوه بطعن من جهة منشئهما وقبيلهما فقالوا : { وقومهما لنا عابدون } ، أي وهم من فريق هم عباد لنا وأحط منا فكيف يسوداننا .
وقوله : { عابدون } جمع عابد ، أي مطيع خاضع . وقد كانت بنو إسرائيل خَوَلاً للقبط وخدماً لهم قال تعالى : { وتلك نعمة تمنُّها عليّ أن عبَّدت بني إسرائيل } [ الشعراء : 22 ] .