قوله تعالى : { يوم يغشاهم } يصيبهم{ العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم } يعني : إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم ، كما قال : { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } { ويقول ذوقوا } قرأ نافع ، وأهل الكوفة : ويقول بالياء ، أي : ويقول لهم الموكل بعذابهم : ذوقوا ، وقرأ الآخرون بالنون ، لأنه لما كان بأمره نسب إليه ، { ما كنتم تعملون } أي : جزاء ما كنتم تعملون .
ثم بين - سبحانه - كيفية إحاطة جهنم بهم فقال : { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب } .
أى : ستحيط بهم جهنم من كل جانب . يوم يحل بهم العذاب { مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } أى : من جميع جهاتهم .
{ وَيِقُولُ } - سبحانه - لهم ، على سبيل التقريع والتأنيب { ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أى : تذوقوا العذاب المهين الذى كنتم تستعجلونه فى الدنيا والذى أحاط بكم من كل جانب بسبب أعمالكم القبيحة ، وأقوالكم الباطلة .
ثم قال تعالى : { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } ، كقوله تعالى : { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] ، وقال : { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] ، وقال : { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ } [ الأنبياء : 39 ] ، فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم ، وهذا أبلغ في العذاب الحسي .
وقوله : { وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ، تهديد وتقريع وتوبيخ ، وهذا عذاب معنوي على النفوس ، كقوله : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 48 ، 49 ] ، وقال { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا . هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ . أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ . اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الطور : 13 - 16 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَإنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافِرِينَ يوم يغشى الكافرين العذاب من فوقهم في جهنم ، ومن تحت أرجلهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة يَوْمَ يَغْشاهُمُ العَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلهِمْ : أي في النار .
وقوله : وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول جلّ ثناؤه : ويقول الله لهم : ذوقوا ما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله ، وما يسخطه فيها . وبالياء في ويقول ذُوقُوا قرأت عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر ، وأبي عمرو ، فإنهما قرآ ذلك بالنون : «وَنَقُولُ » . والقراءة التي هي القراءة عندنا بالياء لإجماع الحجة من القرّاء عليها .
ويتعلق : { يوم يغشاهم العذاب } ب ( محيطة ) ، أي تحيط بهم يوم يغشاهم العذاب . وفي قوله : { يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم } تصوير للإحاطة . والغشيان : التغطية والحجب .
وقوله : { من فوقهم } بيان للغشيان لتصويره تفظيعاً لحاله كقوله : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] وتأكيداً لمعنى الغشيان لرفع احتمال المجاز ، فهو في موضع الحال من { العذاب } وهي حال مؤكدة .
وقوله : { ومِن تحت أرجلهم } احتراس عما قد يُوهمه الغشيان من الفوقية خاصة ، أي تصيبهم نار من تحتهم تتوهج إليهم وهم فوقها ، ولما كان معطوفاً على الحال بالواو وكان غير صالح لأن يكون قيداً ل { يغشاهم } لأن الغشيان هو التغطية فتقتضي العلو تعين تقدير فعل يتعلق به { من تحت أرجلهم } ، وهو أن يقدر عامل محذوف . وقد عدّ هذا العمل من خصائص الواو في العطف أن تعطف عاملاً محذوفاً دل عليه معموله كقول عبد الله بن الزبعرى :
يَا ليتَ زَوجككِ قد غدا *** متقلداً سيفاً ورمحا
يريد : ومُمسكاً رمحاً لأن الرمح لا يتقلد يصلح أن يكون مفعولاً معه وأبو عبيدة والأصمعي والجرمي واليزيدي ، ومن وافقهم يجعلون هذا من قبيل تضمين الفعل معنى فعل صالح للتعلق بالمذكور فيقدر في هذه الآية تضمين فعل { يغشاهم } معنى ( يصيبهم ) و ( يأخذهم ) . والمقصود من هذا الكناية عن أن العذاب محيط بهم ، فلذلك لم يذكر الجانبان الأيمن والأيسر لأن الغرض من الكناية قد حصل . والمقام مقام إيجاز لأنه مقام غضب وتهديد بخلاف قوله تعالى : { ثم لآتِيَنَّهم من بين أيديهم ومن خلفِهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } [ الأعراف : 17 ] لأنه حكاية لإلحاح الشيطان في الوسوسة .
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي : { ويقول } بالياء التحتية والضمير عائد إلى معلوم من المقام . فالتقدير : ويقول الله . وعدل عن ضمير التكلم على خلاف مقتضى الظاهر على طريقة الالتفات على رأي كثير من أيمة البلاغة ، أو يقدر : ويقول الملك الموكل بجهنم ، أو التقدير : ويقول العذاب ، بأن يجعل الله للنار أصواتاً كأنها قول القائل : { ذوقوا } . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالنون وهي نون العظمة .
ومعنى : { ما كنتم تعملون } جزاؤه لأن الجزاء لما كان بقدر المجزي أطلق عليه اسمه مجازاً مرسلاً أو مجازاً بالحذف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر بمنازلهم يوم القيامة، فقال تعالى: {يوم يغشاهم العذاب} وهم في النار {من فوقهم ومن تحت أرجلهم} يعني بذلك لهم من فوقهم ظل من النار ومن تحتهم ظلل، يعني بين طبقتين من نار، {ويقول} لهم الخزنة: {ذوقوا} جزاء {ما كنتم تعملون} من الكفر والتكذيب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَإنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافِرِينَ" يوم يغشى الكافرين العذاب من فوقهم في جهنم، ومن تحت أرجلهم...
وقوله: "وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "يقول جلّ ثناؤه: ويقول الله لهم: ذوقوا ما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله، وما يسخطه فيها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَوْمَ يغشاهم العذاب} أو هي محيطة بهم في الدنيا: لأنّ المعاصي التي توجبها محيطة بهم. أو لأنها مآلهم ومرجعهم لا محالة فكأنها الساعة محيطة بهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {يغشاهم} معناه يغطيهم من كل جهة من جهاتهم... وقوله تعالى: {ذوقوا} توبيخ...
ذكر كيفية إحاطة جهنم فقال تعالى: {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعلمون}. وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لم خص الجانبين بالذكر ولم يذكر اليمين والشمال وخلف وقدام؟ فنقول لأن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربع، فإن من دخلها تكون الشعلة خلفه وقدامه ويمينه ويساره وأما النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة العاجلة وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة التي تحت القدم، ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفئ بالدوس موضع القدم.
المسألة الثانية: قال: {من فوقهم ومن تحت أرجلهم} ولم يقل من فوق رؤوسهم، ولا قال من فوقهم ومن تحتهم، بل ذكر المضاف إليه عند ذكر تحت ولم يذكره عند ذكر فوق، فنقول لأن نزول النار من فوق سواء كان من سمت الرؤوس وسواء كان من موضع آخر عجيب، فلهذا لم يخصه بالرأس، وأما بقاء النار تحت القدم فحسب عجيب، وإلا فمن جوانب القدم في الدنيا يكون شعل وهي تحت فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطق بالدوس وما فوق على الإطلاق.
ثم قال تعالى: {ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون} لما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة ذوقوا عذاب ما كنتم تعملون، وجعل ذلك عين ما كانوا يعملون للمبالغة بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن عملهم كان سببا لجعل الله إياه سببا لعذابهم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
كقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]، وقال: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]، وقال: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء: 39]، فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم، وهذا أبلغ في العذاب الحسي. وقوله: {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، تهديد وتقريع وتوبيخ، وهذا عذاب معنوي على النفوس، كقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48، 49]، وقال {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 13 -16]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
مشهد مفزع في ذاته، يصاحبه التقريع المخزي والتأنيب المرير: (ذوقوا ما كنتم تعملون).. فهذه نهاية الاستعجال بالعذاب؛ والاستخفاف بالنذير...