ثم بين ما يكون بين العابدين من عداوة يوم القيامة فقال : { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } .
أى : وإذا جمع الله - تعالى - الناس للحساب والجزاء يوم القيامة ، صار الكفار مع من بعدوهم من دون الله أعداء ، يلعن بعضهم بعضا ، { وَكَانُواْ } أى : المعبودن { بِعِبَادَتِهِمْ } أى بعبادة الكفر إياهم { كَافِرِينَ } أى : جاحدين مكذبين .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } .
وقوله - سبحانه - : { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }
ثم إذا كان يوم القيامة وحشر الناس إلى ربهم ، تبرأ هؤلاء وهؤلاء من عبادهم الضالين . حتى الشيطان كما جاء في سورة أخرى : ( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ، ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لي عليكم من سلطان ، إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي . فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي . إني كفرت بما أشركتمون من قبل . إن الظالمين لهم عذاب أليم ) . .
وهكذا يقفهم القرآن وجها لوجه أمام حقيقة دعواهم ومآلها في الدنيا والآخرة . بعدما وقفهم أمام الحقيقة الكونية التي تنكر هذه الدعوى وترفضها . وفي كلتا الحالتين تبرز الحقيقة الثابتة . حقيقة الوحدانية التي ينطق بها كتاب الوجود ، وتوجبها مصلحة المشركين أنفسهم ، ويلزمهم بها النظر إلى مآلهم في الدنيا والآخرة .
وإذا كان القرآن يندد بضلال من يدعون من دون الله آلهة لا يستجيبون لهم إلى يوم القيامة ؛ وكان هذا يعني المعبودات التاريخية التي عرفتها الجماعات البشرية عند نزول هذا القرآن ، فإن النص أوسع مدلولا وأطول أمدا من ذلك الواقع التاريخي . فمن أضل ممن يدعو من دون الله أحدا في أي زمان وفي أي مكان ? وكل أحد - كائنا من كان - لا يستجيب بشيء لمن يدعوه ، ولا يملك أن يستجيب . وليس هناك إلا الله فعال لما يريد . . إن الشرك ليس مقصورا على صوره الساذجة التي عرفها المشركون القدامى . فكم من مشركين يشركون مع الله ذوي سلطان ، أو ذوي جاه ، أو ذوي مال ؛ ويرجون فيهم ، ويتوجهون إليهم بالدعاء . وكلهم أعجز من أن بستجيبوا لدعاتهم استجابة حقيقية . وكلهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا . ودعاؤهم شرك . والرجاء فيهم شرك . . والخوف منهم شرك . ولكنه شرك خفي يزاوله الكثيرون ، وهم لا يشعرون .
وقوله : { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } ، كقوله تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [ مريم : 81 ، 82 ] أي : سيخونونهم{[26379]} أحوج ما يكونون إليهم ، وقال الخليل : { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ هََذَا سِحْرٌ مّبِينٌ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا جُمع الناس يوم القيامة لموقف الحساب ، كانت هذه الاَلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء ، لأنهم يتبرّأون منهم وكانُوا بعِبادِتهِمْ كافِرِين يقول تعالى ذكره : وكانت آلتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين ، لأنهم يقولون يوم القيامة : ما أمرناهم بعبادتنا ، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا ، تبرأنا إليك منهم يا ربنا .