وقوله - سبحانه - : { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } جملة معترضة بين ما سبقها ، وبين قوله - تعالى - بعد ذلك { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } ، والمقصود فيها توبيخهم وتعجيزهم عن أن يأتوا ولو بحجة واحدة يدافعون بها عن أنفسهم .
والفاء لتفريع هذا التعجيز والتوبيخ ، على الحجج السابقة ، المثبتة بأن هذا القرآن من عند الله - تعالى - وليس من عند غيره .
و { أين } اسم استفهام عن المكان ، والاستفهام هنا للتعجيز والتقريع ، وهو منصوب بقوله : { تذهبون } .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم ، فأى طريق تسلكون أوضح وأبين من هذا الطريق الذى أرشدناكم إليه ؟ إنه لا طريق لكم سوى هذا الطريق الذى أرشدناكم إليه .
قال صاحب الكشاف : قوله { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } استضلال لهم ، كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهابا فى بنيات الطريق - أى : فى الطريق المتشعبة عن الطريق الأصلى - أين تذهب ؟ مثلث حالهم فى تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل .
وقوله : { فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ } ؟ أي : فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن ، مع ظهوره ووضوحه ، وبيان كونه جاء{[29795]} من عند الله عز وجل ، كما قال الصديق ، رضي الله عنه ، لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين ، وأمرهم فتلوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة الذي هو في غاية الهذيان والركاكة ، فقال : ويحكم ، أين يُذهَب بعقولكم{[29796]} ؟ والله إن هذا الكلام لم يخرج من إلٍّ ، أي : من إله .
وقال قتادة : { فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ } أي : عن كتاب الله وعن طاعته .
وقوله : فأَيْنَ تَذْهَبُونَ يقول تعالى ذكره : فأين تذهبون عن هذا القرآن ، وتعدلون عنه ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فأَيْنَ تَذْهَبُونَ يقول : فأين تعدلون عن كتابي وطاعتي .
وقيل : فَأيْنَ تَذْهَبُونَ ولم يقل : فإلى أين تذهبون ، كما يقال : ذهبت الشأم ، وذهبت السوق . وحُكي عن العرب سماعا : انطلق به الغَوْرَ ، على معنى إلغاء الصفة ، وقد ينشد لبعض بني عُقَيل :
تَصِحُ بِنا حَنِيفَةُ إذْ رأتْنا *** وأيّ الأرْضِ تَذْهَبُ للصّياحِ
بمعنى : إلى أيّ الأرض تذهب ؟ واستُجيز إلغاء الصفة في ذلك للاستعمال .
جملة : { فأين تذهبون } معترضة بين جملة : { وما هو بقول شيطان رجيم } [ التكوير : 25 ] وقوله : { إن هو إلا ذكر للعالمين } [ التكوير : 27 ] .
والفاء لتفريع التوبيخ والتعجيز على الحجج المتقدمة المثبتة أن القرآن لا يجوز أن يكون كلام كاهن وأنَّه وحي من اللَّه بواسطة الملك .
وهذا من اقتران الجملة المعترضة بالفاء كما تقدم في قوله تعالى : { فمن شاء ذكره } في سورة عبس ( 12 ) .
و ( أين ) اسم استفهام عن المكان . وهو استفهام إنكاري عن مكان ذهابهم ، أي طريق ضلالهم ، تمثيلاً لحالهم في سلوك طرق الباطل بحال من ضل الطريق الجادة فيسأله السائل منكراً عليه سلوكه ، أي اعدلْ عن هذا الطريق فإنه مضلة .
ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملاً في التعجيز عن طلب طريق يسلكونه إلى مقصدهم من الطعن في القرآن .
والمعنى : أنه قد سدت عليكم طرق بهتانكم إذ اتضح بالحجة الدامغة بطلان ادعائكم أن القرآن كلام مجنون أو كلام كاهن ، فماذا تدعون بعد ذلك .
واعلم أن جملة أين تذهبون قد أرسلت مثلاً ، ولعله من مبتكرات القرآن وكنت رأيت في كلام بعضهم : أين يذهب بك ، لمن كان في خطأ وعماية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فأين تذهبون عن هذا القرآن، وتعدلون عنه؟.. عن قتادة" فأَيْنَ تَذْهَبُونَ "يقول: فأين تعدلون عن كتابي وطاعتي...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي فأين تذهبون عن طاعته واتباعه والانقياد له، وقد أتاكم ما يلزمكم طاعته واتباعه؟...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معناه أين تذهبون عن الحق الذي قد ظهر أمره وبدت أعلامه إلى الضلال الذي فيه البوار والهلاك، وهو استبطاء لهم في القعود عن النبي (صلى الله عليه وآله)، والعمل بما يوجبه القرآن، فالذهاب هو المصير عن شيء إلى شيء بالنفوذ في الأمر...
وقيل معناه فأي طريق يسلكون أبين من الطريق الذي بيّنه لكم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إلى متى تتطوحون في أودية الظنون والحسبان؟ وإلى أين تذهبون عن شهود مواضع الحقيقة؟ وهلاَّ رجعتم إلى مولاكم فيما سَرَّكم أو أساءَكم؟...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
استضلال لهم كما يقال لتارك الجادّة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق: أين تذهب؛ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فأين تذهبون} أي بقلوبكم عن هذا الحق المبين يا أهل مكة المدعين لغاية الفطنة وقد علمتم هذا الحفظ العظيم في الرسولين الملكي والبشري فمن أين- يأتي ما تدعون من التخليط في هذا الكتاب العظيم الذي دل على حفظه ببرهان عجزكم عن معارضة شيء منه؟...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والفاء لتفريع التوبيخ والتعجيز على الحجج المتقدمة المثبتة أن القرآن لا يجوز أن يكون كلام كاهن وأنَّه وحي من اللَّه بواسطة الملك. وهذا من اقتران الجملة المعترضة بالفاء...
و (أين) اسم استفهام عن المكان. وهو استفهام إنكاري عن مكان ذهابهم، أي طريق ضلالهم...
والمعنى: أنه قد سدت عليكم طرق بهتانكم إذ اتضح بالحجة الدامغة بطلان ادعائكم أن القرآن كلام مجنون أو كلام كاهن، فماذا تدعون بعد ذلك. واعلم أن جملة أين تذهبون قد أرسلت مثلاً، ولعله من مبتكرات القرآن وكنت رأيت في كلام بعضهم: أين يذهب بك، لمن كان في خطأ وعماية...
حين سدّ الحق سبحانه وتعالى عليهم جميع المنافذ، وعلموا أنه لا سبيل إلا منهج الله عز وجل، الواصل لكم عن محمد صلى الله عليه وسلم، المبلغ له عن جبريل عليه السلام، فإذا كان لا سبيل إلا هذا فلا تحاولوا أن تذهبوا إلى أي سبيل آخر، فأخبروني الآن.. أين تذهبون؟!
وكلمة: {فأين تذهبون} لا يقولها إلا من حبس الطرق المؤدية للغاية، ولم يُبق إلا طريقاً واحداً، وهو قائم على هذا الطريق.
{فأين تذهبون} سؤال من الحق سبحانه وتعالى، ولا ينبغي أن يجيب الخلق إلا بشيء واحد، وهو: لا سبيل إلا هذا، وكان الأسلوب هو أسلوب الاستفهام حتى لا يكون كلاماً خبرياً، فالكلام الخبري يكون حجة من جهته، أما عندما يقول: {فأين تذهبون} فمعنى ذلك: لقد سألتكم سؤالاً فأجيبوني، فإذا أرادوا أن يجيبوا لا يجدون إلا إجابة واحدة، وهي: ليس إلا هذا السبيل، وهذا يسمى بسؤال التضييق، أي أنه لا سبيل من السبل إلا هذا السبيل.