إنها كلمة القلب الذي وجد الله فلم يعد يحفل ما يفقد بعد هذا الوجدان . القلب الذي اتصل بالله فذاق طعم العزة فلم يعد يحفل الطغيان . القلب الذي يرجو الآخرة فلا يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ولا كثير :
( قالوا : لا ضير . إنا إلى ربنا منقلبون . إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ) . .
لا ضير . لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف . لا ضير في التصليب والعذاب . لا ضير في الموت والاستشهاد . . لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون . . وليكن في هذه الأرض ما يكون : فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه ( أن يغفر لنا ربنا خطايانا )جزاء ( أن كنا أول المؤمنين ) . . وأن كنا نحن السابقين . .
يا لله ! يا لروعة الإيمان إذ يشرق في الضمائر . وإذ يفيض على الأرواح . وإذ يسكب الطمأنينة في النفوس . وإذ يرتفع بسلالة الطين إلى أعلى عليين . وإذ يملأ القلوب بالغنى والذخر والوفر ، فإذا كل ما في الأرض تافه حقير زهيد .
هنا يسدل السياق الستار على هذه الروعة الغامرة . لا يزيد شيئا . ليبقى للمشهد جلاله الباهر وإيقاعه العميق . وهو يربي به النفوس في مكة وهي تواجه الأذى والكرب والضيق ويربي به كل صاحب عقيدة يواجه بها الطغيان والعسف والتعذيب .
فأما بعد ذلك فالله يتولى عباده المؤمنين . وفرعون يتآمر ويجمع جنوده أجمعين :
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنّآ أَوّلَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيَ إِنّكُم مّتّبِعُونَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل السحرة : إنا نطمع : إنا نرجو أن يصفح لنا ربنا عن خطايانا التي سلفت منا قبل إيماننا به ، فلا يعاقبنا بها . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله إنّا نَطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لَنا رَبّنا خَطايانا قال : السحر والكفر الذي كانوا فيه أنْ كُنّا أوّلَ المُؤْمِنِينَ يقول : لأن كنا أوّل من آمن بموسى وصدّقه بما جاء به من توحيد الله وتكذيب فرعون في ادّعائه الربوبية في دهرنا هذا وزماننا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله أنْ كُنّا أوّلَ المُؤْمِنِينَ قال : كانوا كذلك يومئذ أوّل من آمن بآياته حين رأوها .
جملة : { إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطيانا } بيان للمقصود من جملة : { إنا إلى ربنا منقلبون } . والطمع : يطلق على الظن الضعيف ، وعُرِّف بطلب ما فيه عسر . ويطلق ويراد به الظن كما في قول إبراهيم { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء : 82 ] ، فهذا الإطلاق تأدّب مع الله لأنه يفعل ما يريد . وعلّلوا ذلك الطمع بأنهم كانوا أول المؤمنين بالله بتصديق موسى عليه السلام ، وفي هذا دلالة على رسوخ إيمانهم بالله ووعده .