ثم ذكر ما أعد للمؤمنين فقال :{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير } واختلفوا في جواب القسم : فقال بعضهم : جوابه : { قتل أصحاب الأخدود } يعني لقد قتل . وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج . وقال مقاتل : جوابه :{ إن بطش ربك لشديد }
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ } الذي حصل به الفوز{[1400]} برضا الله ودار كرامته .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أعده للمؤمنين والمؤمنات من ثواب وعطاه كريم فقال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } الأعمال { الصالحات لَهُمْ } أى : عند ربهم { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى تجرى من تحت أشجارها وبساتينها الأنهار { ذَلِكَ } العطاء هو { الفوز الكبير } الذى لا فوز يضارعه أو يقاربه .
ويتمثل رضى الله وإنعامه على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) . . وهذه هي النجاة الحقيقية : ( ذلك الفوز الكبير ) . . والفوز : النجاة والنجاح . والنجاة من عذاب الآخرة فوز . فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار ?
بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه . وهي الخاتمة الحقيقية للموقف . فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفا من أطرافه ، لا يتم به تمامه . . وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة ، وفي قلوب كل فئة مؤمنة تتعرض للفتنة على مدار القرون .
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين أن { لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } {[29934]} بخلاف ما أعد لأعدائه من الحريق والجحيم ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ }
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين أقرّوا بتوحيد الله ، وهم هؤلاء القوم الذين حرّقهم أصحاب الأخدود وغيرهم من سائر أهل التوحيد وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : وعملوا بطاعة الله ، وأْتَمروا لأمره ، وانتهَوا عما نهاهم عنه لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ يقول : لهم في الاَخرة عند الله بساتين تجري من تحتها الأنهار والخمر واللبن والعسل ذلكَ الْفَوْزُ الكَبِيرُ يقول : هذا الذي هو لهؤلاء المؤمنين في الاَخرة ، هو الظفر الكبير بما طلبوا والتمسوا بإيمانهم بالله في الدنيا ، وعملهم بما أمرهم الله به فيها ورضيه منهم .
يجوز أن يكون استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله : { ثم لم يتوبوا } المقتضي أنهم إن تابوا لم يكن لهم عذاب جهنم فيتشوف السامعُ إلى معرفة حالهم أمقصورة على السلامة من عذاب جهنم أو هي فوق ذلك ، فأخبر بأن لهم جنات فإن التوبة الإِيمان ، فلذلك جيء بصلة { آمنوا } دون : تابوا : ليدل على أن الإِيمان والعمل الصالح هو التوبة من الشرك الباعث على فتن المؤمنين ، وهذا الاستئناف وقع معترضاً .
ويجوز أن يكون اعتراضاً بين جملة { إن الذين فتنوا المؤمنين } [ البروج : 10 ] وجملة : { إن بطش ربك لشديد } [ البروج : 12 ] اعتراضاً بالبشارة في خلال الإِنذار لترغيب المنذرين في الإِيمان ، ولتثبيت المؤمنين على ما يلاقونه من أذى المشركين على عادة القرآن في إرداف الإِرهاب بالترغيب .
والتأكيد ب { إنَّ } للاهتمام بالخبر .
والإِشارة في { ذلك } إلى المذكور من اختصاصهم بالجنات والأنهار .