قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب } . قال زيد بن اسلم : مرشاس بن قيس اليهودي ، وكان شيخاً عظيم الكفر ، شديد الطعن على المسلمين ، فمر على نفر من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون ، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة ، و قال قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد . لا والله مالنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار ، فأمر شاباً من اليهود كان معه فقال : اعمد إليهم ، واجلس معهم ، ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، وكان بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ، ففعل وتكلم فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب ، أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة من الأوس ، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددتها الآن جذعة ؟ وغضب الفريقان جميعاً وقالا : قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهر وهي الحرة فخرجوا إليها ، وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال صلى الله عليه وسلم : يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً ؟ الله الله . فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح من أيديهم ، وبكوا ، وعانق بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب )يعني ساسا وأصحابه .
قوله تعالى : { يردوكم بعد إيمانكم كافرين } . قال جابر : فما رأيت قط يوماً أقبح أولاً ، ولا أحسن آخراً من ذلك اليوم . ثم قال الله تعالى على وجه التعجب .
لما توعدهم ووبخهم عطف برحمته وجوده وإحسانه وحذر عباده المؤمنين منهم لئلا يمكروا بهم من حيث لا يشعرون ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } وذلك لحسدهم وبغيهم عليكم ، وشدة حرصهم على ردكم عن دينكم ، كما قال تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } .
وبعد أن بين - سبحانه - فى هاتين الآيتين أن اليهود قد جمعوا الخستين ضلال أنفسهم ، ثم محاولتهم تضليل غيرهم ، تركهم مؤقتا فى طغيانهم يعمهون ، ووجه نداء إلى المؤمنين يحذرهم فيه من دسائس اليهود وكيدهم ، وينهاهم عن الركون إليهم ، والاستماع إلى مكرهم فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } .
والمعنى : إنكم أيها المؤمنون إن استمعتم إلى ما يلقيه بعض أهل الكتاب بينكم من دسائس ولنتم لهم ، لا يكتفون بإيقاع العداوة بينكم كما فى الجاهلية ، بل يتجاوزون ذلك إلى محاولتهم إعادتكم إلى وثنيتكم القديمة وكفركم بالله بعد إيمانكم .
وقد خاطب الله المؤمنين بذاته فى هذه الآية بعد أن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخاطب أهل الكتاب فى الآيتين السابقتين ، إظهارا لجلالة قدرهم ، وأشعارا بأنهم الأحقاء بالمخاطبة من الله - تعالى - .
وناداهم بصفة الإيمان لتحريك حرارة العقيدة فى قلوبهم وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإيمان من فطنة ويقظة فالمؤمن ليس خبا ولكن لاخب لا يخدعه .
وفى التعبير " بأن " فى قوله : { إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً } إشارة إلى أن طاعتهم لليهود ليست متوقعة ، لأن إيمانهم يمنعهم من ذلك .
ووصف - سبحانه - الذين يحاولون الوقيعة بين المؤمنين بأنهم فريق من الذين أوتوا الكتاب ، إنصافا لمن لم يفعل ذلك منهم .
ونعتهم بأنهم { أُوتُواْ الكتاب } للإشعار بأن تضليلهم ، متعمد وبأن تآمرهم على المؤمنين مقصود ، فهم أهل كتاب وعلم ، ولكنهم استعملوا عملهم فى الشرور والآثام .
وقوله : { يَرُدُّوكُم } أصل الرد الصرف والإرجاع ، إلا أنه هنا مستعار لتغير الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشاعر :
فرد شعورهن السود بيضاً . . . ورد وجوههن البيض سوداً
أى : يصيروكم بعد إيمانكم كافرين : والكاف مفعوله الأول وكافرين مفعوله الثاني
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى آية آخرى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق }
وحين يصل السياق إلى هذا الحد ينهي الجدل مع أهل الكتاب ويغفل شأنهم كله . ويتجه إلى الجماعة المسلمة بالخطاب ، والتحذير ، والتنبيه والتوجيه . وبيان خصائص الجماعة المسلمة وقواعد منهجها وتصورها وحياتها ؛ وطبيعة وسائلها لتحقيق المنهج الذي ناطه الله بها :
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ؟ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) . .
لقد جاءت هذه الأمة المسلمة لتنشىء في الأرض طريقها على منهج الله وحده ، متميزة متفردة ظاهرة . لقد انبثق وجودها ابتداء من منهج الله ؛ لتؤدي في حياة البشر دورا خاصا لا ينهض به سواها . لقد وجدت لإقرار منهج الله في الأرض ، وتحقيقه في صورة عملية ، ذات معالم منظورة ، تترجم فيها النصوص إلى حركات وأعمال ، ومشاعر وأخلاق ، وأوضاع وارتباطات .
وهي لا تحقق غاية وجودها ، ولا تستقيم على طريقها ، ولا تنشىء في الأرض هذه الصورة الوضيئة الفريدة من الحياة الواقعية الخاصة المتميزة ، إلا إذا تلقت من الله وحده ، وإلا إذا تولت قيادة البشرية بما تتلقاه من الله وحده . قيادة البشرية . . لا التلقي من أحد من البشر ، ولا اتباع أحد من البشر ، ولا طاعة أحد من البشر . . إما هذا وإما الكفر والضلال والانحراف . .
هذا ما يؤكده القرآن ويكرره في شتى المناسبات . وهذا ما يقيم عليه مشاعر الجماعة المسلمة وأفكارها وأخلاقها كلما سنحت الفرصة . . وهنا موضع من هذه المواضع ، مناسبته هي المناظرة مع أهل الكتاب ، ومواجهة كيدهم وتآمرهم على الجماعة المسلمة في المدينة . . ولكنه ليس محدودا بحدود هذه المناسبة ، فهو التوجيه الدائم لهذه الأمة ، في كل جيل من أجيالها . لأنه هو قاعدة حياتها ، بل قاعدة وجودها .
لقد وجدت هذه الأمة لقيادة البشرية . فكيف تتلقى إذن من الجاهلية التي جاءت لتبدلها ولتصلها بالله ، ولتقودها بمنهج الله ؟ وحين تتخلى عن مهمة القيادة فما وجودها إذن ، وليس لوجودها - في هذه الحال - من غاية ؟ !
لقد وجدت للقيادة : قيادة التصور الصحيح . والاعتقاد الصحيح . والشعور الصحيح . والخلق الصحيح . والنظام الصحيح . والتنظيم الصحيح . . وفي ظل هذه الأوضاع الصحيحة يمكن أن تنمو العقول ، وأن تتفتح ، وأن تتعرف إلى هذا الكون ، وأن تعرف أسراره ، وأن تسخر قواه وطاقاته ومدخراته . . ولكن القيادة الأساسية التي تسمح بهذا كله وتسيطر على هذا كله ، وتوجهه لخير البشر لا لتهديدهم بالخراب والدمار ، ولا لتسخيره في المآرب والشهوات . . ينبغي أن تكون للإيمان ، وأن تقوم عليها الجماعة المسلمة ، مهتدية فيها بتوجيه الله . لا بتوجيه أحد من عبيد الله .
وهنا في هذا الدرس يحذر الأمة المسلمة من اتباع غيرها ، ويبين لها كذلك طريقها لإنشاء الأوضاع الصحيحة وصيانتها . ويبدأ بتحذيرها من اتباع أهل الكتاب ، وإلا فسيقودونها إلى الكفر لا مناص .
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ؟ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) . .
إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم ، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم ، تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية ، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة . كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعدا في طريق النماء والارتقاء . وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس ، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب .
هذا من جانب المسلمين . فأما من الجانب الآخر ، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها . فهذه العقيدة هي صخرة النجاة ؛ وخط الدفاع ، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة . وأعداؤه يعرفون هذا جيدا . يعرفونه قديما ويعرفونه حديثا ، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وسعهم من مكر وحيلة ، ومن قوة كذلك وعدة . وحين يعجزهم أن يحاربوا هذه العقيدة ظاهرين يدسون لها ماكرين . وحين يعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحدهم ، يجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام ، أو ممن ينتسبون - زورا - للإسلام ، جنودا مجندة ، لتنخر لهم في جسم هذه العقيدة من داخل الدار ، ولتصد الناس عنها ، ولتزين لهم مناهج غير منهجها ، وأوضاعا غير أوضاعها ، وقيادة غير قيادتها . .
فحين يجد أهل الكتاب من بعض المسلمين طواعية واستماعا واتباعا ، فهم ولا شك سيستخدمون هذا كله في سبيل الغاية التي تؤرقهم ، وسيقودونهم ويقودون الجماعة كلها من ورائهم إلى الكفر والضلال .
ومن ثم هذا التحذير الحاسم المخيف :
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين )
{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بذلك ، فقال بعضهم : عنى بقوله : { يا أيّها الّذِين آمَنُوا } الأوس والخزرج ، وبالذين أوتوا الكتاب : شاس بن قيس اليهودي ، على ما قد ذكرنا قبل من خبره عن زيد بن أسلم .
وقال آخرون : فيمن عُني بالذين آمنوا ، مثل قول زيد بن أسلم ، غير أنهم قالوا : الذي جرى الكلام بينه وبين غيره من الأنصار حتى هموا بالقتال ووجدوا اليهودي به مغمزا فيهم ثعلبة بن عنمة الأنصاري . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ كافِرِينَ } قال : نزلت في ثعلبة بن عنمة الأنصاري ، كان بينه وبين أناس من الأنصار كلام ، فمشى بينهم يهودي من قينقاع ، فحمل بَعْضَهُم على بعضٍ حتى همت الطائفتان من الأوس والخزرج أن يحملوا السلاح فيقاتلوا ، فأنزل الله عز وجل : { إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ كافِرِينَ } يقول : إن حملتم السلاح فاقتتلتم كفرتم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن حميد الأعرج عن مجاهد في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ } قال : كان جماع قبائل الأنصار بطنين الأوس والخزرج ، وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن ، حتى منّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وسلم ، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم ، وألّف بينهم بالإسلام قال : فبينا رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ، ومعهما يهودي جالس ، فلم يزل يذكّرهما أيامهما والعداوة التي كانت بينهم ، حتى استبّا ، ثم اقتتلا . قال : فنادى هذا قومه ، وهذا قومه ، فخرجوا بالسلاح ، وصفّ بعضهم لبعض . قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد يومئذ بالمدينة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم ، حتى رجعوا ووضعوا السلاح ، فأنزل الله عزّ وجلّ القرآن في ذلك : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ } إلى قوله : { عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
فتأويل الاَية : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله ، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتاب من أهل التوراة والإنجيل ، فتقلبوا منهم ما يأمرونكم به ، يضلوكم فيردّوكم بعد تصديقكم رسول ربكم وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم كافرين¹ يقول : جاحدين لما قد آمنتم به وصدّقتموه من الحقّ الذي جاءكم من عند ربكم . فنهاهم جلّ ثناؤه أن ينتصحوهم ، ويقبلوا منهم رأيا أو مشورة ، ويعلمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوون على غلّ وغشّ وحسد وبغض . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ كافِرِينَ } : قد تقدّم الله إليكم فيهم كما تسمعون ، وحذركم وأنبأكم يضلالتهم ، فلا تأمنوهم على دينكم ولا تنصحوهم على أنفسكم ، فإنهم الأعداء الحسدة الضلال . كيف تأتمنون قوما كفروا بكتابهم ، وقتلوا رسلهم ، وتحيروا في دينهم ، وعجزوا عن أنفسهم ؟ أولئك والله هم أهل التهمة والعداوة !
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } نزلت في نفر من الأوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدثون ، فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه تألفهم واجتماعهم فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه ، وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس ، ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح ، واجتمع مع القبيلتين خلق عظيم ، فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال " أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بين قلوبكم " فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما خاطبهم الله بنفسه بعدما أمر الرسول بأن يخاطب أهل الكتاب إظهارا لجلالة قدرهم ، وإشعارا بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم .
إقبال على خطاب المؤمنين لتحذيرهم من كيد أهل الكتاب وسوء دعائهم المؤمنين ، وقد تفضّل الله على المؤمنين بأن خاطبهم بغير واسطة خلاف خطابه أهل الكتاب إذ قال : { قل يا أهل الكتاب } [ آل عمران : 98 ] ولم يقل : قل يأيُّها الّذين آمنوا .
والفريق : الجماعة من النَّاس ، وأشار به هنا إلى فريق من اليهود وهم شَاس بن قَيس وأصحابه ، أو أراد شاساً وحده ، وجعله فريقاً كما جعل أبا سفيان ناساً قي قوله : « إنّ النّاس قد جمعوا لكم » وسياق الآية مؤذن بأنَّها جرت على حادثة حدثتْ وأنّ لنزولها سبباً . وسبب نزول هذه الآية : أنّ الأوس والخزرج كانوا في الجاهلية قد تخاذلوا وتحاربوا حتَّى تفانوا ، وكانت بينهم حروب وآخرها يوم بُعاث الّتي انتهت قبل الهجرة بثلاث سنين ، فلمَّا اجتمعوا على الإسلام زالت تلك الأحقاد من بينهم وأصبحوا عُدّة للإسلام ، فساء ذلك يهودَ يثرب فقام شاس بن قيس اليهودي ، وهو شيخ قديم منهم ، فجلس إلى الأوس والخزرج ، أو أرسل إليهم من جلس إليهم يذكِّرهم حروب بُعاث ، فكادوا أن يقتتلوا ، ونادى كُلّ فريق : يا للأوس ويا للخزرج وأخذوا السلاح ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بينهم وقال : أتَدْعُون الجاهليةَ وأنا بين أظهركم ؟ وفي رواية : أبدعوى الجاهلية ؟ أي أتدعون بدعوى الجاهلية وقرأ هذه الآية ، فما فرغ منها حتَّى ألقوا السِّلاح ، وعانق بعضهم بعضاً ، قال جابر بن عبد الله : ما كان طالع أكره إلينا من طلوع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا أصلح الله بيننا ما كان شخص أحبّ إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت يوماً أقبحَ ولا أوْحَش أوّلا وأحسنَ آخراً من ذلك اليوم .
وأصل الردّ الصّرف والإرجاع قال تعالى : { ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر } [ الحج : 5 ] وهو هنا مستعار لتغيّر الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشَّاعر ، فيما أنشده أهل اللّغة :
فَرَدّ شُعُورَهُنّ السُّود بِيضا *** وَرَدّ وُجُوهَهُنّ البِيض سُودا
و { كافرين } مفعوله الثَّاني ، وقوله { بعد إيمانكم } تأكيد لما أفاده قوله { يردّوكم } والقصد من التَّصريح به توضيح فوات نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب}: يعني طائفة من الذين أوتوا الكتاب، يعني أعطوا التوراة، {يردوكم بعد إيمانكم كافرين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بذلك؛
فقال بعضهم: عنى بقوله: {يا أيّها الّذِين آمَنُوا} الأوس والخزرج، وبالذين أوتوا الكتاب: شاس بن قيس اليهودي، على ما قد ذكرنا قبل من خبره عن زيد بن أسلم.
وقال آخرون: فيمن عُني بالذين آمنوا، مثل قول زيد بن أسلم، غير أنهم قالوا: الذي جرى الكلام بينه وبين غيره من الأنصار حتى هموا بالقتال ووجدوا اليهودي به مغمزا، فيهم ثعلبة بن عنمة الأنصاري.
فتأويل الآية: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتاب من أهل التوراة والإنجيل، فتقلبوا منهم ما يأمرونكم به، يضلوكم فيردّوكم بعد تصديقكم رسول ربكم وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم كافرين، يقول: جاحدين لما قد آمنتم به وصدّقتموه من الحقّ الذي جاءكم من عند ربكم. فنهاهم جلّ ثناؤه أن ينتصحوهم، ويقبلوا منهم رأيا أو مشورة، ويعلمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوون على غلّ وغشّ وحسد وبغض... عن قتادة: قد تقدّم الله إليكم فيهم كما تسمعون، وحذركم وأنبأكم يضلالتهم، فلا تأمنوهم على دينكم ولا تنصحوهم على أنفسكم، فإنهم الأعداء الحسدة الضلال. كيف تأتمنون قوما كفروا بكتابهم، وقتلوا رسلهم، وتحيروا في دينهم، وعجزوا عن أنفسهم؟ أولئك والله هم أهل التهمة والعداوة!
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدها: معلوم أن المؤمنين لا يطيعون الكفار بحال في الكفر، ولكن معناه، والله أعلم، أن يدعوهم إلى شيء لا يعلمون أن في ذلك كفرا، نهاهم أن يطيعوهم، وفي كل ما يدعونكم إليه كفروا، وأنتم لا تعلمون، ويحتمل النهي عن طاعتهم، نهاهم عن أن يطيعوهم، وإن كان يعلم أنهم لا يطيعونهم، كما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم في غير آية من القرآن كقوله: {ولا تكونن من المشركين} [الأنعام: 14] و [كقوله] {فلا تكن من الممترين} [البقرة: 147] فكذلك هذا.
ويشبه أن تكون الآية في عرض أمور عظام، ترغب فيها [لئلا يكفر] بها، فحذر عن ذلك بما بين من الاعتناد والخسار في آية أخرى ليعلموا أن ذلك تجارة مخسرة، وقد كانت لهم، ولأهل كل دين ومذهب هذا الاعتناد، والله أعلم. وعلى ذلك قوله: {وكيف تكفرون} على أن الذي أراكم الرسول صلى الله عليه وسلم ألذ للعقول وأروح للأبدان مما وعدوه من سوء المآب، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" إن تطيعوا"؛ فالطاعة: موافقة الإرادة الجاذبة للفعل بالترغيب فيه. ومعنى الآية: النهي عن طاعة الكفار، وبيان أن من أطاعهم يدعوه ذلك إلى الارتداد عن دينه بعد أن كان مؤمنا ورجوعه كافرا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فَمَنْ أطاع عدوَّ الله إلى شؤم صحبة الأعداء ألقاه في وهدته...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يردوكم}: بالإضلال والتشكيك والمخادعة وإظهار الغش في معرض النصح.
اعلم أنه تعالى لما حذر الفريق من أهل الكتاب في الآية الأولى عن الإغواء والإضلال حذر المؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم،...
والمراد جميع ما يحاولونه من أنواع الإضلال، فبين تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم، أدى ذلك حالا بعد حال إلى أن يعودوا كفارا، والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين، أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة وثوران المحاربة المؤدية إلى سفك الدماء، وأما في الدين فظاهر...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
إنما خاطبهم الله بنفسه بعدما أمر الرسول بأن يخاطب أهل الكتاب إظهارا لجلالة قدرهم، وإشعارا بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ناداهم بوصف الإيمان تنبيهاً على تباين ما بينهم وبين الكفار، ولم يأت بلفظ « قل» ليكون ذلك خطاباً منه تعالى لهم وتأنيساً لهم. وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية، لأنه لم تقع طاعتهم لهم... وأطلق الطواعية لتدل على عموم البدل، أي أنْ يصدرَ منكم طواعية ما في أي شيء كان مما يحاولونه من إضلالكم... والكفر المشار إليه هنا ليس بكفر حقيقة، لأن سبب النزول هو في إلقاء العداوة بين الأوس والخزرج. ولو وقعت لكانت معصية لا كفراً إلا أن يفعلوا ذلك مستحبين له. وقد يكون ذلك بتحسين أهل الكتاب لهم منهياً بعد منهي، واستدراجهم شيئاً فشيئاً إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تم إيذانه بالسخط على أعدائه وأبلغ في إنذارهم عظيم انتقامه إن داموا على إضلالهم، أقبل بالبشر على أحبائه، مواجهاً لهم بلذيذ خطابه وصفي غنائه، محذراً لهم الاغترار بالمضلين، ومنبهاً ومرشداً ومذكراً ودالاً على ما ختم به ما قبلها من إحاطة علمه بدقيق مكر اليهود، فقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم {إن تطيعوا فريقاً} أتى بهذا اللفظ لما كان المحذر منه الافتراق والمقاطعة الذي يأتي عيب أهل الكتاب به {من الذين أوتوا الكتاب} أي القاطعين بين الأحباب... {يردوكم} وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد: {بعد إيمانكم كافرين} أي غريقين في صفة الكفر، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها!.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام: إن صح ما ورد في سبب نزول هذه الآية، فالمراد بالكفر في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) هو العداوة والبغضاء التي كان الكفر سببها، كما أن المراد بالإيمان على هذا هو الألفة والمحبة التي هي ثمرة يانعة من ثمرات الإيمان. وإذا لم ننظر إلى ما ورد من السبب، فالمعنى: أن أهل الكتاب قد سلكوا سبل التأويل في الكتاب، فحرفوه، وانصرفوا عن هدايته إلى تقاليد وضعوها لأنفسهم، فإذا أطعمتوهم وسلكتم مسالكهم فإنكم تكفرون بعد إيمانكم. أقول ويجوز أن يراد بالكفر على الوجه الأول: حقيقته، كأنه يقول: إنكم إذا أصغيتم إلى ما يلقيه هؤلاء اليهود من مثيرات الفتن واستجبتم لما يدعونكم إليه فكنتم طائعين لهم فإنهم لا يقنعون منكم بالعود إلى ما كنتم عليه من العداوة والبغضاء، بل يتجاوزون إلى ما وراء ذلك، وهو أن يردوكم إلى الكفر. ويؤيد هذا قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا، حسدا من عند أنفسهم) [لبقرة: 109] الآية وقوله في هذه السورة: (ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) [آل عمران: 68] ولا يمنع الإنسان من إتيان ما يود إلا عجزه. وإذا كان هذا جائزا- وهو الظاهر على الوجه الأول- فهو متعين على الوجه الثاني. أما اتصال الآية بما قبلها على هذا فظاهر جلي. فإنه بعد ما وبخ أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وهو الإسلام، إثر إقامة الحجج عليهم وإزالة شبهاتهم ناسب أن يخاطب المؤمنين مبينا لهم أن من كان هذا شأنهم في الكفر وهذا شأن ما دعوا إليه في ظهور حقيقته لا ينبغي أن يطاعوا ولا أن يسمع لهم قول: فإنهم دعاة الفتنة ورواد الكفر. ولذلك قال: {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد جاءت هذه الأمة المسلمة لتنشئ في الأرض طريقها على منهج الله وحده، متميزة متفردة ظاهرة. لقد انبثق وجودها ابتداء من منهج الله؛ لتؤدي في حياة البشر دورا خاصا لا ينهض به سواها. لقد وجدت لإقرار منهج الله في الأرض، وتحقيقه في صورة عملية، ذات معالم منظورة، تترجم فيها النصوص إلى حركات وأعمال، ومشاعر وأخلاق، وأوضاع وارتباطات. وهي لا تحقق غاية وجودها، ولا تستقيم على طريقها، ولا تنشئ في الأرض هذه الصورة الوضيئة الفريدة من الحياة الواقعية الخاصة المتميزة، إلا إذا تلقت من الله وحده، وإلا إذا تولت قيادة البشرية بما تتلقاه من الله وحده. قيادة البشرية.. لا التلقي من أحد من البشر، ولا اتباع أحد من البشر، ولا طاعة أحد من البشر.. إما هذا وإما الكفر والضلال والانحراف.. هذا ما يؤكده القرآن ويكرره في شتى المناسبات. وهذا ما يقيم عليه مشاعر الجماعة المسلمة وأفكارها وأخلاقها كلما سنحت الفرصة.. وهنا موضع من هذه المواضع، مناسبته هي المناظرة مع أهل الكتاب، ومواجهة كيدهم وتآمرهم على الجماعة المسلمة في المدينة.. ولكنه ليس محدودا بحدود هذه المناسبة، فهو التوجيه الدائم لهذه الأمة، في كل جيل من أجيالها. لأنه هو قاعدة حياتها، بل قاعدة وجودها...
وهنا في هذا الدرس يحذر الأمة المسلمة من اتباع غيرها، ويبين لها كذلك طريقها لإنشاء الأوضاع الصحيحة وصيانتها. ويبدأ بتحذيرها من اتباع أهل الكتاب، وإلا فسيقودونها إلى الكفر لا مناص...
إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم، تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة. كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعدا في طريق النماء والارتقاء. وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب. هذا من جانب المسلمين. فأما من الجانب الآخر، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها. فهذه العقيدة هي صخرة النجاة؛ وخط الدفاع، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة. وأعداؤه يعرفون هذا جيدا. يعرفونه قديما ويعرفونه حديثا، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وسعهم من مكر وحيلة، ومن قوة كذلك وعدة. وحين يعجزهم أن يحاربوا هذه العقيدة ظاهرين يدسون لها ماكرين. وحين يعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحدهم، يجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام، أو ممن ينتسبون -زورا- للإسلام، جنودا مجندة، لتنخر لهم في جسم هذه العقيدة من داخل الدار، ولتصد الناس عنها، ولتزين لهم مناهج غير منهجها، وأوضاعا غير أوضاعها، وقيادة غير قيادتها.. فحين يجد أهل الكتاب من بعض المسلمين طواعية واستماعا واتباعا، فهم ولا شك سيستخدمون هذا كله في سبيل الغاية التي تؤرقهم، وسيقودونهم ويقودون الجماعة كلها من ورائهم إلى الكفر والضلال...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
رتب سبحانه على الطاعة المفروضة التي حذر سبحانه و تعالى منها نتيجتها إن وقعت، ولا تقع من مؤمن بحمد الله تعالى فقال سبحانه: {يردوكم بعد إيمانكم كافرين} وفي هذا يعبر سبحانه وتعالى بقوله: {يردوكم} ولم يقل: {ترتدوا} والمعنى متلاق، ولكن الأول في بيان تسلط الكفار على قلوب أهل الإيمان في حال تلك الطاعة، فهو نوع آخر من التحذير منهم؛ لأنهم كالشياطين، فعلى كل مؤمن أن يحذرهم.
أما الارتداد فإنه يكون انبعاثا من نفس المرتد، بضلاله هو لا بتأثير من غيره...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
قد نستوحي من هاتين الآيتين أنَّ على المسلمين أن يعيشوا حالة عالية من الوعي المتقدّم للأجواء المضادّة المحيطة بهم في مجتمعات الكفر والضلال، وأن يدرسوا الأساليب المعقَّدة التي يتبعها دعاة الكفر والضلال في تفتيت القوّة الإسلامية بما يثيرونه من رواسب التاريخ وخلافاته، وفي تضليل المسيرة الإسلامية وإبعادها عن الخطّ المستقيم، ليستطيعوا، من خلال ذلك، الانفتاح على القواعد الثابتة التي تحفظ لهم وحدتهم، وتصون لهم دينهم الحقّ عندما يعرفون سبيل الاعتصام باللّه الذي يهديهم إلى الصراط المستقيم. وبذلك نعرف أنَّ السذاجة الفكرية والبساطة العملية اللتين تدفعان المسلم إلى الاستسلام لخطط العدوّ من خلال الغفلة عن طبيعته، ليستا من خُلق المسلم الذي يريده الإسلام واعياً للحقّ والفكر والطريق والمجتمع الذي من حوله في كلّ ما لديه من سلبيات وإيجابيات...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبعد أن ينتهي هذا التقريع والتنديد، والإنذار والتهديد لمشعلي الفتن، الصادين عن سبيل الله القويم، المستفيدين من غفلة بعض المسلمين يتوجه سبحانه بالخطاب إلى هؤلاء المخدوعين من المسلمين، يحذرهم من مغبة الانخداع بوساوس الأعداء، والوقوع تحت تأثيرهم، والسماح لعناصرهم بالتسلل إلى جماعتهم، وترتيب الأثر على تحريكاتهم وتسويلاتهم، وأن نتيجة كلّ ذلك هو الابتعاد عن الإيمان، والوقوع في أحضان الكفر، إذ يقول: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين).
أجل إن نتيجة الانصياع لمقاصد هؤلاء الأعداء هو الرجوع إلى الكفر لأن العدو يسعى في المرحلة الاُولى إلى أن يشعل بينكم نيران العداوة والاقتتال، ولكنه لن يكتفي بهذا القدر منكم، بل سيستمر في وساوسه الخبيثة حتّى يخرجكم عن الإسلام مرّة واحدة، ويعيدكم إلى الكفر تارة أخرى.
من هذا البيان اتضح أن المراد من الرجوع إلى الكفر في الآية هو «الكفر الحقيقي، والانفصال الكامل عن الإسلام» كما يمكن أن يكون المراد من ذلك هي تلك العداوات الجاهلية التي تعتبر في حدّ ذاتها شعبة من شعب الكفر، وعلامة من علائمه، وأثراً من آثاره، لأن الإيمان لا يصدر منه إلاَّ المحبة والمودة والتآلف، وأما الكفر فلا يصدر منه إلاَّ التقاتل والعداوة والتنافر.