تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَرُدُّوكُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ كَٰفِرِينَ} (100)

100- { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } .

كان اليهود في المدينة يكونون طابورا خامسا يثيرون الفتن والقلاقل ويشيعون الفرقة في صفوف المسلمين وكان اليهود في الجاهلية قوة وقدرة مالية فكانت لهم زراعة وثروة ومنزلة في المدينة المنورة وكانت تسمى ( يثرب ) فلما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ووحد صفوفهم وجمع كلمتهم وانتقلت سيادة المدينة وزعامتها إلى جماعة المسلمين وقد ألهب ذلك نيران الحقد والبغض في نفوس اليهود فأنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم : { جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ( النمل 14 ) .

وكان شيوخ اليهود يضمرون نيران العدوان والفتنة بين الأوس والخزرج من اهل المدينة .

وقد ورد في تفسير الطبري والنيسابوري وغيرهما كما ورد في أسباب النزول للسيوطي وأسباب النزول للواحدي أن سبب نزول هذه الآية محاولة اليهود تفريق صفوف المسلمين .

قال زيد بن أسلم : مر شاس بن قيس اليهودي وكان شيخا قد غبر 22 في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم فمر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العدوان فقال قد اجتمع ملأ بني قيلة 23 بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار فأمر شابا من اليهود كان معه فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم بعاث وما كان فيه وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار وكان بعاث يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس ، وجابر بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا وقال أحدهما لصاحبه : إن شئت رددتها جذعا وغضب الفريقان جميعا وقالا ارجعا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة وهي حرة فخرجوا إليها فانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال يا معشر المسلمين أتدّعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم فترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا الله الله فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا } يعني الأوس والخزرج { إن تطيعوا فريقا من الذين أتوا الكتاب } يعني شاسا وأصحابه { يردوكم بعد إيمانكم كافرين }قال جابر ابن عبد الله ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ إلينا بيده وأصلح الله تعالى ما بيننا فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم24 .

{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين }

أي إن استمعتم إلى ما يلقيه بعض أهل الكتاب بينكم من دسائس ولنتم لهم لا يكتفون بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بل يتجاوزون ذلك إلى محاولتهم إعادتكم إلى وثنيكم القديمة وكفركم بالله بعد إيمانكم .

وقد وصف سبحانه الذين يحاولون الوقيعة بين المؤمنين بأنهم فريق من الذين أتوا الكتاب إنصافا لمن لم يفعل ذلك منهم .

ونعتهم بأنهم أوتوا الكتاب للإشعار بان تضليلهم متعمد وبأن تآمرهم على المؤمنين مقصود فهم اهل كتاب وعلم ولكنهم استعملوا علمهم في الشرور والآثام .

وقوله : { ويردوكم } أصل الرد الصرف والإرجاع إلا أنه هنا مستعار فلتغيير الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشاعر :

فرد شعورهن السود بيضا *** ورد وجوههن البيض سودا

أي يصيركم بعد إيمانكم كافرين والكاف مفعوله الأول وكافرين مفعوله الثاني .

وشبيه بهذه الآية قوله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } ( البقرة 109 ) .