{ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ } أي : لست ضالا في مسألة من المسائل بوجه من الوجوه ، وإنما أنا هاد مهتد ، بل هدايته عليه الصلاة والسلام من جنس هداية إخوانه ، أولي العزم من المرسلين ، أعلى أنواع الهدايات وأكملها وأتمها ، وهي هداية الرسالة التامة الكاملة ، ولهذا قال : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : ربي وربكم ورب جميع الخلق ، الذي ربى جميع الخلق بأنواع التربية ، الذي من أعظم تربيته أن أرسل إلى عباده رسلا تأمرهم بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والعقائد الحسنة وتنهاهم عن أضدادها ، ولهذا قال : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ }
ويرد نوح على قومه بأسلوب عف مهذب ، فينفى عن نفسه الضلالة ، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومصدرها فيقول - كما حكى القرآن عنه - :
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } أى : قال نوح لقومه مستميلا لقلوبهم : يا قوم ليس بى أدنى شىء مما يسمى بالضلال فضلا عن الضلال المبين الذي رميتمونى به ، فقد نفى الضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه ، لأن التاء في - ضلالة - للمرة الواحدة منه ، ونفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى ، والمقام يقتضى ذلك ، لأنهم لما بالغوا في رميه بالضلال المبين ، رد عليهم بما يبرئه من أى لونه من ألوانه . وفى تقديم الظرف ( بي ) تعريض بأنهم هم في ضلال واضح .
ثم قفى على نفى الضلالة عنه بإثبات مقابلها لنفسه وهى الهداية والتبليغ عن الله - تعالى - فقال : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
فأنت ترى أن نوحاً - عليه السلام - بعد أن نفى عن نفسه أى لون من ألوان الضلالة وصف نفسه بأربع صفات كريمة :
أولها : قوله : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } أى : لست بمنجاة من الضلال الذي أنتم فيه فحسب ، ولكنى فضلا عن ذلك رسول من رب العالمين إليكم لهدايتكم وإنقاذكم مما أنتم فيه من شرك وكفر .
قال الجمل : ( وقد جاءت لكن هنا أحسن مجىء لأنها ين نقيضين ، لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين : ضلال أو هدى ، والرسالة لا تجامع الضلال و { مِّن رَّبِّ العالمين } صفة لرسول ومن لابتداء الغاية ) .
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنّي رَسُولٌ مّن رّبّ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال نوح لقومه مجيبا لهم : يا قوم لم آمركم بما أمرتكم به من إخلاص التوحيد لله وإفراده بالطاعة دون الأنداد والاَلهة زوالاً مني عن محجة الحقّ وضلالاً لسبيل الصواب ، وما بي ما تظنون من الضلال ، ولكني رسول إليكم من ربّ العالمين بما أمرتكم به من إفراده بالطاعة والإقرار له بالوحدانية والبراءة من الأنداد والاَلهة .
وقوله لهم جواباً عن هذا { ليس بي ضلالة } مبالغة في حسن الأدب والإعراض عن الجفاء منهم وتناول رفيق وسعة صدر حسبما يقتضيه خلق النبوة ، وقوله : { ولكني رسول } تعرض لمن يريد النظر والبحث والتأمل في المعجزة .
قال القاضي أبو محمد : ونقدر ولا بد أن نوحاً عليه السلام وكل نبي مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة تخرق العادة فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم نعرف .
فصلت جملة : { قال } على طريقة فَصْل المحاورات . والنّداء في جوابه إياهم للاهتمام بالخبر ، ولم يخصّ خطابَه بالذين جاوبوه ، بل أعاد الخطاب إلى القوم كلّهم ، لأنّ جوابه مع كونه مجادلة للملأ من قومه هو أيضاً يتضمّن دعوة عامة ، كما هو بيِّن ، وتقدّم آنفاً نكتة التّعبير في ندائهم بوصف القوم المضاف إلى ضميره ، فأعاد ذلك مرّة ثانية استنزالاً لطائر نفوسهم ممّا سيَعقُب النّداء من الرد عليهم وإبطال قولهم { إنّا لنراك في ضلال مبين } [ الأعراف : 60 ] .
والضّلالة مصدر مثل الضّلال ، فتأنيثه لَفْظي محض ، والعرب يستشعرون التّأنيث غالباً في أسماء أجناس المعاني ، مثل الغواية والسّفاهة ، فالتّاء لمجرّد تأنيث اللّفظ وليس في هذه التّاء معنى الوحدة لأنّ أسماء أجناس المعاني لا تراعَى فيها المُشخّصات ، فليس الضّلال بمنزلة اسم الجمع للضّلالة ، خلافاً لِما في « الكشاف » ، وكأنَّه حاول إثبات الفرق بين قول قومه له { إنّا لنراك في ضلال } [ الأعراف : 60 ] ، وقوله هُو : { ليس بي ضلالة } وتبعه فيه الفخر ، وابن الأثير في « المثل السّائر » ، وقد تكلّف لتصحيحه التفتزاني ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنّ التّخالف بين كلمتي ضلال وضلالة اقتضاه التّفنّن حيث سبق لفظ ضلال ، وموجب سبقه إرادة وصفه ب { مبين } [ الأعراف : 60 ] ، فلو عبّر هنالك بلفظ ضلالة لكان وصفها بمبيّنة غير مألوف الاستعمال ، ولما تقدّم لفظ { ضلال } [ الأعراف : 60 ] استحسن أن يعاد بلفظ يغايره في السّورة دفعاً لثقل الإعادة ؛ فقوله : { ليس بي ضلالة } ردّ لقولهم : { إنا لنراك في ضلال مبين } [ الأعراف : 60 ] بمساويه لا بأبلغ منه .
والباء في قوله : { بي } للمصاحبة أو الملابسة ، وهي تناقض معنى الظرفية المجازية من قولهم { في ضلال } [ الأعراف : 60 ] فإنّهم جعلوا الضّلال متمكّنا منه ، فنفى هو أن يكون للضّلال متلبّس به .
وتجريد { ليس } من تاء التّأنيث مع كون اسمها مؤنّث اللّفظ جرى على الجواز في تجريد الفعل من علامة التّأنيث ، إذا كان مرفوعه غير حقيقي التّأنيث ، ولمكان الفصل بالمجرور .
والاستدراك الذي في قوله { ولكني رسول } لرفع ما توهّموه من أنّه في ضلال حيث خالف دينهم ، أي هو في حال رسالة عن الله ، مع ما تقتضي الرّسالة من التّبليغ والنّصح والإخبارِ بما لا يعلمونه ، وذلك ما حسبوه ضلالاً ، وشأن ( لكن ) أن تكون جملتها مفيدة معنى يغاير معنى الجملة الواقعة قبلها ، ولا تدلّ عليه الجملة السّابقة وذلك هو حقيقة الاستدراك الموضوعةُ له ( لكِنّ ) فلا بد من مناسبة بين مضموني الجملتين : إما في المسند نحو { ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكنّ الله سَلَّم } [ الأنفال : 43 ] أو في المسند إليه نحو { وما رميتَ إذ رميت ولكنّ الله رمى } [ الأنفال : 17 ] فلا يحسن أن تقول : ما سافرت ولكنّي مقيم ، وأكثر وقوعها بعد جملة منفية ، لأنّ النّفي معنى واسع ، فيكثر أن يحتاج المتكلّم بعده إلى زيادة بيان ، فيأتي بالاستدراك ، ومن قال : إنّ حقيقة الاستدراك هو رفْعُ ما يتوَهَّم السّامع ثبوتَه أو نفيه فإنّما نظر إلى بعض أحوال الاستدراك أو إلى بعض أغراض وقوعه في الكلام البليغ ، وليس مرادُهم أنّ حقيقة الاستدراك لا تتقوم إلاّ بذلك .
واختيار طريق الإضافة في تعريف المرسِل : لما تؤذن به من تفخيم المُضاف ومن وجوب طاعته على جميع النّاس ، تعريضاً بقومه إذ عصوه .