اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ لَيۡسَ بِي ضَلَٰلَةٞ وَلَٰكِنِّي رَسُولٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (61)

وقوله : { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } الضَّلالُ ، والضَّلالةُ ، العدول عن الحق .

فإن قيل : قولهم : إنَّا لنراك في ضلال جوابه أن يقال : ليس في ضلال فَلِمَ أجاب بقوله { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } .

فالجوابُ أنَّ قوله : { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } من أحسن الردِّ وأبلغه ؛ لأنَّهُ نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة فضلاً عن أن يحيط به الضلالُ ، فكان المعنى : ليس بي نوع من أنْواعِ الضَّلالة ألْبَتَّةَ ، فكان هذا أبْلَغَ في عموم السّلب فلو قال : لستُ ضالاًّ لم يُؤدِّ هذا المعنى .

واعلم أنَّ القَوْمَ إنما نسبوا نوحاً في ادِّعَاءِ الرِّسالةِ إلى الضَّلالة لأمور :

أحدها : أنَّهُمْ استبعدوا أن يكون للَّهِ رَسُولاً إلى خلقه ، لاعتقادهم أن المقصود من الإرْسَالِ التَّكْلِيفُ : والتَّكْلِيفُ لا منفعة فيه للمَعْبُودِ ؛ لأنَّهُ متعالٍ عن النَّفْعِ والضَّرَرِ ، ولا مَنْفَعَةَ فيه للعابد ؛ لأنَّهُ فِي الحالِ مضرَّة ، وما يوحي فيه من الثَّواب والعقاب فاللَّهُ - تعالى - قادر على تحصيله بغير واسطة تكليفٍ ، فيكونُ التَّكليف عبثاً ، واللَّهُ منزهٌ عن العَبَثِ .

وثانيها : أنَّهُم وإن جَوَّزُوا التَّكْلِيفَ إلا أنَّهُم قالُوا : ما علمنا حسنه بالعَقْلِ فعلناه ، وما علمنا قُبْحَهُ تركناه حَذَراً من خَطَرِ العقابِ ، فاللَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن أنْ يكلِّفَ عبده ما لا طاقة له به ، وإذا كان رسولُ العقل كافياً ، فلا حاجة إلى بعثه رسولاً آخر .

وثالثها : أي بتقدير أنَّهُ لا بدَّ من الرسول ، فإرسال الملائكة أولى ؛ لأنَّ مهابتهم أشَدُّ ، وطهارتهم أكملُ ، وبعهدهم عن الكذب أعْظَمُ .

ورابعها : اعلم أنَّ بتقدير أن يَبْعَثَ رَسُولاً من البشرِ ، فلعلَّ القوم اعتقدوا أن الفقيرُ الذي ليس له أتباعٌ ، ولا رئاسة لا يليق به منصب الرسالة ، أو لعلَّهم اعتقدُوا أنَّ ادعاء نوح الرِّسالة من باب الجُنُونِ وتخييلات الشَّيطان ، فلهذه الأسباب حَكَمُوا على نوح بالضَّلالِ ، وقد أجابهم نُوحٌ ببقية الآيَةِ على ما يأتي في أثنائها .

ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما نفى العيبَ عن نفسه ، وصف نفسه بأشرف الصِّفات وهو قوله : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } جاءت " لَكِنَّ " هنا أحسن مجيء ؛ لأنَّها بين نقيضين ؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو من أحدَ شَيْئَيْنِ : ضلال ، أو هدى ، والرِّسَالة لا تجامع الضَّلال .

و " مِنْ رَبِّ " صفة ل " رَسُول " ، و " مِنْ " لابتداء الغاية المجازية .