قوله تعالى : { والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } وأراد بالعذاب الحد ، كما قال في أول السورة : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } أي : حدهما ، ومعنى الآية : أن الزوج إذا لاعن وجب على المرأة حد الزنا ، وإذا وجب عليها حد الزنا بلعانه فأرادت إسقاطه عن نفسها فإنها تلاعن ، فتقوم وتشهد بعد تلقين الحاكم بأربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به ، وتقول في الخامسة علي غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به . ولا يتعلق بلعانها إلا حكم واحد وهو سقوط الحد عنها ، ولو أقام الزوج بينة على زناها فلا يسقط الحد عنها باللعان . وعند أصحاب الرأي : لا حد على من قذف زوجته ، بل موجبه اللعان ، فإن لم يلاعن يحبس حتى يلاعن ، فإذا لاعن الزوج وامتنعت المرأة عن اللعان حبست حتى تلاعن . وعند الآخرين اللعان حجة على صدقه ، والقاذف إذا قعد عن الحجة على صدقه لا يحبس بل يحد كقاذف الأجنبي إذا قعد عن إقامة البينة . وعند أبي حنيفة موجب اللعان وقوع الفرقة ونفي النسب ، وهما لا يحصلان إلا بلعان الزوجين جميعاً ، وقضاء القاضي . وفرقة اللعان فرقة فسخ عند كثير من أهل العلم وبه قال الشافعي : وتلك الفرقة متأبدة حتى لو كذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه دون ما له ، فيلزمه الحد ويلحقه الولد ولكن لا يرتفع تأبيد التحريم . وعند أبي حنيفة فرقة اللعان فرقة طلاق فإذا أكذب الزوج نفسه جاز له أن ينكحها . وإذا أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم . وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر كلمات اللعان قام مقام الكل في تعلق الحكم به . فكل من صح يمينه صح لعانه حراً كان أو عبداً ، مسلماً أو ذمياً ، وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن ، وبه قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأكثر أهل العلم . وقال الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي : لا يجري اللعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين ، فإن كان الزوجان أو أحدهما رقيقاً أو ذمياً أو محدوداً في قذف فلا لعان بينهما . وظاهر القرآن حجة لمن قال يجري اللعان بينهما ، لأن الله تعالى قال : { والذين يرمون أزواجهم } ولم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره كما قال : { الذين يظاهرون من نسائهم } ثم يستوي الحر والعبد في الظهار ، ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو خليفته . ويغلظ اللعان بأربعة أشياء : بعدد الألفاظ ، والمكان ، والزمان ، وأن يكون بمحضر جماعة من الناس . أما الألفاظ المستحقة فلا يجوز الإخلال بها ، وأما المكان فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن ، إن كان بمكة فبين الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وفي سائر البلاد ففي المسجد الجامع عند المنبر ، والزمان هو أن يكون بعد صلاة العصر ، وأما الجمع فأقلهم أربعة ، والتغليظ بالجمع مستحب ، حتى لو لاعن الحاكم بينهما وحده جاز ، وهل التغليظ بالمكان واجب أو مستحب ؟ فيه قولان .
وتزيد في الخامسة ، مؤكدة لذلك ، أن تدعو على نفسها بالغضب ، فإذا تم اللعان بينهما ، فرق بينهما إلى الأبد ، وانتفى الولد الملاعن عليه ، وظاهر الآيات يدل على اشتراط هذه الألفاظ عند اللعان ، منه ومنها ، واشتراط الترتيب فيها ، وأن لا ينقص منها شيء ، ولا يبدل شيء بشيء ، وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته ، لا بالعكس ، وأن الشبه في الولد مع اللعان لا عبرة به ، كما لا يعتبر مع الفراش ، وإنما يعتبر الشبه حيث لا مرجح إلا هو .
وقوله - سبحانه - { والخامسة } بالنصب عطفا على { أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } .
أى : يدرأ عنها العذاب إذا شهدت أربع شهادات بالله أن زوجها كاذب فيما رماها به ، ثم تشهد بعد ذلك شهادة خامسة مؤداها : أن غضب الله عليها ، إن كان زوجها من الصادقين ، فى اتهامه إياها بفاحشة الزنا .
وجاء من جانب المرأة التعبير بقوله - تعالى - : { أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ } ليكون أشد فى زجرها عن الكذب ، واعترافها بالحقيقة بدون إنكار ، لأن العقوبة الدنيوية أهون من غضب الله - تعالى - عليها فى حالة كذبها .
ذلك حكم القذف العام . ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته . فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات . والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه . لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص :
( والذين يرمون أزواجهم ، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم . فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) . .
وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج ، يناسب دقة الحالة وحرج الموقف . ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته ؛ وليس له من شاهد إلا نفسه . فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا ، ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . وتمسى هذه شهادات لأنه الشاهد الوحيد . فإذا فعل أعطاها قدر مهرها ، وطلقت منه طلقة بائنة ، وحق عليها حد الزنا وهو الرجم . . ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به ؛ وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة . . بذلك يدرأ عنها الحد ، وتبين من زوجها بالملاعنة ؛ ولا ينسب ولدها - إن كانت حاملا - إليه بل إليها . ولا يقذف الولد ومن يقذفه يحد . .
{ والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } في ذلك ورفع الخامسة بالابتداء وما بعدها الخبر أو بالعطف على أن تشهد ، ونصبها حفص عطفا على { أربع } . وقرأ نافع ويعقوب { أن لعنة الله } و { أن غضب الله } بتخفيف النون فيهما وكسر الضاد وفتح الباء من { غضب } ورفع الهاء من اسم { الله } ، والباقون بتشديد النون فيهما ونصب التاء وفتح الضاد وجر الهاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويدرؤا عنها العذاب} يقول: يدفع عنها الحد لشهادتها بعد {أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين} {والخامسة أن غضب الله عليها إن كان} زوجها {من الصادقين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"والخامِسَةُ أنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْها..." يقول: والشهادة الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان زوجها فيما رماها به من الزنا من الصادقين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وجعلت «اللعنة» للرجل الكاذب لأنه مفتر مباهت بالقول فأبعد باللعنة. وجعل «الغضب» الذي هو أشد على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت بالقول، فهذا معنى هذه الألفاظ والله أَعلم.
إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظا عليها لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخيلائها وإطماعها ولذلك كانت مقدمة في آية الجلد.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
ويتعلق بالتعانها ثلاثة أحكام: دفع الحد عنها، والتفريق بينها وبين زوجها، وتأبيد الحرمة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والخامسة} من الشهادات {أن غضب الله} الذي له الأمر كله فلا كفوء له {عليها} وهو أبلغ من اللعن الذي هو الطرد، لأنه قد يكون بسبب غير الغضب، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق... {إن كان} أي كوناً راسخاً {من الصادقين} أي فيما رماها به..
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وتزيد في الخامسة، مؤكدة لذلك، أن تدعو على نفسها بالغضب، فإذا تم اللعان بينهما، فرق بينهما إلى الأبد، وانتفى الولد الملاعن عليه، وظاهر الآيات يدل على اشتراط هذه الألفاظ عند اللعان، منه ومنها، واشتراط الترتيب فيها، وأن لا ينقص منها شيء، ولا يبدل شيء بشيء، وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته، لا بالعكس، وأن الشبه في الولد مع اللعان لا عبرة به، كما لا يعتبر مع الفراش، وإنما يعتبر الشبه حيث لا مرجح إلا هو.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إنه عبر عن اللعنة في جانب الرجال، لأنه أقوى جلدا وإدراكا لمعنى الطرد، ولا يؤثر فيهم الغضب بمقدار ما يؤثر الطرد الحسي، لا مجرد الغضب النفسي، وفي جانب النساء عبر بالغضب، لأنه يؤثر في نفوسهن، ومجرد الإعراض يؤثر في نفوسهن.