{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } ورأوا منظرا شنيعا ، وهَوْلًا فظيعا { قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فأهل الجنة [ إذا رآهم أهل الأعراف ]{[312]} يطمعون أن يكونوا معهم في الجنة ، ويحيونهم ويسلمون عليهم ، وعند انصراف أبصارهم بغير اختيارهم لأهل النار ، يستجيرون بالله من حالهم هذا على وجه العموم .
ثم قال - تعالى - : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النار قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين } .
أى : وإذا ما اتجهت أبصار أصحاب الأعراف إلى جهة النار قالوا مستعيذين بالله من سوء ما رأوا من أحوالهم : يا ربنا لا تجعلنا مع هؤلاء القوم الظالمين ، ولا تجعلنا وإياهم في هذا المكان المهين .
قال صاحب المنار : " وقد أفاد هذا التعبير بالفعل المبنى للمجهول أنهم يوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة ويلقون إليهم السلام ، وأنهم يكرهون رؤية أصحاب النار ، فإذا صرفت أبصارهم تلقاءهم من غير قصد ولا رغبة ، بل بصارف يصرفهم إليها قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين .
ثم قال : والإنصاف أن هذا الدعاء أليق بحال من استوت حسناتهم وسيئاتهم وكانوا موقوفين مجهولا مصيرهم " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النّارِ قَالُواْ رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا صُرفت أبصار أصحاب الأعراف تلقاء أصحاب النار يعني : حيالهم ووجاههم فنظروا إلى تشويه الله لهم ، قالُوا رَبّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها من سخطك ما أورثهم من عذابك ما هم فيه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : وإذا مرّوا بهم ، يعني بأصحاب الأعراف بزُمْرة يُذهب بها إلى النار ، قالُوا رَبّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم قالوا : رَبّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي مكين ، عن أخيه ، عن عكرمة : وَإذَا صُرِفَتْ أبْصَارُهُمْ تِلْقاءَ أصحَابِ النّارِ قال : تحرّد وجوههم للنار ، فإذا رأوا أهل الجنة ذهب ذلك عنهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ابن زيد في قوله : وَإذَا صُرفَتْ أبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أصحَابِ النّارِ فرأوا وجوههم مُسْوَدّة وأعينهم مُزْرَقّة ، قالُوا رَبّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ .
وجملة : { وإذا صرفت أبصارهم } معطوفة على جملة : { ونادوا أصحاب الجنة } .
والصّرف : أمر الحالّ بمغادرة المكان . والصّرف هنا مجاز في الإلتفات أو استعارةٌ . وإسناده إلى المجهول هنا جار على المتعارف في أمثاله من الأفعال التي لا يُتطلّب لها فاعل ، وقد تكون لهذا الإسناد هنا فائدة زائدة وهي الإشارة إلى أنّهم لا ينظرون إلى أهل النّار إلاّ نظراً شبيهاً بفعل من يحمله على الفعل حَامِل ، وذلك أنّ النّفس وإن كانت تكره المناظر السيّئة فإنّ حبّ الاطّلاع يحملها على أن توجّه النّظر إليها آونة لتحصيل ما هو مجهول لديها .
والتلقاء : مكان وجود الشّيء ، وهو منقول من المصدر الذي هو بمعنى اللّقاء ، لأنّ محلّ الوجود مُلاق للموجود فيه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {وإذا صرفت أبصارهم}، يعني قلبت وجوههم، {تلقاء أصحاب النار}، يقول: وإذا نظر أصحاب الأعراف قِبَل أهل النار، {قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} يعني مع المشركين في النار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا صُرفت أبصار أصحاب الأعراف تلقاء أصحاب النار يعني: حيالهم ووجاههم فنظروا إلى تشويه الله لهم، "قالُوا رَبّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ "الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها من سخطك ما أورثهم من عذابك ما هم فيه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا إخبار من الله تعالى عن أحوال هؤلاء الذين على الاعراف انه اذا صرف ابصارهم. والصرف هو: العدول بالشيء من جهة إلى جهة. والتلقاء جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة، وقوله "قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين "أي لا تجمعنا وإياهم في النار...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إذا نظروا إلى أصحاب الجنة نادوهم بالتسليم عليهم {وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار} ورأوا ما هم فيه من العذاب استعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم. ونادوا رجالاً من رؤوس الكفرة يقولون لهم: {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} إشارة لهم إلى أهل الجنة، الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحتقرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم من الدنيا، وكانوا يقسمون أن الله لا يدخلهم الجنة {ادخلوا الجنة} يقال لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويعرفونهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون. وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدم والتأخر على حسبها، وأن أحداً لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم، وليتصوروا أن كل أحد يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشرّ، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه. وليعلم أنّ العصاة يوبخهم كل أحد حتى أقصر الناس عملاً.
قوله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم} فيه أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والضمير في قوله {أبصارهم} عائد على أصحاب الأعراف، فهم يسلمون على أصحاب الجنة وإذا نظروا إلى النار وأهلها دعوا الله في التخليص منها...
والمقصود من جميع هذه الآيات التخويف، حتى يقدم المرء على النظر والاستدلال، ولا يرضى بالتقليد ليفوز بالدين الحق، فيصل بسببه إلى الثواب المذكور في هذه الآيات، ويتخلص عن العقاب المذكور.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وفي قوله {صرفت} دليل أنّ أكثر أحوالهم النظر إلى تلقاء أصحاب الجنة وأن نظرهم إلى أصحاب النار هو بكونهم صرفت أبصارهم تلقاءهم، فليس الصّرف من قبلهم بل هم محمولون عليه مفعول بهم ذلك لأنّ ذلك المطلع مخوف من سماعه فضلاً عن رؤيته فضلاً عن التلبيس به، والمعنى أنهم إذا حملوا على صرف أبصارهم ورأوا ما هم عليه من العذاب استغاثوا بربّهم من أن يجعلهم معهم ولفظة {ربنا} مشعرة بوصفه تعالى بأنه مصلحهم وسيدهم وهم عبيد فبالدعاء به طلب رحمته واستعطاف كرمه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
... وفي عدم التعرضِ لتعلق أنظارِهم بأصحاب الجنةِ والتعبيرِ عن تعلق أبصارِهم بأصحاب النارِ بالصرف إشعارٌ بأن التعلقَ الأولَ بطريق الرغبة والميل الثاني بخلافه ...
... وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوءِ الحال الذي هو الموجبُ للدعاء إشعارٌ بأن المحذورَ عندهم ليس نفيَ العذابِ فقط بل مع ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
...تدل الآية على وجوب الاجتناب من الظلمة في الدنيا، كيلا يكون معهم في الآخرة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...والصّرف: أمر الحالّ بمغادرة المكان. والصّرف هنا مجاز في الالتفات أو استعارةٌ. وإسناده إلى المجهول هنا جار على المتعارف في أمثاله من الأفعال التي لا يُتطلّب لها فاعل، وقد تكون لهذا الإسناد هنا فائدة زائدة وهي الإشارة إلى أنّهم لا ينظرون إلى أهل النّار إلاّ نظراً شبيهاً بفعل من يحمله على الفعل حَامِل، وذلك أنّ النّفس وإن كانت تكره المناظر السيّئة فإنّ حبّ الاطّلاع يحملها على أن توجّه النّظر إليها آونة لتحصيل ما هو مجهول لديها.
والتلقاء: مكان وجود الشّيء، وهو منقول من المصدر الذي هو بمعنى اللّقاء، لأنّ محلّ الوجود مُلاق للموجود فيه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن أهل الأعراف يقصدون إلى أهل الجنة قصدا؛ لأنها مطمعهم، ولكن لا يلتفتون إلى أهل النار لأنهم لا يريدون الاتجاه إليهم، ولكن قد تصرف أنظارهم إليهم؛ ولذال قال تعالى: {وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين}...
و (صرفت) مبني للمفعول وجهل فاعله لعدم الحاجة إلى ذكر من صرفهم، إنما المراد أنهم صرفوا بوجوههم تلقاءهم غير عامدين ولا قاصدين ولا متجهين، فهم يقع نظرهم عرضا على أهل النار فيقع بصرهم تلقاءهم.
وذلك لطمعهم في الجنة، ورغبتهم في دخولها يتجهون إلى أهل الجنة عامدين مستبشرين راجيين أن يكونوا معهم، أما نظرهم لأهل النار، فهو عرض صرفوا إليه ولا يريدونه، والتعبير بقوله تعالى: {وإذا صرفت أبصارهم} إشارة إلى أن أبصارهم وقعت على أهل النار، أو تلقاءهم من غير إرادة، بل هي إرادة من صرفهم.
وإنهم إذا وقعت أنظارهم رأوا هول ما فيهم، فإذا كانوا قد فرحوا عندما رأوا المؤمنين فهم عندما وقعت أنظارهم على أهل النار، اعترتهم رهبة، وخافوا على أنفسهم فقالوا: {ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين}.
عندما يرون النار متأججة في الأجسام البشرية يأخذهم الهول، فيتجهون إلى الله تعالى قائلين: ربنا الذي خلقتنا وكونتنا، وقمت في الوجود علينا وأنت الحي القيوم لا تجعلنا مع القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الحق وكذبوا طاعنين بالآيات، واستكبروا عن اتباع الأنبياء، وأنغضوا رؤوسهم عن الحق إذ دعوا، لا تجعلنا مع هؤلاء، لا تجعلنا في هذه النار مثلهم فقد عَتَوا عُتُوّا كبيرا، ودخلوا في عذاب أليم،اللهم قنا غضبك.