ولما ذكر قصص هؤلاء الأمم مع رسلهم ، قال الله تعالى لرسوله : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ْ } لتنذر به ، ويكون آية على رسالتك ، وموعظة وذكرى للمؤمنين .
{ مِنْهَا قَائِمٌ ْ } لم يتلف ، بل بقي من آثار ديارهم ، ما يدل عليهم ، { وَ ْ } منها { حَصِيدٌ ْ } قد تهدمت مساكنهم ، واضمحلت منازلهم ، فلم يبق لها أثر .
ثم ساقت السورة بعد ذلك حتى نهايتها آيات كريمة اشتملت على تعليقات وتعقيبات متنوعة ، وهذه التعليقات والتعقيبات قوية الصلة بما سبقها من آيات . .
وكان التعقيب الأول يهدف إلى بيان أن هذه القرى المهلكة التى منها ما هو قائم ومنها ما هو حصيد ، ما ظلم الله - تعالى - أهلها ، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم بعصيانهم الرسل ، وإصرارهم على الكفر والعناد ، قال - تعالى - :
{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ . . . } .
أى : ذلك الذى قصصناه عليك - أيها الرسول الكريم - فى هذه السورة الكريمة ، وهو جزء { مِنْ أَنْبَآءِ القرى } المهلكة .
ونحن نقصه عليك ، فى هذا القرآن عن طريق وحينا الصادق ، ليعتبر به الناس ، وليعلموا أن هذا القرآن المشتمل على هذا القصص الذى لا علم لهم به من عند الله .
وافتتح - سبحانه - الكلام باسم الإِشارة المفيد للبعد ، للتنويه بشأن هذه الأنباء التى سبق الحديث عنها ، وللإِشعار بأنها أنباء هامة فيها الكثير من العظات والعبر لقوم يعقلون .
والضمير فى قوله : منها قائم وحصيد ، يعود إلى تلك القرى المهلكة ، والجملة مستأنفة للتحريض على النظر والاعتبار ، فكأن سائلا سأل ما حال هذه القرى الباقية آثارها أم عفى عليها الزمن ؟ فكان الجواب : منها قائم وحصيد .
أى : من هذه القرى المهلكة ما آثارها قائمة يراها الناظر إليها ، كآثار قوم ثمود .
ومنها ما أثارها عفت وزالت وانطمست وصارت كالزرع المحصود الذى استؤصل بقطعه ، فلم تبق منه باقية ، كديار قوم نوح .
ففى هذه الجملة الكريمة تشبيه بليغ ، حيث شبه - سبحانه - القرى التى بعض آثاهار مازال باقيا بالزرع القائم على ساقه ، وشبه مازال منها واندثر بالزرع المحصود .
وحصيد مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه ، أى منها قائم ومنها حصيد .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَىَ نَقُصّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هذا القصص الذي ذكرناه لك في هذه السورة ، والنبأ الذي أنبأناكه فيها من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم بالله ، وتكذيبهم رسله ، { نقصه عليك } ، فنخبرك به . { مِنْها قائمٌ } ، يقول : منها بنيانه بائد بأهله هالك ، ومنها قائم بنيانه عامر ، ومنها { حصيد } ، بنيانه خراب متداع ، قد تعفى أثره دارس ، من قولهم : زرع حصيد : إذا كان قد استؤصل قطعه ، وإنما هو محصود ، ولكنه صرف إلى فعيل ، كما قد بيّنا في نظائره .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { ذلكَ مِنْ أنْباءِ القُرَى نَقُصّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائمٌ وحَصِيد } ، يعني بالقائم : قرى عامرة . والحصيد : قرى خامدة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { قَائمٌ وحَصِيدٌ } ، قال : قائم على عروشها ، وحصيد : مستأصلة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مِنْها قائمٌ } : يُرى مكانه ، { وَحَصِيدٌ } : لا يرى له أثر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { مِنْها قائمٌ } ، قال : خاو على عروشه ، { وَحَصِيدٌ } : ملزق بالأرض .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن سفيان ، عن الأعمش : { مِنْها قائمٌ وَحَصِيدٌ } ، قال : خرّ بنيانه .
حدثنا الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش : { مِنْها قائمٌ وَحَصِيدٌ } ، قال : الحصيد : ما قد خرّ بنيانه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { مِنْها قائمٌ وحَصِيدٌ } ، منها قائم يُرى أثره ، وحصيد باد لا يُرى .
وقوله : { ذلك من أنباء الغيب } الآية ، { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من ذكر العقوبات النازلة بالأمم المذكورة ، و «الأنباء » الأخبار . و { القرى } يحتمل أن يراد بها القرى التي ذكرت في الآيات المتقدمة خاصة ، ويحتمل أن يريد القرى عامة ، أي هذه الأنباء المقصوصة عليك هو عوائد المدن إذا كفرت ، فيدخل - على هذا التأويل - فيها المدن المعاصرة ، ويجيء قوله : { منها قائم وحصيد } منها عامر ودائر ، وهذا قول ابن عباس : وعلى التأويل الأول - في أنها تلك القرى المخصوصة - يكون قوله : { قائم وحصيد } بمعنى قائم الجدرات ومتهدم لا أثر له{[6500]} ، وهذا قول قتادة وابن جريج ، والآية بجملتها متضمنة التخويف وضرب المثل للحاضرين من أهل مكة وغيرهم .