قوله تعالى : { بل الذين كفروا } وقال قتادة : موضع القسم قوله : { بل الذين كفروا } كما قال : { والقرآن المجيد بل عجبوا } وقيل : فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : بل الذين كفروا ، { في عزة وشقاق } والقرآن ذي الذكر . وقال الأخفش : جوابه قوله تعالى : { إن كل إلا كذب الرسل } كقوله : { تالله إن كنا } وقوله : { والسماء والطارق } ( إن كل نفس ) وقيل : جوابه قوله : { إن هذا لرزقنا } وقال الكسائي : قوله : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } وهذا ضعيف لأنه تخلل بين هذا القسم وبين الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة . وقال القتيبي : بل لتدارك كلام ونفي آخر ، ومجاز الآية : إن الله أقسم بص والقرآن ذي الذكر أن الذين كفروا من أهل مكة في عزة وحمية جاهلية وتكبر عن الحق وشقاق وخلاف وعداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد : في عزة تغابن .
وقوله - تعالى - : { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } انتقال من القسم والمقسم به ، إلى بيان حال الكفار وما هم عليه من غرور وعناد .
والمراد بالعزة هنا : الحمية والاستكبار عن اتباع الحق ، كما في قوله - تعالى - :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد } وليس المراد بها القهر والغلبة كما فى قوله - تعالى - : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } وأصل الشقاق : المخالفة والمنازعة بين الخصمين حتى لكأن كل واحد منهما فى شق غير الذى فيه الآخر . والمراد به هنا : مخالفة المشركين لما جاءهم به النبى صلى الله عليه وسلم .
والمعنى : وحق القرآن الكريم ذى الشرف وسمو القدر . إنك - أيها الرسول الكريم - لصادق فيما تبلغه عن ربك ، ولست كما يقول أعداؤك فى شأنك . بل الحق أن هؤلاء الكافرين فى حمية واستكبار عن قبول الهداية التى جئتهم بها من عند ربك ، وفى مخالفةٍ ومعارضةٍ لكل مالا يتفق مع ما وجدوا عليه آباءهم من عبادة للأصنام ، ومن عكوف على عاداتهم الباطلة .
والتعبير بفى قوله { فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } للإِشعار بأن ما هم علهي من عناد ومن مخالفته للحق ، قد أحاط بهم من كل جوانبهم ، كما يحيط الظرف بالمظروف .
وقوله : ( بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزّةٍ وَشِقاقٍ ) : يقول تعالى ذكره : بل الذين كفروا بالله من مشركي قريش في حمية ومشاقة ، وفراق لمحمد وعداوة ، وما بهم أن لا يكونوا أهل علم ، بأنه ليس بساحر ولا كذّاب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( فِي عِزّةٍ وَشِقاقٍ ) قال : مُعازّين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فِي عِزّةٍ وَشِقاقٍ : أي في حَمِيّة وفراق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزّةٍ وَشِقاقٍ ) قال : يعادون أمر الله ورسله وكتابه ، ويشاقون ، ذلك عزّة وشِقاق ، فقلت له : الشقاق : الخلاف ، فقال : نعم .
{ بل } للإِضراب الإِبطالي وهذا نوع من الإِضراب الإِبطالي نبّه عليه الراغب في « مفردات القرآن » وأشار إليه في « الكشاف » ، وتحريرُه أنه ليس إبطالاً محضاً للكلام السابق بحيث يكون حرفُ { بل } فيه بمنزلة حرف النفي كما هو غالب الإِضراب الإِبطالي ، ولا هو إضراب انتقالي ، ولكن هذا إبطال لتوهممٍ ينشأ عن الكلام الذي قبله إذّ دل وصف القرآن ب { ذِي الذِّكر } [ ص : 1 ] أن القرآن مذكِّرٌ سامعيه تذكيراً ناجعاً ، فعقب بإزالة توهم مَن يتوهم أن عدم تذكّر الكفار ليس لضعففٍ في تذكير القرآن ولكن لأنهم متعزّزون مُشاقُّون ، فحرف { بل } في مثل هذا بمنزلة حرف الاستدراك ، والمقصود منه تحقيق أنه ذُو ذكر ، وإزالة الشبهة التي قَد تعرض في ذلك .
ومثله قوله تعالى : { ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } [ ق : 1 ، 2 ] ، أي ليس امتناعهم من الإِيمان بالقرآن لنقص في علوّه ومجده ولكن لأنهم عجبوا أن جاءهم به رجل منهم .
ولك أن تجعل { بل } إضرابَ انتقال من الشروع في التنويه بالقرآن إلى بيان سبب إعراض المعرضين عنه ، لأن في بيان ذلك السبب تحقيقاً للتنويه بالقرآن كما يقال : دع ذا وخذ في حديث . . ، كقول امرىء القيس :
فدَع ذا وَسَلِّ الهمَّ عنك بجَسرة *** ذمول إذا صام النهارُ وهَجرا
دَع ذا وعَدِّ القولَ في هَرم *** خير البُداة وسيد الحَضر
فَدع ذا ولكن ما ترى رأيَ كاشح *** يرى بيننا من جهله دَقَّ مَنْشم
دع ذا وبَهِّجْ حَسباً مُبَهَّجاً
ومعنى ذلك أن الكلام أخذ في الثناء على القرآن ثم انقطع عن ذلك إلى ما هو أهم وهو بيان سبب إعراض المعرضين عنه لاعتزازهم بأنفسهم وشقاقهم ، فوقع العدول عن جواب القسم استغناء بما يفيد مُفاد ذلك الجواب .
وإنما قيل : { الذين كفروا } دون ( الكافرون ) لما في صلة الموصول من الإِيماء إلى الإِخبار عنهم بأنهم في عزة وشقاق . والعزة تَحوم إطلاقاتها في الكلام حول معاني المنعة والغلبة والتكبر فإن كان ذلك جارياً على أسباب واقعة فهي العزة الحقيقية وإن كان عن غرور وإعجاب بالنفس فهي عزة مزوَّرة قال تعالى : { وإذا قيل له اتقّ اللَّه أخذته بالعزّة بالإثم } [ البقرة : 206 ] ، أي أخذته الكبرياء وشدة العصيان ، وهي هنا عزة باطلة أيضاً لأنها إباء من الحق وإعجاب بالنفس . وضدُّ العزة الذلة قال تعالى : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] وقال السمَوْأل أو غيره :
وما ضَرنا أنَّا قليل وجارنا *** عزيزٌ وجار الأكثرين ذَليل
و{ في للظرفية المجازية مستعارة لقوة التلبس بالعزة . والمعنى : متلبسون بعزة على الحق .
والشقاق : العناد والخصام . والمراد : وشقاق لله بالشرك ولرسوله بالتكذيب . والمعنى : أن الحائل بينهم وبين التذكير بالقرآن هو ما في قرارة نفوسهم من العزة والشقاق .