ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى اتباع ملة إبراهيم إن كانوا حقا يريدون اتباعها فقال - تعالى - : { قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أي : قل - يا محمد - لهؤلاء اليهود الذين جادلوك بالباطل ولكل من كان على شاكلتهم فى الكذب والظلم ، قل لهم جميعا : صدق الله فيما أخبرنا به فى قوله - تعالى - كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } وفى كل ما أخبرنا به فى كتابه وعلى لسان رسوله . وأنتم الكاذبون فى دعواكم .
وإذا كنتم تريدون الوصول إلى الطريق القويم حقا { فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أى فاتبعوا ملة الإسلام التى عليها محمد صلى الله عليه وسلم وعليها من آمن به ، فهم المتبعون حقا لإبراهيم - عليه السلام - وهم أولى الناس به ، لأن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما .
أى كان متجها إلى الحق لا ينحرف عنه إلى غيره من الأديان أو الأقوال أو الأفعال الباطلة .
وكان مسلما ، أى كان مسلما وجهه لله ، مفردا إياه بالعبادة والطاعة والخضوع ثم نفى الله - تعالى-عن إبراهيم كل لون من ألوان الشرك بأبلغ وجه فقال { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } .
أى ما كان إبراهيم فى أى أمر من أموره من الذين يشركون مع الله آلهة أخرى ، وإنما كان مخلصا عبادته لله وحده .
وفى ذلك تعريض بشرك اليهود وغيرهم من أهل الكفر والضلال ، وتنبيه إلى أن النبى صلى الله عليه وسلم وأتباعه هم المتبعون حقا لإبراهيم ، فقد أمر الله - محمداً صلى الله عليه وسلم أن يسير على طريقة أبيه إبراهيم فقال :
{ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد حكت قضية من القضايا الكثيرة التى جادل اليهود فيها النبى صلى الله عليه وسلم ، وقد لقنت الآيات النبى صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يخرس ألسنتهم ، ويكشف عن كذبهم وافترائهم وظلمهم ، ويرشدهم ويرشد كل من يتأتى له الخطاب إلى الملة القويمة إن كانوا حقاً يريدون الاهتداء إلى الصراط المستقيم .
ثم قال تعالى : { قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } أي : قل يا محمد : صدق فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن { فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي : اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مِرْية ، وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم ، كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 161 ] وقال تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 123 ] .
{ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّبِعُواْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قل يا محمد : صدق الله فيما أخبرنا به من قوله : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ } وأن الله لم يحرّم على إسرائيل ولا على ولده العروق ولا لحومَ الإبل وألبانها ، وأن ذلك إنما كان شيئا حرّمه إسرائيل على نفسه وولده بغير تحريم الله إياه عليهم في التوراة ، وفي كل ما أخبر به عباده من خبر دونكم وأنتم يا معشر اليهود الكذبةُ في إضافتكم تحريم ذلك إلى الله عليكم في التوراة ، المفترية على الله الباطل في دعواكم عليه غير الحقّ { فاتّبِعُوا مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ } يقول : فإن كنتم أيها اليهود محقين في دعواكم أنكم على الدين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورسله ، فاتبعوا ملة إبراهيم خليل الله ، فإنكم تعلمون أنه الحقّ الذي ارتضاه الله من خلقه دينا ، وابتعث به أنبياءه ، وذلك الحنيفة ، يعني الاستقامة على الإسلام وشرائعه ، دون اليهودية والنصرانية والمشركة . وقوله : { وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ } يقول : لم يكن يشرك في عبادته أحدا من خلقه ، فكذلك أنتم أيضا أيها اليهود ، فلا يتخذ بعضكم بعضا أربابا من دون الله ، تطيعونهم كطاعة إبراهيم ربه . وأنتم يا معشر عبدة الأوثان ، فلا تتخذوا الأوثان والأصنام أربابا ، ولا تعبدوا شيئا من دون الله ، فإن إبراهيم خليل الرحمن كان دينه إخلاص العبادة لربه وحده ، من غير إشراك أحد معه فيه ، فكذلك أنتم أيضا ، فأخلصوا له العبادة ولا تشركوا معه في العبادة أحدا ، فإن جميعكم مُقِرّون بأن إبراهيم كان على حقّ وهدى مستقيم ، فاتبعوا ما قد أجمع جميعكم على تصويبه من ملته الحنيفية ، ودعوا ما اختلفتم فيه من سائل الملل غيرها أيها الأحزاب ، فإنها بدع ابتدعتموها إلى ما قد أجمعتم عليه أنه حقّ ، فإن الذي أجمعتم عليه أنه صواب وحقّ من ملة إبراهيم هو الحقّ الذي ارتضيته وابتعثت به أنبيائي ورسلي ذلك هو الباطل الذي لا أقبله من أحد من خلقي جاءني به يوم القيامة . وإنما قال جلّ ثناؤه : { وَمَا كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ } يعني به : وما كان من عددهم وأوليائهم ، وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم ، ونصرة بعضهم بعضا ، فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو من نصرائهم وأهل ولايتهم . وإنما عنى جلّ ثناؤه بالمشركين : اليهود والنصارى ، وسائر الأديان غير الحنيفية ، قال : لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة ، ولكنه كان حنيفا مسلما .
{ قل صدق الله } تعريض بكذبهم ، أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون . { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا } أي ملة الإسلام التي هي في الأصل ملة إبراهيم ، أو مثل ملته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة لتسوية الأغراض الدنيوية ، وألزمتكم تحريم طيبات أحلها الله لإبراهيم ومن تبعه . { وما كان من المشركين } فيه إشارة إلى أن اتباعه واجب في التوحيد الصرف والاستقامة في الدين والتجنب عن الإفراط والتفريط ، وتعريض بشرك اليهود .
ثُمّ أعلنَ أن المتعيّن في جانبه الصّدق هو خبَر الله تعالى للجزم بأنهم لا يأتون بالتوراة ، وهذا كقوله : { ولن يتمنّوه أبداً } [ البقرة : 95 ] وبعد أن فرغ من إعلان كذبهم بالحجَّة القاطعة قال : { قل صدق الله } وهو تعريض بكذبهم لأنّ صدق أحد الخبرين المتنافيين يستلزم كذب الآخر ، فهو مستعمل في معناه الأصلي والكنائي .
والتَّفريع في قوله : { فاتبعوا ملة إبراهيم جنيفاً } تفريع على { صدق الله } لأنّ اتّباع الصادق فيما أمر به مَنجاة من الخطر .