الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (95)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قل صدق الله}، وذلك حين قال الله سبحانه: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا.} (آل عمران: 67) إلى آخر الآية، وقالت اليهود والنصارى: كان إبراهيم والأنبياء على ديننا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"فقد كان إبراهيم يحج البيت وأنتم تعلمون ذلك، فلم تكفرون بآيات الله"، يعني بالحج، فذلك قوله سبحانه: {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا}: يعني حاجا. {وما كان من المشركين}: لم يكن يهوديا ولا نصرانيا...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بذلك جلّ ثناؤه: قل يا محمد: صدق الله فيما أخبرنا به من قوله: {كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ} وأن الله لم يحرّم على إسرائيل ولا على ولده العروق ولا لحومَ الإبل وألبانها، وأن ذلك إنما كان شيئا حرّمه إسرائيل على نفسه وولده بغير تحريم الله إياه عليهم في التوراة، وفي كل ما أخبر به عباده من خبر دونكم وأنتم يا معشر اليهود الكذبةُ في إضافتكم تحريم ذلك إلى الله عليكم في التوراة، المفترية على الله الباطل في دعواكم عليه غير الحقّ {فاتّبِعُوا مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} يقول: فإن كنتم أيها اليهود محقين في دعواكم أنكم على الدين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورسله، فاتبعوا ملة إبراهيم خليل الله، فإنكم تعلمون أنه الحقّ الذي ارتضاه الله من خلقه دينا، وابتعث به أنبياءه، وذلك الحنيفة، يعني الاستقامة على الإسلام وشرائعه، دون اليهودية والنصرانية والمشركة. {وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ}: لم يكن يشرك في عبادته أحدا من خلقه، فكذلك أنتم أيضا أيها اليهود، فلا يتخذ بعضكم بعضا أربابا من دون الله، تطيعونهم كطاعة إبراهيم ربه. وأنتم يا معشر عبدة الأوثان، فلا تتخذوا الأوثان والأصنام أربابا، ولا تعبدوا شيئا من دون الله، فإن إبراهيم خليل الرحمن كان دينه إخلاص العبادة لربه وحده، من غير إشراك أحد معه فيه، فكذلك أنتم أيضا، فأخلصوا له العبادة ولا تشركوا معه في العبادة أحدا، فإن جميعكم مُقِرّون بأن إبراهيم كان على حقّ وهدى مستقيم، فاتبعوا ما قد أجمع جميعكم على تصويبه من ملته الحنيفية، ودعوا ما اختلفتم فيه من سائر الملل غيرها أيها الأحزاب، فإنها بدع ابتدعتموها إلى ما قد أجمعتم عليه أنه حقّ، فإن الذي أجمعتم عليه أنه صواب وحقّ من ملة إبراهيم هو الحقّ الذي ارتضيته وابتعثت به أنبيائي ورسلي ذلك هو الباطل الذي لا أقبله من أحد من خلقي جاءني به يوم القيامة. وإنما قال جلّ ثناؤه: {وَمَا كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} يعني به: وما كان من عددهم وأوليائهم، وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم، ونصرة بعضهم بعضا، فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو من نصرائهم وأهل ولايتهم. وإنما عنى جلّ ثناؤه بالمشركين: اليهود والنصارى، وسائر الأديان غير الحنيفية، قال: لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة، ولكنه كان حنيفا مسلما.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

(فاتبعوا): فالاتباع: إلحاق الثاني بالأول لما له به من التعلق، فالقوة للأول. والثاني يستمد منه، فهم يلحقون بإبراهيم (ع) لتمسكهم بملته، والتابع: ثان متدبر بتدبير الأول متصرف بتصريفه في نفسه، والصحيح أن شريعة نبينا ناسخة لشريعة كل من تقدم من الأنبياء، وأن نبينا لم يكن متعبدا بشريعة من تقدم. وإنما وافقت شريعته شريعة إبراهيم، فلذلك قال الله تعالى "فاتبعوا ملة إبراهيم "وإلا فالله هو الذي أوحى بها إليه وأوجبها عليه، وكانت شريعة له. فإن قيل إذا كانت الشرائع بحسب المصالح، فكيف رغب في شريعة الإسلام بأنها ملة إبراهيم؟ قلنا: لأن المصالح إذا وافقت ما تميل إليه النفس ويتقبله العقل بغير كلفة كانت أحق بالرغبة، كما أنها إذا وافقت الغنى بدلا من الفقر، كانت أعظم في النعمة، وكان المشركون يميلون إلى اتباع ملة إبراهيم، فلذلك خوطبوا بذلك. والحنيف: المستقيم: الدين الذي على شريعة إبراهيم في حجه ونسكه وطيب مأكله، وتلك الشريعة هي الحنيفية. وأصل الحنف: الاستقامة، وإنما وصف المائل القدم بالأحنف تفاؤلا بها، وقيل أصله الميل، وإنما قيل الحنيف بمعنى المائل إلى الحق فيما كان عليه إبراهيم من الشرع...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{قُلْ صَدَقَ الله} تعريض بكذبهم كقوله: {ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لصادقون} [الأنعام: 146] أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون. {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} وهي ملة الإسلام التي عليها محمد ومن آمن معه، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم، حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

الغرض منه بيان أن محمدا صلوات الله عليه على دين إبراهيم عليه السلام، في الفروع والأصول. أما في الفروع، فلما ثبت أن الحكم بحله كان إبراهيم قد حكم بحله أيضا، وأما في الأصول فلأن محمدا صلوات الله وسلامه عليه لا يدعو إلا إلى التوحيد، والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وما كان إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه إلا على هذا الدين.

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

فيه إشارة إلى أن اتباعه واجب في التوحيد الصرف، والاستقامة في الدين والتجنب عن الإفراط والتفريط، وتعريض بشرك اليهود.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما اتضح كذبهم وافتضح تدليسهم -لأنه لما استدل عليهم بكتابهم فلم يأتوا به صار ظاهراً كالشمس، لا شك فيه ولا لبس، ولم يزدهم ذلك إلا تمادياً في الكذب- أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {قل} أي لأهل الكتاب الذي أنكروا النسخ فأقمت عليهم الحجة من كتابهم {صدق الله} أي الملك الأعظم الذي له الكمال كله في جميع ما أخبر، وتخبر به عن ملة إبراهيم وغيره من بنيه أسلافكم، وتبين أنه ليس على دينكم هو ولا أحد ممن قبل موسى عليه الصلاة والسلام، لأنكم لو كنتم صادقين لأتيتم بالتوراة، نافياً بذلك أن يكون تأخرهم عن الإتيان بها لعلة يعتلون بها غير ذلك، وإذ قد تبين صدقه تعالى في جميع ما قال وجب اتباعه في كل ما يأمر به، وأعظمه ملة إبراهيم فإنها الجامعة للمحاسن. ولما ثبت ذلك بهذا الدليل المحكم لزم قطعاً أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً، وقد أقروا بأن ملته هي الحق وأنهم أتباعه، فتسبب عن ذلك وجوب اتباعه فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به فبان كالشمس صدقه، لا فيما افتروه هم من الكذب، فقال سبحانه وتعالى: {فاتبعوا ملة إبراهيم} وهي الإسلام أي الانقياد للدليل، وهو معنى قوله: {حنيفاً} أي تابعاً للحجة إذا تحررت، غير متقيد بمألوف. ولما كان صلى الله عليه وسلم مفطوراً. على الإسلام فلم يكن في جبلته شيء من العوج فلم يكن له دين غير الإسلام نفى الكون فقال: {وما كان من المشركين} أي بعزير ولا غيره من الأكابر كالأحبار الذين تقلدونهم مع علمكم بأنهم يدعون إلى ضد ما دعا إليه سبحانه وتعالى...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

(قل صدق الله) فيما أنبأني به من عدم تحريم شيء على إسرائيل قبل التوراة، وقامت الحجة عليكم بذلك. فثبت أنني مبلغ عنه. إذ ما كان لولا وحيه أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تحدثون به عن أنبيائكم. وإذ كان الأمر كذلك (فاتبعوا ملة إبراهيم) التي أدعوكم إليها حال كونه (حنيفا) لا غلو فيما كان عليه ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط. بل هو الفطرة القويمة والحنيفية السمحة المبنية على الإخلاص لله وإسلام الوجه له وحده (و ما كان من المشركين) الذين يبتغون الخير من غيره تعالى أو يخافون الضر من غير أسبابه التي مضت بها سنته...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

هذا دليل على أن اليهود وغيرهم ممن ليس على ملة إبراهيم مشركون غير موحدين.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين). واليهود كانوا يزعمون أنهم هم ورثة إبراهيم. فها هو ذا القرآن يدلهم على حقيقة دين إبراهيم؛ وأنه الميل عن كل شرك. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين: مرة بأنه كان حنيفا. ومرة بأنه ما كان من المشركين. فما بالهم هم مشركين!!...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} فهل أهل الكتاب مشركون؟ نعم؛ لأنهم حين يؤمنون بالبنوة لعزير، ويؤمنون بالنبوة لعيسى فهذا إشراك بالله، وأيضا كان العرب عبدة الأصنام يقولون: إنهم على ملة إبراهيم؛ لأن شعائر الحج جاء بها إبراهيم عليه السلام، ولهذا ينزه الحق سبحانه سيدنا إبراهيم عن ذلك، ويقول: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وذلك يدل على أن ملة إبراهيم وما جاء به موافقة لملة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

فإذا لم يكن لليهود حجّة على زعمهم، وإذا تبين لهم صدق الرسول الكريم في دعوته، واتضح لهم أنّه على ملّة إبراهيم، ودينه الحنيف حقّاً يوجب عليهم أن يتبعوه (قل صدق الله فاتبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) اتبعوا ملّة إبراهيم الذي كان حنيفاً مستقيماً لا يميل إلى شيء من الأديان الباطلة، والأهواء الفاسدة، بل يسير في الطريق المستقيم، فلم يكن في دينه أي حكم منحرف مائل عن الحق وحتّى في الأطعمة الطيبة الطاهرة لم يكن يحرم شيئاً بدون مبرر أو سبب وجيه للتحريم... إنه لم يكن مشركاً، فادعاء مشركي العرب بأنهم على ملته محض اختلاق، فأين الوثنية وأين التوحيد؟ وأين عبادة الأصنام، وأين تحطيم الأصنام؟

والجدير بالذكر أن القرآن الكريم يكرر هذا الوصف (وما كان من المشركين) في شأن إبراهيم ويؤكد عليه في مواطن كثيرة، وما ذلك إلاَّ لأن العرب الجاهليين الوثنيين كانوا كما ألمحنا ينسبون ديانتهم وعقائدهم الوثنية إلى الخليل (عليه السلام)، ويدعون بأنهم على دينه وملته، وكانوا يصرون على هذا إلى درجة أن الآخرين سموهم بالحنفاء (أي أتباع إبراهيم) ولذلك كرر القرآن نفي الشرك عن الخليل وصرح مراراً وتكراراً بأنه (عليه السلام) كان حنيفاً، ولم يكن من المشركين أبداً إبطالا لذلك الادعاء السخيف، وتنزيهاً لساحة هذا النبي العظيم من تلك الوصمة المقيتة.