قوله تعالى : { وأنه أهلك عاداً الأولى } قرأ أهل المدينة والبصرة بلام مشددة بعد الدال ، ويهمز واوه قالون عن نافع ، والعرب تفعل ذلك فتقول : قم لان عنا ، تريد : قم الآن ، ويكون الوقف عندهم عاداً ، والابتداء ألولى ، بهمزة واحدة مفتوحة بعدها لام مضمونة ، ويجوز الابتداء : لولى بحذف الهمزة المفتوحة . وقرأ الآخرون : عاداً الأولى ، وهم قوم هود أهلكوا بريح صرصر ، فكان لهم عقب ، فكانوا عاداً الأخرى .
وبعد هذه الجولة فى الأنفس والآفاق ، ساقت السورة جانبا من مصارع الغابرين ، فقال - تعالى - : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى وَثَمُودَ فَمَآ أبقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى والمؤتفكة أهوى } . . أى : وأنه - تعالى - هو الذى أهلك بقدرته قبيلة عاد الأولى ، وهم قوم هود - عليه السلام - .
وسميت قبيلة عاد بالأولى ، لتقدمها فى الزمان على قبيلة عاد الثانية ، التى هى قوم صالح - عليه السلام - ، وتسمى - أيضا - بثمود .
{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى } وهم : قوم هود . ويقال لهم : عاد بن إرم بن سام بن نوح ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } [ الفجر : 6 - 8 ] ، فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله وعلى رسوله ، فأهلكهم الله { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ . سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } [ الحاقة : 6 ، 7 ] .
وقوله : وأنّهُ أهْلَكَ عادا الأُولى يعني تعالى ذكره بعاد الأولى : عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح ، وهم الذين أهلكهم الله بريح صرصر عاتية ، وإياهم عنى بقوله : ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بعادٍ إرَمَ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض قرّاء البصرة «عادا لُولى » بترك الهمز وجزم النون حتى صارت اللام في الأولى ، كأنها لام مثقلة ، والعرب تفعل ذلك في مثل هذا ، حُكي عنها سماعا منهم : «قم لان عنا » ، يريد : قم الاَن ، جزموا الميم لما حرّكت اللام التي مع الألف في الاَن ، وكذلك تقول : صم اثنين ، يريدون : صُمْ الاثنين . وأما عامة قرّاء الكوفة وبعض المكيين ، فإنهم قرأوا ذلك بإظهار النون وكسرها ، وهمز الأولى على اختلاف في ذلك عن الأعمش ، فروى أصحابه عنه غير القاسم بن معن موافقة أهل بلده في ذلك . وأما القاسم بن معن فحكي عنه عن الأعمش أنه وافق في قراءته ذلك قراءة المدنيين .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما ذكرنا من قراءة الكوفيين ، لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب ، وأن قراءة من كان من أهل السليقة فعلى البيان والتفخيم ، وأن الإدغام في مثل هذا الحرف وترك البيان إنما يوسع فيه لمن كان ذلك سجيته وطبعه من أهل البوادي . فأما المولدون فإن حكمهم أن يتحرّوا أفصح القراءات وأعذبها وأثبتها ، وإن كانت الأخرى جائزة غير مردودة .
وإنما قيل لعاد بن إرم : عاد الأولى ، لأن بني لُقَيم بن هَزّال بن هُزَيل بن عَبِيل بن ضِدّ بن عاد الأكبر ، كانوا أيام أرسل الله على عاد الأكبر عذابه سكانا بمكة مع إخوانهم من العمالقة ، ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، ولم يكونوا مع قومهم من عاد بأرضهم ، فلم يصبهم من العذاب ما أصاب قومهم ، وهم عاد الاَخرة ، ثم هلكوا بعد .
وكان هلاك عاد الاَخرة ببغي بعضهم على بعض ، فتفانوا بالقتل فيما :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، فيما ذكرنا قيل لعاد الأكبر الذي أهلك الله ذرّيته بالريح : عاد الأولى ، لأنها أُهلكت قبل عاد الاَخرة . وكان ابن زيد يقول : إنما قيل لعاد الأولى لأنها أوّل الأمم هلاكا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال قال ابن زيد ، في قوله : أَهْلَكَ عادا الأُولى قال : يقال : هي من أوّل الأمم .
{ وأنه أهلك عادا الأولى } القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح عليه الصلاة والسلام . وقيل { عادا الأولى } قوم هود وعاد الأخرى إرم . وقرئ " عادا لولي " بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى لام التعريف وقرأ نافع وأبو عمرو " عادا لولي " بضم اللام بحركة الهمزة وبإدغام التنوين ، وقالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو .
لما استُوفي ما يستحقه مقام النداء على باطل أهل الشرك من تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وطعنهم في القرآن ، ومن عبادة الأصنام ، وقولهم في الملائكة ، وفاسد معتقدهم في أمور الآخرة ، وفي المتصرف في الدنيا ، وكان معظم شأنهم في هذه الضلالات شبيهاً بشأن أمم الشرك البائدة نقل الكلام إلى تهديدهم بخوف أن يحل بهم ما حل بتلك الأمم البائدة فذكر من تلك الأمم أشهرها عند العرب وهم : عاد ، وثمود ، وقوم نوح ، وقوم لوط .
فموقع هذه الجملة كموقع الجمل التي قبلها في احتمال كونها زائدة على ما في صحف موسى وإبراهيم ويحتمل كونُها مما شملته الصحف المذكورة فإن إبراهيم كان بعد عاد وثمود وقوم نوح ، وكان معاصراً للمؤتفكة عالماً بهلاكها .
ولكون هلاك هؤلاء معلوماً لم تقرن الجملة بضمير الفصل .
ووصف عاد ب { الأولى } على اعتبار عاد اسماً للقبيلة كما هو ظاهر . ومعنى كونها أولى لأنها أول العرب ذكراً وهم أول العرب البائدة وهم أول أمة أهلكت بعد قوم نوح .
وأما القول بأن عاداً هذه لما هلكت خلفتها أمة أخرى تُعرف بعاد إرم أو عاد الثانية كانت في زمن العماليق فليس بصحيح .
ويجوز أن يكون { الأولى } وصفاً كاشفاً ، أي عاداً السابقة . وقيل { الأولى } صفة عظمة ، أي الأولى في مراتب الأمم قوة وسعة ، وتقدم التعريف بعاد في سورة الأعراف .
وتقدم ذكر ثمود في سورة الأعراف أيضاً .
وتقدم ذكر نوح وقومه في سورة آل عمران وفي سورة الأعراف .
وإنما قدم في الآية ذكر عاد وثمود على ذكر قوم نوح مع أن هؤلاء أسبق لأن عاداً وثموداً أشهر في العرب وأكثر ذكراً بينهم وديارهم في بلاد العرب .
وقرأ الجمهور { عاداً الأولى } بإظهار تنوين { عاداً } وتحقيق همزة { الأولى } . وقرأ ورش عن نافع وأبو عمرو { عاد لُولى } بحذف همزة { الأولى } بعد نقل حركتها إلى اللام المعرِّفة وإدغام نون التنوين من { عاداً } في لاَم { لُولى } . وقرأه قالون عن نافع بإسكان همزة { الأولى } بعد نقل حركتها إلى اللام المعرِفة { عاد لُؤْلى } على لغة من يبدل الواو الناشئة عن إشباع الضمة همزاً ، كما قرىء { فاستوى على سؤقه } [ الفتح : 29 ] .