ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن الملك فى يوم الحساب له وحده فقال : { فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً } .
أى : فاليوم لا يملك أحد من المعوبدين أن ينفع أحدا من العابدين ، أو أن يضره ، بل الذى يملك كل ذلك هو الله - تعالى - وحده .
فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن مرد النفع والضر فى هذا اليوم إلى الله - تعالى - وحده ، فالعابدون لا يملكون شيئا ، والمعبودون كذلك لا يملكون شيئا .
{ وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } أى : ونقول فى هذا اليوم الهائل الشديد للذين ظلموا أنفسهم وظلموا الحق بعبادتهم لغيرنا ، نقول لهم { ذُوقُواْ } فظاعة وشدرة عذاب النار التى كنتم تكذبون بها فى الدنيا ، وتنكرون أن يكون هناك بعث أو حساب أو ثواب أو عقاب .
قال الله تعالى : { فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا } أي : لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه اليوم من الأنداد والأوثان ، التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكُرَبكم ، اليوم لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا ، { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } - وهم المشركون - { ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي : يقال لهم ذلك ، تقريعا وتوبيخا .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النّارِ الّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فاليوم لا يملك بعضكم أيها الملائكة للذين كانوا في الدنيا يعبدونكم نفعا ينفعونكم به ولا ضرّا ينالونكم به ، أو تنالونهم به وَنَقُولُ للّذِينَ ظَلَمُوا يقول : ونقول للذين عبدوا غير الله فوضعوا العبادة في غير موضعها ، وجعلوها لغير من تنبغي أن تكون له : ذُوقُوا عَذَابَ النّارِ التي كُنْتُم بها في الدنيا تُكَذّبونَ فقد وردتموها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فاليوم} في الآخرة {لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا} لا تقدر الملائكة على أن تسوق إلى من عبدها نفعا، ولا تقدر على أن تدفع عنهم سوءا.
{ونقول للذين ظلموا} يأمر الله الخزنة أن تقول للمشركين من أهل مكة: {ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فاليوم لا يملك بعضكم أيها الملائكة للذين كانوا في الدنيا يعبدونكم نفعا ينفعونكم به ولا ضرّا ينالونكم به، أو تنالونهم به.
"وَنَقُولُ للّذِينَ ظَلَمُوا" يقول: ونقول للذين عبدوا غير الله، فوضعوا العبادة في غير موضعها، وجعلوها لغير من تنبغي أن تكون له: "ذُوقُوا عَذَابَ النّارِ التي كُنْتُم بها" في الدنيا "تُكَذّبونَ" فقد وردتموها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا} أي لا يملكون يوم القيامة ما أكلوا، أو طمعوا من عبادتهم لأولئك من التقريب لهم إلى الله زلفى والشفاعة لهم عنده لقولهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وقولهم {ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3].
{ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذّبون} أي كنتم تكذّبون الرسل بما أوعدكم بها في الدنيا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" ونقول للذين ظلموا "نفوسهم بارتكاب المعاصي، ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون" أي تجحدونه، ولا تعترفون به...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإشارة في هذا أنّ مَن علقَ قلبه بالأغيار؛ وظنّ صلاحَ حاله بالاحتيال؛ والاستعانة بالأمثال والأَشكال، ينزعُ اللَّهُ الرحمةَ من قلوبهم؛ ويتركهم، ويشوشُ أحوالهم، فلا لهم من الأَمثال والأشكال معونة، ولا لهم منْ عقولهم في أُمورهم استبصار، ولا إلى الله رجوع، وإنْ رجعوا لا يرحمهم ولا يجيبهم، ويقول لهم: ذوقوا وبالَ ما به استوجبتم هذه العقوبة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الأمر في ذلك اليوم لله وحده، لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرّة لأحد، لأنّ الدار دار ثواب وعقاب، والمثيب والمعاقب هو الله، فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف، والناس فيها مخلى بينهم، يتضارّون ويتنافعون...
المسألة الأولى: الخطاب بقوله: {بعضكم} مع من؟ نقول يحتمل أن يكون الملائكة... ويحتمل أن يكون المخاطب هم الكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم، وعلى هذا فقوله: {ونقول للذين ظلموا} إنما ذكره تأكيدا لبيان حالهم في الظلم، وسبب نكالهم من الإثم، ولو قال: {فذوقوا عذاب النار} لكان كافيا لكنه، لا يحصل ما ذكرنا من الفائدة، فإنهم كلما كانوا يسمعون ما كانوا عليه من الظلم والعناد والإثم والفساد يتحسرون ويندمون.
المسألة الثانية: قوله: {نفعا} مفيد للحسرة، وأما الضر فما الفائدة فيه مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك؟ فنقول لما كانت العبادة تقع لدفع ضر المعبود كما يعبد الجبار ويخدم مخافة شره، بين أنهم ليس فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بطلت تمسكاتهم، وتقطعت تعلقاتهم، تسبب عن ذلك تقريعهم الناشئ عنه تنديمهم بقوله بلسان العظمة: {فاليوم} أي يوم مخاطبتهم بهذا التبكيت وهو يوم الحشر {لا يملك} أي شيئاً من الملك {بعضكم لبعض} أي من المقربين والمبعدين.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
الفاءُ ليستْ لترتيبِ ما بعدها من الحكمِ على جوابِ الملائكةِ، فإنَّه محقَّقٌ أجابُوا بذلك أم لا؛ بل لترتيبِ الإخبار به عليه، ونسبة عدمِ النَّفعِ والضُّرِّ إلى البعضِ المبهمِ للمبالغةِ فيما هو المقصودُ، الذي هو بيانُ عدمِ نفعِ الملائكةِ للعبدةِ، بنظمه في سلكِ عدم نفعِ العَبَدةِ لهم، كأنَّ نفعَ الملائكةِ لعبدتِهم في الاستحالةِ والانتفاء كنفعِ العبدةِ لهم.
التعرضِ لعدم الضُّرِّ مع أنَّه لا بحث عنه أصلاً؛ إمَّا لتعميمِ العجزِ،أو لحملِ عدمِ النَّفعِ على تقديرِ العبادةِ وعدمِ الضُّرِّ على تقديرِ تركِها، أو لأنَّ المرادَ دفعُ الضُّرِّ على حذفِ المضاف، وتقييد هذا الحكمِ بذلك اليومِ مع ثبوتِه على الإطلاقِ لانعقادِ رجائِهم على تحقُّقِ النَّفعِ يومئذٍ.
{وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} عطفٌ على نقول للملائكةِ لا على لا يملكُ كما قيل، فإنَّه ممَّا يقالُ يوم القيامةِ خطاباً للملائكةِ مترتباً على جوابِهم المحكيِّ، وهذا حكاية لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما سيقالُ للعبدةِ يومئذٍ إثر حكايةِ ما سيقالُ للملائكةِ أي يومَ نحشرُهم جميعاً ثم نقولُ للملائكةِ كذا وكذا ويقولون كذا وكذا ونقولُ للمشركينَ {ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} يكون من الأهوالِ والأحوالِ ما لا يحيطُ به نطاقُ المقالِ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبينما المشهد معروض يتغير السياق من الحكاية والوصف إلى الخطاب والمواجهة. ويوجه القول إليهم بالتأنيب والتبكيت: (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً).. لا الملائكة يملكون للناس شيئاً. ولا هؤلاء الذين كفروا يملك بعضهم لبعض شيئاً. والنار التي كذب بها الظالمون، وكانوا يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، ها هم أولاء يرونها واقعاً لا شك فيه، وبهذا تختم الجولة مركزة على قضية البعث والحساب والجزاء كسائر الجولات في هذه السورة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الأظهر أن هذا من خطاب الله تعالى المشركين والجنَّ... للتعريض بضلال الذين عبدوا الملائكة والجن، لأن الملائكة يعلمون مضمون هذا الخبر، فلا نقصد إفادتهم به قدم النفع في حَيز النفي تأييساً لهم لأنهم كانوا يرجون أن يشفعوا لهم يومئذٍ و {يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]...
عطف نفي الضر على نفع النفع للدلالة على سلب مقدرتهم على أي شيء فإن بعض الكائنات يستطيع أن يضر ولا يستطيع أن ينفع كالعقرب...
الذوق: مجاز لمطلق الإِحساس، واختياره دون الحقيقة لشهرة استعماله...