قوله تعالى : { وقالوا أساطير الأولين اكتتبها } يعني النضر بن الحارث كان يقول : إن هذا القرآن ليس من الله وإنما هو مما سطره الأولون مثل حديث رستم واسفنديار ، ( اكتتبها ) : انتسخها محمد من جبر ، ويسار ، وعداس ، ومعنى اكتتب يعني طلب أن يكتب له ، لأنه كان لا يكتب ، { فهي تملى عليه } يعني تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها ، { بكرة وأصيلاً } غدوة وعشياً .
ثم حكى - سبحانه - مقولة أخرى من مقولاتهم الفاسدة فقال : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } .
والأساطير : جمع أسطورة بمعنى أكذوبة واكتتبها : أى : أمر غيره بكتابتها له . أو جمعها من بطون كتب السابقين .
أى : أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بقولهم السابق فى شأن القرآن ، بل أضافوا إلى ذلك قولا آخر أشد شناعة وقبحا ، وهو زعمهم أن هذا القرآن أكاذيب الأولين وخرافاتهم ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم غيره بكتابتها له ، وبجمعها من كتب السابقين { فَهِيَ } أى : هذه الأساطير { تملى عَلَيْهِ } أى : تلقى عليه صلى الله عليه وسلم بعد اكتتابها ليحفظها ويقرأها على أصحابه { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أى : فى الصباح والمساء أى : تملى عليه خفية فى الأوقات التى يكون الناس فيها نائمين أو غافلين عن رؤيتهم .
ثم يمضي في استعراض مقولاتهم عن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وعن القرآن : ( وقالوا : أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) . .
ذلك لما وجدوا فيه من قصص الأولين التي يسوقها للعبرة والعظة ، وللتربية والتوجيه ، فقالوا عن هذا القصص الصادق : ( أساطير الأولين )وزعموا أن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] طلب أن تكتب له ، لتقرأ عليه في الصباح والمساء - إذ كان أميا لا يقرأ ولا يكتب - ثم يقولها هو بدوره ، وينسبها إلى الله ! وهذا استطراد في دعواهم التي لا تقوم على أساس ، ولا تثبت للمناقشة . وإن سياقة القصص في القرآن بهذا التنسيق في عرضه ؛ وبهذا التناسق بينه وبين الموضوع الذي يساق فيه ، ويستشهد بالقصص عليه ؛ وبهذا التناسب بين أهداف القصص وأهداف السياق في السورة الواحدة . . إن هذا كله ليشهد بالقصد والتدبير العميق اللطيف الذي لا يلحظ في الأساطير المبعثرة التي لا تجمعها فكرة ، ولا يوجهها قصد ، إنما تساق للتسلية وتزجية الفراغ !
الضمير عائد إلى الذين كفروا ، فمدلول الصلة مراعى في هذا الضمير إيماء إلى أن هذا القول من آثار كفرهم .
الأساطير : جمع أسطورة بضم الهمزة كالأُحدوثة والأحاديث ، والأُغلوطة والأغاليط ، وهي القصة المسطورة . وقد تقدم معناها مفصلاً عند قوله : { حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين } في سورة الأنعام ( 25 ) . وقائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث العبدري قال : إن القرآن قصص من قصص الماضين . وكان النضر هذا قد تعلم بالحيرة قصص ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار فكان يقول لقريش : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً من محمد فهلُمَّ أحدثكم ؛ وكان يقول في القرآن : هو أساطير الأولين . قال ابن عباس : كل ما ذكر فيه أساطير الأولين في القرآن فالمقصود منه قول النضر بن الحارث . وقد تقدم هذا في سورة الأنعام وفي أول سورة يوسف .
وجملة : { اكتتبها } نعت أو حال ل { أساطير الأولين } .
والاكتتاب : افتعال من الكتابة ، وصيغة الافتعال تدل على التكلف لحصول الفعل ، أي حصوله من فاعل الفعل ، فيفيد قوله : { اكتتبها } أنه تكلف أن يكتبها . ومعنى هذا التكلف أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان أميّاً كان إسناد الكتابة إليه إسناداً مجازياً فيؤول المعنى : أنه سأل من يكتبها له ، أي ينقلها ، فكان إسناد الاكتتاب إليه إسناداً مجازياً لأنه سببه ، والقرينة ما هو مقرر لدى الجميع من أنه أميّ لا يكتب ، ومن قوله : { فهي تملى عليه } لأنه لو كتبها لنفسه لكان يقرأها بنفسه . فالمعنى : استنسخها . وهذا كله حكاية لكلام النضر بلفظه أو بمعناه ، ومراد النضر بهذا الوصف ترويج بهتانه لأنه علم أن هذا الزور مكشوف قد لا يُقبل عند الناس لعلمهم بأن النبي أميّ فكيف يستمد قرآنه من كتب الأولين فهيَّأ لقبول ذلك أنه كتبت له ، فاتخذها عنده فهو يناولها لمن يحسن القراءة فيملي عليه ما يقصه القرآن .
والإملاء : هو الإملال وهو إلقاء الكلام لمن يكتب ألفاظه أو يرويها أو يحفظها . وتفريع الإملاء على الاكتتاب كان بالنظر إلى أن إملاءها عليه ليقرأها أو ليحفظها .
والبُكْرة : أول النهار . والأصيل : آخر المساء ، وتقدم في قوله : { بالغدوّ والآصال } في آخر الأعراف ( 205 ) ، أي تملى عليه طرفي النهار . وهذا مستعمل كناية عن كثرة الممارسة لتلقي الأساطير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذكر أن هذه الآية نزلت في النّضْر بن الحارث، وأنه المعنيّ بقوله:"وَقالُوا أساطيرُ الأوّلِينَ"... عن ابن عباس، قال: كان النّضْر بن الحارث بن كَلَدَة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصيّ من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قَدِم الحِيرة، تعلّم بها أحاديث ملوك فارس وأحاديث رُسْتَم وأسفنديار، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا فذكّر بالله وحدّث قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلَفه في مجلسه إذا قام، ثم يقول: أنا والله يا معشر قُريش أحسن حديثا منه، فهلموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ثم يحدّثهم عن ملوك فارس ورسْتَم وأسفنديار، ثم يقول: ما محمد أحسن حديثا مني قال: فأنزل الله تبارك وتعالى في النضر ثمانيَ آيات من القرآن، قوله: "وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أساطيرُ الأوّلينَ "وكلّ ما ذُكِر فيه الأساطير في القرآن...
فتأويل الكلام: وقال هؤلاء المشركون بالله الذين قالوا لهذا القرآن إن هذا إلاّ إفك افتراه محمد صلى الله عليه وسلم: هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأوّلين، يَعنُون أحاديثهم التي كانوا يُسَطّرونها في كتبهم، اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم من يهود. "فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ "يعنون بقوله: "فَهِي تُمْلَى عَلَيْهِ": فهذه الأساطير تُقرأ عليه... "بُكْرَةً وأصِيلاً" يقول: وتملَى عليه غُدْوة وعشيّا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا" قد ظهر كذبهم بهذا في ما بينهم، لأنهم، ما رأوه اختلف إلى واحد منهم، يعلمه ذلك، وما رأوه كتب شيئا قط، أو يحسن الكتابة قط "وقالوا أساطير الأولين"، فإذا عرف تلك الأنباء والأحاديث التي كانت من قبل، ولا شك أنها لم تكن بلسان أولئك، دل إخباره عما في كتبهم بلسانه أنه عرف ذلك بالله.
"فهي تملى عليه بكرة وأصيلا" قال أهل التأويل: غدوا وعشيا. فلو كان على ذلك لكان الكفرة يحضرونه في البكرة والعشي، فيسمعونه، ويشاهدون ما يملى عليه؛ إذ الوقت وقت الحضور، ولكن عندنا كأنهم أرادوا بالبكرة والعشي أول الليل وآخره الأوقات التي هي ليست بأوقات الحضور والجلوس؛ يقولون: يأتونه سرا، وهي تملى عليه ويتعلمها، فلو كان ذلك أيضا لكانوا يراقبونه، ويحافظونه سرا ليعرفوا ذلك ويشاهدوه، فإذا لم يفعلوا ذلك، دل أنهم كانوا يعرفون صدقه، وأنهم كذبة في زعمهم، لكنهم كابروه، وعاندوه في ذلك.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقوله:"اكتتبها" أي: طلب أن تكتب له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يكتب. وقوله: "فهي تملى عليه "أي: تقرأ عليه، إذ كان لا يكتب حتى تملى عليه ليكتب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{اكتتبها} كتبها لنفسه وأخذها...وقرئ: «اكتُتبها» على البناء للمفعول. والمعنى: اكتتبها كاتب له، لأنه كان أمّياً لا يكتب بيده، وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب، كقوله: {واختار موسى قَوْمَهُ}...فإن قلت: كيف قيل: اكتتبها {فَهِي تملى عَلَيْهِ} وإنما يقال: أمليت عليه فهو يكتتبها؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أراد اكتتابها أو طلبه فهي تملى عليه. أو كتبت له وهو أمّي فهي تملى عليه: أي تلقى عليه من كتابه يتحفظها: لأنّ صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب... {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي دائماً، أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس، وحين يأوون إلى مساكنهم.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{فهي تُمْلَى عَلَيْهِ} أي: تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها، لأنه لم يكن كاتباً...
{اكتتبها} انتسخها محمد من أهل الكتاب يعني عامرا ويسارا وجبرا، ومعنى اكتتب ههنا أمر أن يكتب له كما يقال احتجم وافتصد إذا أمر بذلك {فهي تملى عليه} أي تقرأ عليه والمعنى أنها كتبت له وهو أمي فهي تلقى عليه من كتابه ليحفظها...
قال الحسن قوله: {فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} كلام الله ذكره جوابا عن قولهم كأنه تعالى قال إن هذه الآيات تملى عليه بالوحي حالا بعد حال، فكيف ينسب إلى أنه أساطير الأولين،
وأما جمهور المفسرين فقد اتفقوا على أن ذلك من كلام القوم، وأرادوا به أن أهل الكتاب أملوا عليه في هذه الأوقات هذه الأشياء ولا شك أن هذا القول أقرب لوجوه. أحدها: شدة تعلق هذا الكلام بما قبله، فكأنهم قالوا اكتتب أساطير الأولين فهي تملى عليه.
وثانيها: أن هذا هو المراد بقولهم: {وأعانه عليه قوم آخرون}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا).. ذلك لما وجدوا فيه من قصص الأولين التي يسوقها للعبرة والعظة، وللتربية والتوجيه، فقالوا عن هذا القصص الصادق: (أساطير الأولين) وزعموا أن الرسول [صلى الله عليه وسلم] طلب أن تكتب له، لتقرأ عليه في الصباح والمساء -إذ كان أميا لا يقرأ ولا يكتب- ثم يقولها هو بدوره، وينسبها إلى الله!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{اكتتبها}...سأل من يكتبها له...والقرينة ما هو مقرر لدى الجميع من أنه أميّ لا يكتب... {فهي تملى عليه} لأنه لو كتبها لنفسه لكان يقرأها بنفسه. فالمعنى: استنسخها. وهذا كله حكاية لكلام النضر بلفظه أو بمعناه...وتفريع الإملاء على الاكتتاب كان بالنظر إلى أن إملاءها عليه ليقرأها أو ليحفظها.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهؤلاء الكافرون لفرط استهانتهم افتروا على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور: أولها أنه إفك مفترى، وقد ذكره سبحانه في الآية السابقة.
والثانية أنه أساطير الأولين، وأحاديثهم المفتراة.
والثالثة أنها تملى عليه فيكتبها، أو تملى على النبي صلى الله عليه وسلم إملاء، فيحفظها.
وقبل أن ننتهي من القول في هذه الآية نقول: إن الراغب الأصفهاني في مفرداته قال: إن اكتتب تكون لكتابة ما هو مختلق لا أصل له، فتكون في كلمة اكتتب اتهام رابع بالافتراء والاختلاق...