اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا} (5)

الشبهة الثانية : قوله تعالى : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين . اكتتبها } الآية . يجوز في «اكْتَتَبَهَا » ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون حالاً من «أساطير »{[35344]} ، والعامل فيها معنى التنبيه أو الإشارة المقدرة ، فإن «أَسَاطِير » خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذه أساطير الأولين مكتتبة{[35345]} .

الثاني : أن يكون في موضع خبر ثان ل «هذه » .

الثالث : أن يكون «أساطير » مبتدأ و «اكْتَتَبَها » خبره{[35346]} . و «اكْتَتَبَها » الافتعال هنا يجوز أن يكون بمعنى : أمر بكتابتها كافتصد{[35347]} واحتجم{[35348]} إذا أمر بذلك{[35349]} ويجوز أن يكون بمعنى كتبها ، وهو من جملة افترائهم عليه ، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، ويكون كقولهم : ( استكبه واصطبه ، أي : سكبه وصبه ){[35350]} {[35351]} ، والافتعال مشعر بالتكليف{[35352]} . ويجوز أن يكون من كتب بمعنى جمع من الكتب ، وهو الجمع{[35353]} لا من الكتابة بالقلم . وقرأ طلحة «اكتُتِبهَا » مبنياً للمفعول{[35354]} .

قال الزمخشري : والمعنى : اكتتبها له كاتب ، لأنه كان أمياً لا يكتب بيده ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير ، فصار اكتُتِبها إياه كاتب ، كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ، ثم بنى الفعل للضمير الذي هُوَ إيَّاه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً{[35355]} ، وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار «اكتُتِبَها » كما ترى{[35356]} . قال أبو حيان : ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين ، لأن «اكتَتَبها » له كاتب ، وصل الفعل فيه المفعولين : أحدهما : مسرح{[35357]} ، وهو ضمير الأساطير والآخر مقيّد{[35358]} ، وهو ضميره عليه السلام{[35359]} - ثم اتسع في الفعل ، فحذف حرف الجر ، فصار «اكْتَتَبَها إياه كاتبٌ » ، فإذا بني هذا للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراً ، لا المسرح لفظاً المقيد تقديراً ، فعلى هذا كان يكون التركيب ( اكتَتَبه ) لا ( اكتَتَبها ) ، وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع ، قال الفرزدق :

ومنَّا الَّذِي اختير الرجال سماحةً *** وجوداً إذا هبَّ الرياحُ الزّعازعُ{[35360]}

ولو جاء على ما قدره الزمخشري لجاء التركيب : ومنَّا الذي اختيره الرجال . لأن ( اختير ) تعدى إلى الرجال بإسقاط حرف الجر ؛ إذ تقديره : اختير من الرجال{[35361]} . وهو اعتراض حسن بالنسبة{[35362]} إلى مذهب الجمهور ، ولكن الزمخشري قد لا يلتزمه ، ويوافق الأخفش والكوفيين ، وإذا كان الأخفش وهم يتركون المسرح لفظاً وتقديراً ، ويقيمون المجرور بالحرف مع وجوده ، فهذا{[35363]} أولى{[35364]} .

والظاهر أن الجملة من قوله { اكتتبها فهي تملى } من تتمة قول الكفار{[35365]} .

وعن الحسن أنها من كلام الباري تعالى ، وكان حق الكلام على هذا أن يقرأ «أَكْتَتَبَها » بهمزة مقطوعة مفتوحة للاستفهام{[35366]} كقوله : { أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ }{[35367]} [ سبأ : 8 ] . ويمكن أن يعتذر عنه أنه حذف الهمزة للعلم بها كقوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] . وقول الآخر :

أفْرَحُ أَنْ أُرزأَ الكرام وأن *** أُورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبلاَ{[35368]}

يريد : أو تلك ، أو أأفرح{[35369]} ، فحذف لدلالة الحال ، وحقه أن يقف على «الأولين »{[35370]} قال الزمخشري : كيف قيل : { اكتَتَبها فهي تملى عليه } وإنما يقال : أمليت عليه فهو يكتبها . قلت فيه وجهان :

أحدهما : أراد اكتِتَابها وطلبه ، فهي تملى عليه ، أو كتبت له ، وهو أمر فهي تملى عليه ، أي : تلقى عليه من كتاب يتحفظها ، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب {[35371]} .

وقرأ عيسى وطلحة «تُتْلَى » بتاءين من [ فوق{[35372]} من التلاوة . و «بُكْرَةً وأَصِيلاً » ظرفا زمان للإملاء ، والياء{[35373]} في «تُمْلَى » بدل من ] {[35374]} اللام ، كقوله : «فَلْيُمْلِلِ »{[35375]} وقد تقدم .

فصل

المعنى : أن هذا القرآن ليس من الله ، إنما هو مما سطره الأولون كأحاديث رستم واسفنديار ، جمع أسطار وأسطورة{[35376]} كأحدوثة استنسخها محمد من أهل الكتاب { فَهِيَ تملى عَلَيْهِ } أي : تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها «بُكْرَةً وأَصِيلاً » غدوة{[35377]} وعشيًّا .


[35344]:انظر التبيان 2/980.
[35345]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/129، البيان 2/202، البحر المحيط 6/482.
[35346]:قالهما أبو حيان. البحر المحيط 6/482.
[35347]:الفصد: شق العرق. فصده يفصده فصدا وفصادا. فهو مفصود وفصيد، وفصد الناقة: شق عرقها ليستخرج دمه فيشربه. اللسان (فصد).
[35348]:احتجم: طلب الحجامة، والحجم: المص، يقال حجم الصبي ثدي أمه إذا مصه. اللسان (حجم).
[35349]:انظر البحر المحيط 6/482.
[35350]:قال الزمخشري: ("اكتتبها" كتبها لنفسه وأخذها كما تقول: استكب الماء واصطبه إذا سكبه وصبه لنفسه) الكشاف 3/88.
[35351]:ما بين القوسين في ب: استكه واصطكه أي سكه وصكه.
[35352]:انظر البحر المحيط 6/482.
[35353]:انظر البحر المحيط 6/482.
[35354]:المختصر (103)، المحتسب 2/117، البحر المحيط 6/482.
[35355]:في ب: وزنا. وهو تحريف. وفي الكشاف: بارزا منصوبا.
[35356]:الكشاف 3/88 -89.
[35357]:أي تعدى إليه الفعل بنفسه لا بحرف الجر.
[35358]:أي تعدى إليه الفعل بحرف الجر.
[35359]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[35360]:البيت من بحر الطويل، قاله الفرزدق. سماحة وجودا: مصدران منصوبان على المفعول لأجله، كأنه قيل: اختير من الرجال لسماحته وجوده، ويجوز أن يكونا حالين أو تمييزين. الزعازع: جمع زعزع، وهي الرياح التي تهب بشدة، عني بذلك الشتاء والشاهد فيه أن نائب الفاعل في قوله (اختير) ضمير مستتر يعود على المفهوم من الكلام المتقدم، وهو المفعول الأول الذي تعدى إليه الفعل نفسه، و(الرجال) هو المفعول الثاني، وهو منصوب في البيت على نزع الخافض، والتقدير من الرجال. وفي ب: والزعازع. وهو تحريف.
[35361]:في ب: ما النسبة. وهو تحريف.
[35362]:البحر المحيط 6/482.
[35363]:في ب: وهذا.
[35364]:ذهب الكوفيون ووافقهم بعض المتأخرين إلى أن قيام المفعول به المجرور مقام الفاعل أولى لا أنه واجب، والأخفش أجاز نيابة الظرف والمصدر مع وجود المفعول به، بشرط تقدمهما على المفعول به ووصفهما. وجوز الفراء وابن مالك في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين ثانيهما بحرف الجر عند بنائه للمفعول إقامة الثاني نحو اختير الرجال زيدا. الكافية 1/84 – 85، الهمع 1/162.
[35365]:انظر البحر المحيط 6/482.
[35366]:انظر الكشاف 3/89، البحر المحيط 6/482.
[35367]:[سبأ: 8]. والاستشهاد بالآية أن هذا من كلام الله، يدل على ذلك مجيء الهمزة المفتوحة بالقطع للاستفهام، فلو كان (اكتتبها) من كلام الله لجيء بهمزة الاستفهام قبله.
[35368]:البيت من بحر المنسرح، قاله حضرمي بن عامر الأسدي، وقد تقدم. والشاهد فيه حذف همزة الاستفهام، للعلم بها، والتقدير: أأفرح.
[35369]:في ب: أفرح. وهو تحريف.
[35370]:انظر الكشاف 3/89، البحر المحيط 6/482.
[35371]:الكشاف 3/89.
[35372]:تفسير ابن عطية 10/5-6، البحر المحيط 6/482.
[35373]:أي: باعتبار الأصل، إذ هي في "تملى" ألف ولكن أصلها الياء، فكان الأولى أن يعبر بالألف.
[35374]:ما بين القوسين مكرر في ب.
[35375]:[البقرة: 282]. قال ابن عصفور: (وأبدلت من اللام في (أمليت الكتاب) إنما أصله أمللت، فأبدلت اللام الأخيرة ياء، هروبا من التضعيف، وقد جاء القرآن باللغتين جميعا، قال تعالى: {فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} وقال عز وجل: {وليملل الذي عليه الحق} وإنما جعلنا اللام هي الأصل؛ لأن أمللت أكثر من أمليت) الممتع 1/373. وذكر ابن عادل هناك: ويقال: أمللته وأمليته، فقيل: هما لغتان وقيل: الياء بدل من أحد المثلين، وأصل المادة الإعادة مرة بعد أخرى. انظر اللباب 2/145.
[35376]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/129، البيان 2/202.
[35377]:انظر الفخر الرازي 24/51.