قوله عز وجل { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } . قال مقاتل : ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة . قال السدي : ظنوا أنها حسنات فبدت لهم سيئات ، والمعنى : أنهم كانوا يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام ، فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا . وروي أن محمد بن المنكدر جزع عند الموت ، فقيل له في ذلك : فقال : أخشى أن يبدو لي ما لم أحتسب .
وبعد هذه التسلية من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم بين - سبحانه - لهؤلاء الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم . . بين لهم ما لهم من سوء المصير فقال : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سواء العذاب يَوْمَ القيامة . . } .
أى : أن العذاب المعد لهؤلاء المشركين شئ رهيب ، ولو أن لهم جميع ما أعد فى الأرض من خيرات ، ولهم - أيضا - مثل ذلك منضما إليه ، لقدموه فداء لأنفسهم ، ألما فى النجاة من سوء العذاب الذى ينتظرهم يوم القيامة .
فالآية الكريمة وعيد لهم ليس بعده وعيد ، وتيئيس لهم من النجاة ليس بعده تيئيس .
ومن الآيات الكثيرة التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }
وبعد هذا التلقين يعرض حالهم المفزعة يوم يرجعون للحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون :
( ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون . وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . . )
إنه الهول الملفوف في ثنايا التعبير الرهيب . فلو أن لهؤلاء الظالمين - الظالمين بشركهم وهو الظلم العظيم - لو أن لهؤلاء ( ما في الأرض جميعاً ) . . مما يحرصون عليه وينأون عن الإسلام اعتزازاً به . ( ومثله معه ) . . لقدموه فدية مما يرون من سوء العذاب يوم القيامة . .
وقوله : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } وهم المشركون ، { مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ } أي : ولو أن جميع ملك الأرض وضعفه معه { لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ } أي : الذي أوجبه الله لهم يوم القيامة ، ومع هذا لا يُتقبل منهم الفداء ولو كان ملء الأرض ذهبا ، كما قال في الآية الأخرى : { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } أي : وظهر لهم من الله من العذاب والنكال بهم ما لم يكن في بالهم ولا في حسابهم .
عطف على جملة { قل اللهم فاطر السموات والأرض } [ الزمر : 46 ] الخ لأنها تشير إلى أن الحق في جانب النبي وهو الذي دعا ربه للمحاكمة ، وأن الحكم سيكون على المشركين ، فأعقب ذلك بتهويل ما سيكون به الحكم بأنه لو وجَد المشركون فديةً منه بالغةً ما بلغت لافتدوا بها .
و{ ما في الأرض } يشمل كل عزيز عليهم من أهليهم وأموالهم بل وأنفسهم فهو أهون من سوء العذاب يوم القيامة . والمعنى : لو أن ذلك ملك لهم يوم القيامة لافتدوا به يومئذٍ . ووجه التهويل في ذلك هو ما يستلزمه مِلك هذه الأشياء من الشح بها في متعارف النفوس ، فالكلام تمثيل لحالهم في شدة الدرك والشقاء بحال من لو كان له ما ذكر لبذله فدية من ذلك العذاب ، وتقدم نظير هذا في سورة العقود . وتضمن حرف الشرط أن كون ما في الأرض لهم منتف ، فأفاد أن لا فِداء لهم من سوء العذاب وهو تأييس لهم .
و { مِن } في قوله : { مِن سُوء العذاب } بمعنى لام التعليل ، أي لافتدوا به لأجل العذاب السيّىء الذي شاهدوه . ويجوز أن تكون للبدل ، أي بدلاً عن { سُوءِ العذاب } .
وعطف على هذا التأييس تهويل آخر في عظم ما ينالهم من العذاب وهو ما في الموصول من قوله : { ما لم يكونوا يحتسِبُون } من الإِيهام الذي تذهب فيه نفس السامع إلى كل تصوير من الشدة . ويجوز جعل الواو للحال ، أي لافتدوا به في حال ظهور ما لم يكونوا يحتسبون .
و { مِنَ الله } متعلق ب { بدا } . و { من } ابتدائية ، أي ظهر لهم مما أعد الله لهم الذي لم يكونوا يظنونه .
والاحتساب : مبالغة في الحِساب بمعنى الظن مثل : اقترب بمعنى قرب . والمعنى : ما لم يكونوا يظنونه وذلك كناية عن كونه مُتجاوزاً أقصَى ما يتخيله المتخيل حين يسمع أوصافه ، فلا التفات في هذه الكناية إلى كونهم كانوا مكذبين بالبعث فلم يكُنْ يخطر ببالهم ، ونظير هذا في الوعد بالخبر قوله تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] .