ثم ختم - سبحانه - هذه التشريعات الحكيمة . والتوجيهات السديدة ، بقوله - تعالى - : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } . . وقوله { مُّبَيِّنَاتٍ } قرأها بعض القراء السبعة بفتح الياء المشددة ، وقرأها الباقون بكسرها .
فعلى قراءة الفتح يكون المعنى : وبالله لقد أنزلنا إليكم - أيها المؤمنون - فى هذه السورة وغيرها آيات بَيَّنَّا لكم معانيها ، وجعلناها واضحة الدلالة على ما شرعناها لكم من أحكام وآداب وحدود .
وعلى قراءة الكسر يكون المعنى : وبالله لقد أنزلنا إليكم آيات ، هى مبينات موضحات لكل ما أنتم فى حاجة إلى بيانه ومعرفته من آداب وتشريعات ، فإسناد التبيين هنا إلى الآيات على سبيل المجاز .
وقوله : { وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ } معطوف على " آيات " . والمراد بالمثل : الأخبار العجيبة التى ذكرها - سبحانه - عن السابقين .
أى ، أنزلنا إليكم آيات واضحات فى ذاتها وموضحة لغيرها . وأنزلنا إليكم - أيضا - قصصا عجيبة ، من أخبار السابقين الذين خلوا من قبلكم ، لتهتدوا بها فيما يقع بينكم من أحداث .
فمثلا : لا تتجبوا من كون عائشة - رضى الله عنها - قد اتهمت بما هى منه بريئة ، فقد اتُّهمت من قبلها مريم بالفعل الفاضح الذى برأها الله تعالى منه ، واتهم يوسف - عليه السلام - : بما هو منه برىء ، وألقى فى السجن بضع سنين مع براءته .
فيوسف ومريم وعائشة ، قد برأهم الله - تعالى - مما رموا به ، وكفى بشهادة الله شهادة .
وقوله { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } أى : وجعلنا هذه الآيات التى أنزلنا إليكم موعظة يتعظ بها المتقون ، الذين صانوا أنفسهم عن محارم الله ، وراقبوه - سبحانه - فى السر والعلن ، فانتفعوا بها دون غيرهم من المفسدين والفاسقين .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف الآيات التى أنزلها على عباده المؤمنين بثلاث صفات . وصفها - أولا - بأنها بينة فى ذاتها أو مبينة لغيرها ، ووصفها - ثانيا - بأنها مشتملة على الأمثال العجيبة لأحوال السابقين ، ووصفها - ثالثا - بأنها موعظة للمتقين الذين تستشعر قلوبهم دائما الخوف من الله - تعالى - .
وما ذكره الله - تعالى - قبل هذه الآية من آداب وأحكام يتناسق مع التعقيب كل التناسق ، ويتجاوب معه كل التجاوب .
وكيف لا يكون كذلك ، والقرآن هو كلام الله الذى أعجز كل البلغاء والفصحاء ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
ويعقب على هذا الشوط بصفة القرآن التي تناسب موضوعه وجوه :
( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ، ومثلا من الذين خلوا من قبلكم ، وموعظة للمتقين ) . .
فهو آيات مبينات ، لا تدع مجالا للغموض والتأويل ، والانحراف عن النهج القويم .
وهو عرض لمصائر الغابرين الذين انحرفوا عن نهج الله فكان مصيرهم النكال .
وهو موعظة للمتقين الذين تستشعر قلوبهم رقابة الله فتخشى وتستقيم .
والأحكام التي تضمنها هذا الشوط تتناسق مع هذا التعقيب ، الذي يربط القلوب بالله ، الذي نزل هذا القرآن . .
ولما فصل تعالى{[21163]} هذه الأحكام وبَيَّنها قال : { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ } يعني : القرآن فيه آيات واضحات مفسرات ، { وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : خبرا عن الأمم الماضية ، وما حلَّ بهم في مخالفتهم أوامرَ الله تعالى{[21164]} ، كما قال تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ } [ الزخرف : 56 ]
{ وَمَوْعِظَةً } أي : زاجرًا عن ارتكاب المآثم والمحارم { لِلْمُتَّقِينَ } أي : لمن اتقى الله وخافه .
قال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، في صفة القرآن : فيه حكم ما بينكم ، وخبر ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وهو الفَصْل ليس بالهَزْل ، مَنْ تركه من جَبَّار قَصَمَه الله ، ومن ابتغى الهدى من{[21165]} غيره أضله الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَمَثَلاً مّنَ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس دِلالات وعلامات مبيّنات يقول : مفصّلاتٍ الحقّ من الباطل ، وموضّحات ذلك .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين والبصريين : «مُبَيّناتٍ » بفتح الياء : بمعنى مفصّلات ، وأن الله فصّلَهن وبيّنَهنّ لعباده ، فهنّ مفصّلات مبيّنات . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : مُبَيّناتٍ بكسر الياء ، بمعنى أن الاَيات هن تبين الحقّ والصواب للناس وتهديهم إلى الحقّ .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان ، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، متقاربتا المعنى . وذلك أن الله إذ فصّلها وبيّنها صارت مبيّنة بنفسها الحقّ لمن التمسه من قِبَلها ، وإذا بيّنت ذلك لمن التمسه من قَبِلها فيبين الله ذلك فيها . فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب في قراءته الصواب .
وقوله : وَمَثَلاً مِنَ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ من الأمم ، وموعظة لمن اتقى الله ، فخاف عقابه وخشي عذابه .
ذُيِّلت الأحكام والمواعظ التي سبقت بإثبات نفعها وجدواها لما اشتملت عليه مما ينفع الناس ويقيم عمود جماعتهم ويميز الحق من الباطل ويزيل من الأذهان اشتباه الصواب بالخطأ فيعلم الناس طرق النظر الصائب والتفكير الصحيح ، وذلك تنبيه لما تستحقه من التدبر فيها ولنعمة الله على الأمة بإنزالها ليشكروا الله حق شكره .
ووصف هذه الآيات المنزلة بثلاث صفات كما وصف السورة في طالعتها بثلاث صفات . والمقصد من الأوصاف في الموضعين هو الإمتنان فكان هذا يشبه رد العجز على الصدر ، فجملة : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } مستأنفة استئناف التذييل وكان مقتضى الظاهر أن لا تعطف لأن شأن التذييل والاستئناف الفصل كما فصلت أختها الآتية قريباً بقوله تعالى : { لقد أنزلنا آيات مبينات } [ النور : 46 ] . وإنما عدل عن الفصل إلى العطف لأن هذا ختام التشريعات والأحكام التي نزلت السورة لأسبابها . وقد خللت بمثل هذا التذييل مرتين قبل هذا بقوله تعالى في ابتداء السورة { وأنزلنا فيها آيات بينات } [ النور : 1 ] ثم قوله : { ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم } [ النور : 18 ] ثم قوله هنا : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } فكان كل واحد من هذه التذييلات زائداً على الذي قبله ؛ فالأول زائد بقوله : { يبين الله لكم الآيات } [ النور : 18 ] لأنه أفاد أن بيان الآيات لفائدة الأمة ، وما هنا زاد بقوله : { ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين } . فكانت كل زيادة من هاتين مقتضية العطف لما حصل من المغايرة بينها وبين أختها ، وتعتبر كل واحدة عطفاً على نظيرتها ، فوصفت السورة كلها بثلاث صفات ووصف ما كان من هذه السورة مشتملاً على أحكام القذف والحدود وما يفضي إليها أو إلى مُقاربها من أحوال المعاشرة بين الرجال والنساء بثلاث صفات ، فقوله هنا : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبيَّنات } يطابق قوله في أول السورة { وأنزلنا فيها آيات بينات } [ النور : 1 ] ، وقوله : { ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم } يقابل قوله في أول السورة { وفرضناها } [ النور : 1 ] على ما اخترناه في تفسير ذلك بأن معناه التعيين والتقدير لأن في التمثيل تقديراً وتصويراً للمعاني بنظائرها وفي ذلك كشف للحقائق ، وقوله : { وموعظة للمتقين } يقابل قوله في أولها { لعلكم تذكرون } [ النور : 1 ] .
والآيات جمل القرآن لأنها لكمال بلاغتها وإعجازها المعاندين عن أن يأتوا بمثلها كانت دلائل على أنه كلام منزّل من عند الله .
وابتدىء الكلام بلام القسم وحرف التحقيق للاهتمام به .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب { مبيَّنات } بفتح التحتية على صيغة المفعول . فالمعنى : أن الله بيّنها ووضحها . وقرأ الباقون بكسر التحتية على معنى أنها أبانت المقاصد التي أنزلت لأجلها . ومعنيا القراءتين متلازمان فبذلك لم يكن تفاوت بين مفاد هذه الآية ومفاد قوله في نظيرتها { وأنزلنا فيها آيات بينات }
[ النور : 1 ] في أول السورة لأن البينات هي الواضحة ، أي الواضحةُ الدلالة والإفادة .
والمَثل : النظير والمشابه . ويجوز أن يراد به الحال العجيبة .
و ( مِن ) في قوله : { من الذين خلوا } ابتدائية ، أي مثلاً ينشأ ويتقوم من الذين خلوا . والمراد نشأة المشابهة . وفي الكلام حذف مضاف يدل عليه السياق تقديره : من أمثال الذين خلوا من قبلكم . وحذف المضاف في مثل هذا طريقة فصيحة ، قال النابغة :
وقد خفتُ حتى ما تزيد مخافتي *** على وَعِلٍ في ذي المطارة عاقِل
و { الذين خلوا من قبلكم } هم الأمم الذين سبقوا المسلمين ، وأراد : من أمثال صالحي الذين خلوا من قبلكم .
وهذا المثَل هو قصة الإفك النظيرة لقصة يوسف وقصة مريم في تقول البهتان على الصالحين البرآء .
والموعظة : كلام أو حالة يعرف منها المرء مواقع الزلل فينتهي عن اقتراف أمثالها . وقد تقدم عند قوله تعالى { فأعرض عنهم وعظهم } في سورة النساء ( 63 ) وقوله : { موعظة وتفصيلاً لكل شيء } في سورة الأعراف ( 145 ) .
ومواعظ هذه الآيات من أول السورة كثيرة كقوله : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [ النور : 2 ] وقوله : { لولا إذ سمعتموه } [ النور : 12 ] الآيات ، وقوله : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً } [ النور : 17 ] .