ويتجه القرآن إلى الحديث عما دار بين السحرة وبين فرعون بعد أن جمعوا من مدائن الصعيد بمصر حيث كان مقرهم هناك فيقول : { وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } .
أى : وأقبل السحرة سريعا على فرعون بعد أن أرسل إليهم فقالوا له بلغة المحترف الذي مقصده الأول مما يعمله الأجر والعطاء : إن لنا لأجراً عظيما إن كانت لنا الغلبة على هذا الساحر العليم ؟ فهم يستوثقون أولا من جزالة الأجر وضخامته .
ويطوي السياق القرآني إجراء فرعون وملئه في جمع السحرة من المدائن ؛ ويسدل الستار على المشهد الأول ، ليرفعه على المشهد التالي . . وذلك من بدائع العرض القرآني للقصص ، كأنه واقع منظور ، لا حكاية تروى !
( وجاء السحرة فرعون ، قالوا : إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين ؟ قال : نعم ، وإنكم لمن المقربين ) .
إنهم محترفون . . . يحترفون السحر كما يحترفون الكهانة ! والأجر هو هدف الاحتراف في هذا وذاك ! وخدمة السلطان الباطل والطاغوت الغالب هي وظيفة المحترفين من رجال الدين ! وكلما انحرفت الأوضاع عن إخلاص العبودية لله ، وإفراده - سبحانه - بالحاكمية ؛ وقام سلطان الطاغوت مقام شريعة الله ، احتاج الطاغوت إلى هؤلاء المحترفين ، وكافأهم على الاحتراف ، وتبادل وإياهم الصفقة : هم يقرون سلطانه باسم الدين ! وهو يعطيهم المال ويجعلهم من المقربين !
وقال تعالى هاهنا : { وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }
يخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين{[12007]} استدعاهم لمعارضة موسى ، عليه السلام : إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلا . فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا ، ويجعلنهم{[12008]} من جلسائه والمقربين عنده ،
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأْتُوكَ بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَآءَ السّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْوَاْ إِنّ لَنَا لأجْراً إِن كُنّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } . .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن مَشْوَرَةِ الملإ من قوم فرعون على فرعون ، أن يرسل في المدائن حاشرين ، يحشرون كلّ ساحر عليم . وفي الكلام محذوف اكتفي بدلالة الظاهر من إظهاره ، وهو : فأرسل في المدائن حاشرين يحشرون السحرة ، فجاء السحرة فرعون قالُوا إنّ لَنَا لأجْرا يقول : إن لنا لثوابا على غلبتنا موسى عندك ، إنْ كُنّا يا فرعون نَحْنُ الغَالِبينَ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب ، قال : ثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : فأرسل في المدائن حاشرين ، فحشر له كلّ ساحر متعالم فلما أتوا فرعون ، قالوا : بم يعمل هذا الساحر ؟ قالوا : يعمل بالحيات ، قالوا : والله ما في الأرض قوم يعملون بالسحر والحيات والحبال والعصيّ أعلم منّا ، فما أجرنا إن غلبنا ؟ فقال لهم : أنتم قرابتي وحامّتي ، وأنا صانع إليكم كلّ شيء أحببتم .
حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال فرعون : لا نغالبه يعني موسى إلا بمن هو منه . فأعدّ علماء من بني إسرائيل ، فبعث بهم إلى قرية بمصر يقال لها الفرما ، يعلّمونهم السحر ، كما يعلّم الصبيان الكتاب في الكتاب . قال : فعلموهم سحرا كثيرا . قال : وواعد موسى فرعون موعدا فلما كان في ذلك الموعد بعث فرعون ، فجاء بهم وجاء بمعلمهم معهم ، فقال له : ماذا صنعت ؟ قال : قد علمتهم من السحر سحرا لا يطيقه سحر أهل الأرض ، إلا أن يكون أمرا من السماء ، فإنه لا طاقة لهم به ، فأما سحر أهل الأرض فإنه لن يغلبهم فلما جاءت السحرة قالوا لفرعون : إنّ لَنَا لأجْرا إنْ كُنّا نَحْنُ الغالِبِينَ قال : نعم وَإنّكُمْ إذَنْ لَمِنَ المُقَرّبِينَ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَأرْسِلَ فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ فحشروا عليه السحرة ، فلما جاء السحرة فرعون قالُوا إنّ لَنَا لأجْرا إنْ كُنّا نَحْنُ الغالِبِينَ يقول : عطية تعطينا إنْ كُنّا نَحْنُ الغالِبينَ قالَ نَعَمْ وَإنّكُمْ لَمِنَ المُقَرّبِينَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : أرْجِهْ وأخاهُ وأرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحِرٍ عَلِيمٌ : أي كاثره بالسحرة لعلك أن تجد في السحرة من يأتي بمثل ما جاء به ، وقد كان موسى وهارون خرجا من عنده حين أراهم من سلطانه ، وبعث فرعون في مملكته ، فلم يترك في سلطانه ساحر إلا أتي به . فذكر لي والله أعلم أنه جمع له خمسة عشر ألف ساحر فلما اجتمعوا إليه أمرهم أمره ، وقال لهم : قد جاءنا ساحر ما رأينا مثله قطّ ، وإنكم إن غلبتموه أكرمتكم وفضلتكم ، وقرّبتكم على أهل مملكتي ، قالوا : وإن لنا ذلك إن غلبناه ؟ قال : نعم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، قال : السحرة كانوا سبعين . قال أبو جعفر : أحسبه أنه قال : ألفا .
قال ثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن ابن المنذر ، قال : كان السحرة ثمانين ألفا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن خيثمة ، عن أبي سودة ، عن كعب ، قال : كان سحرة فرعون اثني عشر ألفا .
عطفت جملة { وجاء السحرة } على جملة : { قالوا أرجه وأخاه وأرْسلْ في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم } [ الأعراف : 111 ، 112 ] وفي الكلام إيجاز حذف . والتقدير : قالوا أرجه وأخاه وأرسل الخ ، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين فحشروا وجاء السحرة من المدائن فحضروا عند فرعون .
فالتعريف في قوله : { السحرة } تعريف العهد . أي السحرة المذكورون ، وكان حضور السحرة عند فرعون في اليوم الذي عينه موسى للقاء السحرة وهو المذكور في سورة طه .