49- تلك القصة التي قصصناها عليك - أيها النبي - عن نوح وقومه ، من أخبار الغيب التي لا يعلمها إلا الله ، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك على هذا الوجه من الدقة والتفصيل من قبل هذا الوحي ، فاصبر على إيذاء قومك كما صبر الأنبياء قبلك ، فإن عاقبتك الفوز مثل عاقبتهم ، والعاقبة الطيبة دائماً للذين يتقون عذاب الله بالإيمان وعمل الصالحات .
ثم اختتم الله - تعالى - قصة نوح - عليه السلام - مع قومه فى هذه السورة ، بقوله : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ }
واسم الإِشارة { تلك } يعود إلى ما قصه الله - تعالى - من قصة نوح مع قومه فى هذه السورة .
والأنباء : جمع نبأ وهو الخبر الهام . والغيب : مصدر غاب ، وهو مالا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل .
أى : تلك القصة التى قصصناها عليك يا محمد بهذا الأسلوب الحكيم ، من أخبار الغيب الماضية ، التى لا يعلم دقائقها وتفاصيلها أحد سوانا .
ونحن { نُوحِيهَآ إِلَيْكَ } ونعرفك بها عن طريق وحبنا الصادق الأمين .
وهذه القصة وأمثالها { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ } أنت يا محمد ، وما كان يعلمها { قومك } أيضا ، بهذه الصورة الصادقة الحكيمة ، الخالية من الأساطير والأكاذيب .
{ مِن قَبْلِ } هذا الوقت الذى أوحيناها إليك فيه .
وما دام الأمر كذلك { فاصبر } صبرا جميلا على تبليغ رسالتك ، وعلى أذى قومك كما صبر أخوك نوع من قبل .
وجملة { إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ } تعليل للأمر بالصبر .
والعاقبة : الحالة التي تعقب حالة قبلها ، وقد شاعت عند الإِطلاق فى حالة الخير كما فى قوله - تعالى - { والعاقبة للتقوى } وأل فيها للجنس ، واللام فى قوله { لِلْمُتَّقِينَ } للاختصاص .
أى : أن العاقبة الحسنة الطيبة فى الدنيا والآخرة ، للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل مالا يرضى الله - تعالى - وليست لغيرهم ممن استحبوا العمى على الهدى .
والآية الكريمة تعقيب حكيم على قصة نوح - عليه السلام - قصد به الامتنان على النبى - صلى الله عليه وسلم - والموعظة ، والتسلية .
فالامتنان نراه فى قوله - تعالى - { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا } .
والموعظة نراها فى قوله - سبحانه - { فاصبر } .
والتسلية نراها فى قوله - عز وجل - { إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ } .
وبعد ، فهذه قصة نوح - عليه السلام - كما وردت فى هذه السورة الكريمة ، ومن العبر والعظات والهدايات والحقائق التى نأخذها منها ما يأتى :
1 - الدلالة على صدق النبى - عليه السلام - فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - ، فقد أخبرنا عن قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، وعن غيرها من القصص ، التى هى من أنباء الغيب ، والتى لا يعلم حقيقتها وتفاصيلها أحد سوى الله - عز وجل - .
2 - أن نوحا - عليه السلام - قد سلك فى دعوته إلى الله - تعالى - أحسن الأساليب وأحكمها ، فقد دعا قومه إلى عبادة الله - تعالى - وحده فى الليل وفى النهار ، وفى السر وفى العلانية ، وأقام لهم ألوانا من الأدلة على صدقه ، ورغبهم فى الإِيمان بشتى ألوان الترغيب ، وحذرهم من الكفر بشتى أنواع التحذي ، وصبر على آذاهم صبرا جميلا ، ورد على سفاهاتهم وأقوالهم بمنطق سليم ، أبطل بن حججهم . . مما جعلهم يكفون عن مناقشته ، ويلجأون إلى التحدى والتعنت .
وما أحود الدعاة إلى الله - عز وجل - إلى التماس العبرة والعظة من قصة نوح مع قومه .
3 - أن النسب مهما شرف وعظم لن ينفع صاحبه عند الله ، إلا إذا كان معه الإِيمان والعمل الصالح ، وأن الإِيمان والصلاح ليسا مرتبطين بالوراثة والأنساب لأنه لو كان الأمر كذلك لكانت ذرية نوح ومن معه من المؤمنين الذين نجوا معه فى السفينة . كلها من المؤمنين الصالحين ، مع أن المشاهد غير ذلك .
ورحم الله الإِمام القرطبى فقد قال - ما ملخصه - عند تفسيره لقوله - تعالى - { قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ . . } " وفى هذه الآية تسلية للآباء فى فساد أبنائهم وإن كان الآباء الصالحين " فقد روى أن ابنا لمالك بن أنس ارتكب أمرا لا يليق بمسلم ، فعلم بذلك مالك فقال : " الأدب أدب الله ، لا أدب الأباء والأمهات ، والخير خير الله ، لا خير الآباء والأمهات . . "
4 - أن سؤال نوح - عليه السلام - ما سأله لابنه لم يكن - كما قال صاحب المنار معصية لله - تعالى - خالف فيها أمره أو نهيه ، وإنما كان خطأ فى اجتهاده رأى بنية صالحة .
وإنما عدها الله - تعالى - ذنبا له لأنها كانت دون مقام العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه ، هبطت بضعفه البشرى ، وما غرس فى الفطرة من الرحمة والرأفة بالأولاد إلى اتباع الظن ، ومثل هذا الاجتهاد لم يعصم منه الأنبياء ، فيقعون فيه أحيانا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم وتكميله إياهم آنا بعد آن ، بما يصعدون به فى معارج العرفان .
5 - إن القرآن فى إيراده للقصص والأخبار ، لا يهتم إلا بإبراز النافع المفيد منها ، أما ما عدا ذلك مما لا فائدة من ذكره ، فيهمل القرآن الحديث عنه .
فمثلا فى قصة نوح - عليه السلام - هنا ، لم يتعرض القرآن لبيان المدة التى قضاها نوح فى صنع السفينة ، ولا لبيان طول السفينة وعرضها وارتفاعها ، ولا لتفاصيل الأنواع التى حملها معه فى السفينة ، ولا لبيان الفترة التى عاشها نوح ومن معه فيها .
ولا لبيان المكان الذى هبط فيه نوح بعد أن استوت السفينة على الجودى .
. ولا لبيان الزمان الذى استغرقه الطوفان فوق الأرض .
وما ورد فى ذلك من أقوال وأخبار ، أكثرها من الإِسرائيليات التى لا يؤيدها دليل من الشرع أو العقل .
ومن المسائل التى تكلم عنها كثير من العلماء ، وذهبوا بشأنها مذاهب شتى مسألة الطوفان .
وقد أصدر الأستاذ الإِمام الشيخ محمد عبده - رحمه الله - فتوى فى هذا الشأن ، ملخصها كما يقول صاحب المنار : أن ظواهر القرآن الكريم والأحاديث أن الطوفان كن عاما شاملا لقوم نوح الذين لم يكن فى الأرض غيرهم فيجب اعتقاده ، ولكنه لا يقتضى أن يكون عاما للأرض ، إذ لا دليل على أنهم كانوا يملأون الأرض .
وهذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن ، ولذلك لم يبينها بنص قطعى ، فنحن نقول بما تقدم إنه ظاهرا النصوص ، ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية ، فإن أثبت العلم خلافه لا يضرنا ، لأنه لا ينقض نصا قطعيا عندنا .
6 - أن سنة الله - تعالى - فى خلقه لا تتخلف ولا تتبدل وهى أن العاقبة للمتقين ، مهما طال الصراع بين الحق والباطل ، وبين الأخيار والأشرار .
فلقد لبث نوح - عليه السلام - فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وقد لقى خلال تلك المدة الطويلة ما لقى من الأذى . . . ولكن كانت النتيجة فى النهاية نجاته ومن معه من المؤمنين ، وإغراق أعدائه بالطوفان العظيم .
ولقد أفاض صاحب الظلال - رحمه الله - وهو يتحدث عن هذا المعنى فقال ما ملخصه : " ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح ، لنرى قيمة الحفنة المسلمة فى ميزان الله - سبحانه - .
إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح - عليه السلام - تذكر بعض الروايات ، أنهم اثنا عشر ، هم كانوا حصيلة دعوة نوح فى ألف سنة إلا خمسين عاما .
إن هذه الحفنة - وهى ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل - ، قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون ، وأن يجرى لها ذلك الطوفان الذى يغمر كل شئ . . . وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هى وارثة الأرض بعد ذلك ، وبذرة العمران فيها .
وهذه هى عبرة الحادث الكونى العظيم .
إنه لا ينبغى لأحد يواجه الجاهلية بالإِسلام ، أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد الله - سبحانه - بالربوبية . كما أنه لا ينبغى له أن يقبس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى ، وهو عبده الذى يستنصر به حين يغلب فيدعوه : { أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر } إن القوى فى حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة . . إن الجاهلية تملك قواها . . ولكن الداعى إلى اله يستند إلى قوة الله . والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية - حينما يشاء وكيفما يشاء - وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب ! ! .
والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم أن يؤدوا واجبهم كاملا ، ثم يتركوا الأمور لله فى طمأنينة وثقة . وعندما يغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين ، وأن يجأروا إليه وحده كما جأر عبده الصالح نوح : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر } ثم عليهم أن ينتظروا فرج الله القريب ، وانتظار الفرج من الله عبادة ، فهم على هذا الانتظار مأجورون . . والعاقبة للمتقين .
( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ، فاصبر إن العاقبة للمتقين ) .
فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة :
حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون . فهذا القصص غيب من الغيب ، ما كان يعلمه النبي ، وما كان معلوما لقومه ، ولا متداولا في محيطه . إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير .
وحقيقة وحدة العقيدة من لدن نوح أبي البشر الثاني . فهي هي . والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير .
وحقيقة تكرار الاعتراضات والاتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا تمنع جيلا أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل .
وحقيقة تحقق البشرى والوعيد ، كما يبشر النبي وينذر ، وهذا شاهد من التاريخ .
وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد : ( والعاقبة للمتقين ) . . فهم الناجون وهم المستخلفون .
وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد وبين جيل وجيل . . إنها العقيدة الواحدة التي تربط المؤمنين كلهم في إله واحد ورب واحد يلتقون في الدينونة له بلا منازع ولا شريك .
تعقيب على قصة نوح : دروس وعبر ودلالات منها
وبعد . . أكان الطوفان عاما في الأرض ؟ أم إنه كان في تخوم الأرض التي بعث فيها نوح ؟ وأين كانت هذه الأرض ؟ وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث ؟ أسئلة لا جواب عليها إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ؛ وإلا الإسرائيليات التي لا تستند إلى دليل صحيح . . وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني في كثير ولا قليل .
ولكن هذا لا يمنع من القول بأن ظاهر النصوص القرآنية يلهم أن قوم نوح كانوا هم مجموع البشرية في ذلك الزمان . وأن الأرض التي يسكنونها كانت هي الأرض المعمورة في ذلك الحين . وأن الطوفان قد عم هذه الرقعة ، وقضى على جميع الخلائق التي تقطنها - فيما عدا ركب السفينة الناجين .
وهذا حسبنا في إدراك طبيعة ذلك الحادث الكوني الذي جاءنا خبره من المصدر الوحيد الوثيق عن ذلك العهد السحيق ، الذي لا يعرف " التاريخ " عنه شيئا . وإلا فيومها أين كان " التاريخ " ؟ ! إن التاريخ مولود حدث لم يسجل من أحداث البشرية إلا القليل ! وكل ما سجله قابل للخطأ والصواب ، والصدق والكذب ، والتجريح والتعديل ! وما ينبغي قط أن يستفتي ذات يوم في شأن جاءنا به الخبر الصادق . ومجرد استفتائه في مثل هذا الشأن قلب للأوضاع ، وانتكاسة لا تصيب عقلا قد استقرت فيه حقيقة هذا الدين !
ولقد حفلت أساطير شتى الشعوب وذكرياتها الغامضة بذكر طوفان أصاب أرضها في تاريخ قديم مجهول ، بسبب معصية ذلك الجيل الذي شهد ذلك الحادث الكبير . . وأساطير بني إسرائيل المدونة فيما يسمونه " العهد القديم " تحوي كذلك ذكرى طوفان نوح . . ولكن هذا كله شيء لا ينبغي أن يذكر في معرض الحديث القرآني عن الطوفان ؛ ولا ينبغي أن يخلط الخبر الصادق الوثيق . بمثل هذه الروايات الغامضة وهذه الأساطير المجهولة المصدر والأسانيد . وإن كان لوجود هذه الأخبار الغامضة عن الطوفان عند شعوب شتى دلالته في أن الطوفان قد كان في أرض هذه الأقوام ؛ أو على الأقل قد رحلت ذكرياته مع ذراري الناجين حين تفرقوا في الأرض بعد ذلك وعمروا الأرض من جديد . .
وينبغي أن نذكر أن ما يسمى " بالكتاب المقدس " - سواء في ذلك " العهد القديم " المحتوي على كتب اليهود أو " العهد الجديد " المحتوي على أناجيل النصارى - ليس هو الذي نزل من عند الله . فالتوراة التي أنزلها الله على موسى قد حرقت نسخها الأصلية على يد البابليين عند سبي اليهود . ولم تعد كتابتها إلا بعد قرون عديدة - قبيل ميلاد المسيح بنحو خمسة قرون - وقد كتبها عزرا - وقد يكون هو عزير - وجمع فيها بقايا من التوراة . أما سائرها فهو مجرد تأليف ! وكذلك الأناجيل فهي جميعا لا تحوي إلا ما حفظته ذاكرة تلامذة المسيح وتلامذتهم بعد نحو قرن من وفاة المسيح - عليه السلام - ثم خلطت به حكايات كثيرة وأساطير ! . . ومن ثم لا يجوز أن يطلب عند تلك الكتب جميعها يقين في أمر من الأمور !
ونخلص من هذه القضية العرضية إلى عبرة هذا الحادث الكوني العظيم . . وهي - في الحقيقة - عبر شتى ، لا عبرة واحدة . وسنحاول أن نلم بشيء منها في الصفحات التالية ، قبل أن ننتقل من قصة نوح إلى قصة هود :
إن قوم نوح - عليه السلام - هؤلاء الذين شهدنا مدى جاهليتهم ، ومدى إصرارهم على باطلهم ، ومدى استنكارهم لدعوة الإسلام الخالص التي حملها نوح - عليه السلام - إليهم ، وخلاصتها : التوحيد الخالص الذي يفرد الله - سبحانه - بالدينونة والعبودية ؛ ولا يجعل لأحد معه صفة الربوبية . .
إن قوم نوح هؤلاء . . هم ذرية آدم . . وآدم - كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل - وفي سورة البقرة كذلك - قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها - وهي المهمة التي خلقه الله لها وزوده بالكفايات والاستعدادات اللازمه لها - بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها ، وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها . وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق - هو وزوجه وبنوه - أن( يتبع )ما يأتيه من هدى الله ، ولا يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين .
وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلما لله متبعا هداه . . وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلا بعد جيل ؛ وأن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض ؛ حيث لم تكن معها عقيدة أخرى ! فإذا نحن رأينا قوم نوح - وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا الله - قد صاروا إلى هذه الجاهلية - التي وصفتها القصة في هذه السورة - فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعا . وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم ؛ وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية . تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو الله وعدو الناس ، كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله ، واتباعه وحده ، وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ولا صغيرة . . ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدرا من الاختيار - هو مناط الابتلاء - وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدي الله وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه ، كما يملك أن ينحرف - ولو قيد شعرة - عن هدى الله إلى تعاليم غيره ؛ فيجتاله الشيطان حتى يقذف به - بعد أشواط - إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم - النبي المسلم - بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا الله .
وهذه الحقيقة . . حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الأرض هي الإسلام القائم على توحيد الدينونة والربوبية والقوامة لله وحده . . تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم " علماء الأديان المقارنة " وغيرهم من التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طورا متأخرا من أطوار العقيدة . سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنية للآلهة . ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الأرواح ، وتأليه الشموس والكواكب . . إلى آخر ما تخبط فيه هذه " البحوث " التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة ؛ يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله وإثبات أن الأديان من صنع البشر ؛ وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان !
وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين ؛ فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان - وفق ذلك المنهج الموجه ! - من حيث لا يشعرون ! وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الاعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم . حين يقرر أن آدم - عليه السلام - هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام . وأن نوحا - عليه السلام - واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه . . القائم على التوحيد المطلق . . وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية ؛ وأن الرسل جميعا أرسلوا بعد ذلك بالإسلام . . القائم على التوحيد المطلق . . وأنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الاعتقاد - إنما كان الترقي والتركيب والتوسعفي الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة - وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة . إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال التالية - حتى بعد انحراف الأجيال عنها - ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها ؛ حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني . أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعا ! وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت ، لأنها ليست نابعة من أفكار البشر ومعلوماتهم المترقية ؛ إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه . فهي حق منذ اللحظة الأولى ، وهي كاملة منذ اللحظة الأولى . .
هذا ما يقرره القرآن الكريم ؛ ويقوم عليه التصور الإسلامي . فلا مجال - إذن - لباحث مسلم - وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام ! - أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم ، إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة . تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا !
ومع أننا هنا - في ظلال القرآن - لا نناقش الأخطاء والمزالق في الكتابات التي تكتب عن الإسلام - إذ أن مجال هذه المناقشة بحث آخر مستقل - . . ولكننا نلم بنموذج واحد ، نعرضه في مواجهة المنهج القرآني والتقريرات القرآنية في هذه القضية . .
كتب الأستاذ العقاد في كتابه : " الله " في فصل أصل العقيدة :
. . " ترقى الإنسان في العقائد . كما ترقى في العلوم والصناعات .
" فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى ، وكذلك كانت علومه وصناعاته . فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات ، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى .
" وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات . " لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى .
" وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة ، وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان ، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض ، ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام . ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام . ولعلها لا تزال .
" فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين ، ولا على أنها تبحث عن محال . وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصر واحد ؛ وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرا بعد عصر ، وطورا بعد طور . وأسلوبا بعد أسلوب ، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى ، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان .
" وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول ، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية ، أو بين أمم الحضارة العريقة . ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك ، ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة . فهذه هي وحدهاالنتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها . وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء ، أو يبنون عليه جديدا في الحكم على جوهر الدين . فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء ، إنما يبحث عن محال .
كذلك كتب في فصل : " أطوار العقيدة الإلهية " في الكتاب نفسه :
" يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها بالآلهة والأرباب :
" ففي دور التعدد كانت القبائل الأولى تتخذ لها أربابا تعد بالعشرات ، وقد تتجاوز العشرات إلى المئات . ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة كبيرة رب تعبده ، أو تعويذة تنوب عن الرب في الحضور ، وتقبل الصلوات والقرابين .
" وفي الدور الثاني وهو دور التمييز والترجيح تبقى الأرباب على كثرتها ، ويأخذ رب منها في البروز والرجحان على سائرها . إما لأنه رب القبيلة الكبرى التي تدين لها القبائل الأخرى بالزعامة ، وتعتمد عليها في شؤون الدفاع والمعاش ، وإما لأنه يحقق لعباده جميعا مطلبا أعظم وألزم من سائر المطالب التي تحققها الأرباب المختلفة ، كأن يكون رب المطر والإقليم في حاجة إليه ، أو رب الزوابع والرياح وهي موضع رجاء أو خشية يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الأرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر الطبيعية .
" وفي الدور الثالث تتوحد الأمة ، فتتجمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة . ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها على غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها ، ويحدث أيضا أن ترضى من إله الأمة المغلوبة بالخضوع لإلهها ، مع بقائه وبقاء عبادته كبقاء التابع للمتبوع ، والحاشية للملك المطاع .
" ولا تصل الأمة إلى هذه الوحدانية الناقصة إلا بعد أطوارا من الحضارة تشيع فيها المعرفة ، ويتعذر فيها على العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية ، فتصف الله بما هو أقرب إلى الكمال والقداسة من صفات الآلهة المتعددة في أطوارها السابقة ، وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلاقتها بإرادة الله وحكمته العالية ، وكثيرا ما يتفرد الإله الأكبر في هذه الأمم بالربوبية الحقة ، وتنزل الأرباب الأخرى إلى مرتبة الملائكة أو الأرباب المطرودين من الحظيرة السماوية . . . " الخ .
وواضح سواء من رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصا من آراء علماء الدين المقارن أن البشر هم الذين ينشئون عقائدهم بأنفسهم ؛ ومن ثم تظهر فيها أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية والسياسية . وأن التطور من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد تطور زمني مطرد على الإجمال . .
وهذا واضح من الجملة الأولى في تقديم المؤلف لكتابه : " موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية ، منذ أن اتخذ الإنسان ربا ، إلى أن عرف الله الأحد ، واهتدى إلى نزاهة التوحيد " . . .
والذي لا شك فيه أن الله سبحانه يقرر في كتابه الكريم ، تقريرا واضحا جازما ، شيئا آخر غير ما يقرره صاحب كتاب : " الله " متأثرا فيه بمنهج علماء الأديان المقارنة . . وأن الذي يقرره الله - سبحانه - أن آدموهو أول البشر عرف حقيقة التوحيد كاملة ، وعرف نزاهة التوحيد غير مشوبة بشائبة من التعدد والتثنية ، وعرف الدينونة لله وحده باتباع ما يتلقى منه وحده . وأنه عرف بنيه بهذه العقيدة ، فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ البشرية لا تعرف إلا الإسلام دينا ، وإلا التوحيد عقيدة . . وأنه لما طال الأمد على الأجيال المتتابعة من ذرية آدم انحرفت عن التوحيد . . ربما إلى التثنية وربما إلى التعدد . . ودانت لشتى الأرباب الزائفة . . . حتى جاءها نوح عليه السلام بالتوحيد من جديد . وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم الطوفان جميعا ؛ ولم ينج إلا المسلمون الموحدون الذين يعرفون " نزاهة التوحيد " وينكرون التعدد والتثنية وسائر الأرباب والعبادات الجاهلية ! ولنا أن نجزم أن أجيالا من ذراري هؤلاء الناجين عاشت كذلك بالإسلام القائم على التوحيد المطلق . قبل أن يطول عليهم الأمد ، ويعودوا إلى الانحراف عن التوحيد من جديد . . وأنه هكذا كان شأن كل رسول : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) . .
والذي لاشك فيه أن هذا شيء ، والذي يقرره علماء الأديان المقارنة ويتابعهم فيه مؤلف كتاب : " الله " شيء آخر . وبينهما تقابل تام في منهج النظر وفي النتائج التي ينتهي إليها . . وآراء الباحثين في تاريخ الأديان ليست سوى نظريات يعارض بعضها بعضا ، فهي ليست الكلمة النهاية حتى في مباحث البشر الفانين !
وما من شك أنه حين يقرر الله - سبحانه - أمرا يبينه في كتابه الكريم هذا البيان القاطع ، ويقرر غيره أمرا آخر مغايرا له تمام المغايرة ، فإن قول الله يكون أولى بالاتباع . وبخاصة ممن يدافعون عن الإسلام ؛ ويكتبون ما يكتبون بقصد دفع الشبهات عنه وعن أصل الدين جملة . . وأن هذا الدين لا يخدم بنقض قاعدته الاعتقادية في أن الدين جاء وحيا من عند الله ، ولم يبتدعه البشر من عند أنفسهم ؛ وإنه جاء بالتوحيد منذ أقدم العصور ولم يجيء بغير التوحيد في أية فترة من فترات التاريخ ، ولا في أيه رسالة . كما أنه لا يخدم بترك تقريراته إلى تقريرات علماء الأديان المقارنة وبخاصة حين يعلم أن هؤلاء إنما يعملون وفق منهج موجه لتدمير القاعدة الأساسية لدين الله كله ؛ وهي أنه وحي من الله ، وليس من وحي الفكر البشري المترقي المتطور ! وليس وقفا على ترقي العقل البشري في العلم المادي والخبرة التجريبية !
ولعل هذه اللمحة المختصرة - التي لا نملك الاستطراد فيها في كتاب الظلال - تكشف لنا عن مدى الخطورة في تلقي مفهوماتنا الإسلامية - في أي جانب من جوانبها - عن مصدر غير إسلامي . كما تكشف لنا عن مدى تغلغل مناهج الفكر الغربية ومقرراتها في أذهان الذين يعيشون على هذه المناهج والمقررات ويستقون منها . حتى وهم يتصدون لرد الافتراءات عن الإسلام من أعدائه . . ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) . .
ونقف وقفة أخرى مع قصة نوح . . نقف مع نوح وابنه الذي ليس من أهله !
إنها وقفة على معلم واضح بارز في طبيعة هذه العقيدة وفي خطها الحركي أيضا . . وقفة على مفرق الطريق تكشف معالم الطريق . .
( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون . واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون . . . )
( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك - إلا من سبق عليه القول - ومن آمن ، وما آمن معه إلا قليل . . . )
( وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل - : يا بني اركب معنا ، ولا تكن مع الكافرين . قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ، قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين . . )
( ونادى نوح ربه ، فقال : رب إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين . قال : يا نوح إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم ، إني أعظك أن تكون من الجاهلين . قال : رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ، وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) . .
إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين ، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم .
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب ؛ وليست وشيجة الأرض والوطن ، وليست وشيجة القوم والعشيرة ، وليست وشيجة اللون واللغة ، وليست وشيجة الجنس والعنصر ، وليست وشيجة الحرفة والطبقة . . إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد ؛ كما قال الله سبحانه وتعالى لعبده نوح - عليه السلام - وهو يقول : ( رب إن ابني من أهلي ) . . ( يا نوح إنه ليس من أهلك )ثم بين له لماذا يكون ابنه . . ليس من أهله . . ( إنه عمل غير صالح ) . . إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح : ( فلا تسألن ما ليس لك به علم )فأنت تحسب أنه من أهلك ، ولكن هذا الحسبان خاطئ . أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك ، ولو كان هو ابنك من صلبك !
وهذا هو المعلم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط ، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة . . إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب ؛ وآنا هي الأرض والوطن ، وآنا هي القوم والعشيرة ، وآنا هي اللون واللغة ، وآنا هي الجنس والعنصر ، وآنا هي الحرفة والطبقة ! تجعلها آنا هي المصالح المشتركة ، أو التاريخ المشترك . أو المصير المشترك . . وكلها تصورات جاهلية - على تفرقها أو تجمعها - تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي !
والمنهج الرباني القويم - ممثلا في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول [ ص ] وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه - قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير . . والمعلم الواضح البارز في مفرق الطريق . .
وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فيما يكون بين الوالد والولد ، ضرب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى ، ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها . .
ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم - عليه السلام - وأبيه وقومه كذلك :
( واذكر في الكتاب إبراهيم ، إنه كان صديقا نبيا . إذ قال لأبيه : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ؟ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ، فاتبعني أهدك صراطا سويا . يا أبت لا تعبد الشيطان ، إن الشيطان كان للرحمن عصيا . يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطانوليا . . قال : أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ؟ لئن لم تنته لأرجمنك ! واهجرني مليا . قال : سلام عليك سأستغفر لك ربي ، إنه كان بي حفيا ، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي ، عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا . فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ؛ ووهبنا لهم من رحمتنا ، وجعلنا لهم لسان صدق عليا ) . . . [ مريم : 41 - 50 ] .
وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه الله سبحانه ولقنه ، وهو يعطيه عهده وميثاقه . ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه :
وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ، فأتمهن ، قال : إني جاعلك للناس إماما ، قال : ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين . .
وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات - من آمن منهم بالله واليوم الآخر . قال : ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير . . [ البقرة : 124 - 126 ]
وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه ، وذلك فيما كان بين نوح وامرأته ، ولوط وامرأته . وفي الجانب الآخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون :
ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ، كانتا تحت عبدين من عبادنا الصالحين ، فخانتاهما ، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ، وقيل : ادخلا النار مع الداخلين . . .
( وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون ، إذ قالت : رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ، ونجني من فرعون وعمله ، ونجني من القوم الظالمين ) . . . [ التحريم : 10 - 11 ]
وضرب لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم ، ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم . وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم . وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم . . .
( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ، إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده . . . ) . . [ الممتحنة : 4 ] .
( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ؟ إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ، فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا . ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا . نحن نقص عليك نبأهم بالحق ، إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا : ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذن شططا . هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين ! فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ؟ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون - إلا الله - فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيى ء لكم من أمركم مرفقا . . . ) [ الكهف : 16 - 9 ] .
وبهذه الأمثلة التي ضربها الله للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين . الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان ، وضحت معالم الطريق لهذه الأمة ؛ وقام هذا المعلم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم ، ولا يقوم على سواها . وطالبها ربها بالاستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة ، وفي توجيهات من القرآن كثيرة . . هذه نماذج منها . .
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله - ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم - أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، أولئك حزب الله ، ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . . . [ المجادلة : 22 ]
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ، إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ) . . . [ الممتحنة : 1 ]
لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم ، يوم القيامة يفصل بينكم ، والله بما تعملون بصير . قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه . . . الخ . . [ الممتحنة : 3 - 4 ]
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ) . . . . [ التوبة : 23 ] .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . . . [ المائدة : 51 ] .
وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي ؛ وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا إلى آخر الزمان . ولم يعد هناك مجال للجمع بين " الإسلام " وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها الله للأمة المختارة . والذين يدعون صفة الإسلام ، ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة ، إما أنهم لا يعرفون الإسلام ؛ وإما أنهم يرفضونه . والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها ، بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلا !
وندع هذه القاعدة - وقد صارت واضحة تماما - لننظر في جوانب من حكمة الله في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة . .
إن العقيدة تمثل أعلى خصائص " الإنسان " التي تفرقه من عالم البهيمة ؛ لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها - وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه الصورة - وحتى أشد الملحدين إلحادا وأكثر الماديين مادية ، قد انتبهوا أخيرا إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقا أساسيا عن الحيوان .
ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة - في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية - هي آصرة التجمع . لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم . ولا تكون آصرة التجمع عنصرا يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم ! من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة ، وسياج الحظيرة ! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصرواللون واللغة . . فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة . وليس هناك إلا شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة !
كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم . . هو عنصر الاختيار والإرادة ، فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد ؛ وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختارا ؛ ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخلقي الذي يريد - بكامل حريته - أن يتمذهب به ويعيش . .
ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه . كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها ، ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها . . إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية ! . . إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض ، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي ؛ إنما هي تفرض عليه فرضا سواء أحب أم كره ! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معا - أو حتى في الدنيا وحدها - بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضا لم يكن مختارا ولا مريدا ؛ وبذلك تسلب إنسانيته مقوما من أخص مقوماتها ؛ وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان ؛ بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق !
ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية ، والمحافظة على الكرامة التي وهبها الله له متمشية مع تلك الخصائص ؛ يجعل الإسلام العقيدة - التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد - هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي ؛ والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية . وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية ، التي لا يد له فيها ، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره ، هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته .
ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة - وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى - أن ينشئ مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا ؛ يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي ؛ لا يصدهم عنه صاد ، ولا يقوم في وجوههم حاجز ، ولا تقف دونه حدود مصطنعة ، خارجة عن خصائص الإنسان العليا . وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية ، وتجتمع في صعيد واحد ، لتنشى ء " حضارة إنسانية " تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية ؛ ولا تغلق دون كفاية واحدة ، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض . . .
" ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ؛ ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها ، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة ، والحدود الإقليمية السخيفة ! ولإبراز " خصائص الإنسان " في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها ، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . . كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والألوان واللغات ، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة ! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها ، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ، وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة . وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة ، تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة ، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان .
" لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق : العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصينيوالهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي . . . إلى آخر الأقوام والأجناس . . . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما " عربية " إنما كانت دائما " إسلامية " ولم تكن يوما ما " قومية " إنما كانت دائما " عقيدية " .
" ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة ، وبآصرة الحب . وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم ، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة ، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق . وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ !
" لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا . فقد جمعت بالفعل أجناسا متعددة ، ولغات متعددة ، وألوانا متعددة ، وأمزجة متعددة . ولكن هذا كله لم يقم على " آصرة إنسانية " ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . . لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية ؛ وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى . ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ؛ ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي .
" كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . . تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا . . ولكنه كان كالتجمع الروماني ، الذي هو وريثه ! تجمعا قوميا استغلاليا ، يقوم على أساس سيادة القومية الانجليزية ، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية . . ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها . . الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما ، والإمبراطورية الفرنسية . . كلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت ! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر ، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون . ولكنها لم تقمه على قاعدة " إنسانية " عامة ، إنما أقامته على القاعدة " الطبقية " . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم . . هذا تجمع على قاعدة طبقة " الأشراف " وذلك تجمع على قاعدة طبقة " الصعاليك " [ البروليتريا ] ؛ والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى ! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني . . فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها . باعتبار أن " المطالب الأساسية " للإنسان هي " الطعام والمسكن والجنس " - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام ! !
" لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . . وما يزال متفردا . . والذين يعدلون عنه إلى أى منهج آخر ، يقوم على أية قاعدة أخرى ، من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة . . إلى آخر هذا النتن السخيف السخيف ، هم أعداء " الإنسان " حقا ! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ؛ ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق
ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين ، الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته ؛ وهم الذين يقول الله تعالى فيهم : ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) . . لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين ، وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس . . ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه ؛ وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله ؛ ولاستغلالهم كذلك واستغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم . . لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها ؛ وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد ، أصناما تعبد من دون الله ، اسمها تارة " الوطن " واسمها تارة " القوم " واسمها تارة " الجنس " . وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم " الشعوبية " وتارة باسم " الجنسية الطورانية " وتارة باسم " القومية العربية " وتارة بأسماء شتى ، تحملها جبهات شتى ، تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة ، المنظم بأحكام الشريعة . . . إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية ، وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة ؛ وإلى أن أصبحت تلك " الأصنام " مقدسات يعتبر المنكر لها خارجا على دين قومه ! أو خائنا لمصالح بلده ! ! !
وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ . . كان هو المعسكر اليهودي الخبيث ، الذي جرب سلاح " القومية " في تحطيم التجمع المسيحي ، وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية . . وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي ؛ ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود !
وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي - بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي . . ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله . كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الاستعمار الأوربي الصليبي . وما يزالون . . حتى يأذن الله بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة ؛ ليقوم التجمع الإسلامي من جديد ، على أساسه المتين الفريد . .
وأخيرا فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم . ذلك أن الدينونة لله وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم .
يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد ، وألا تتعدد " المقدسات " ! ويجب أن يكون هناك شعار واحد ، وألا تتعدد " الشعارات " ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات . .
إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية ! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى ؛ كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صورا متعددة ؛ وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون الله أيا كانت أسماؤها . وأيا كانت مراسمها .
وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية ، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان . . وما إليها . . يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها . وهو يدعوهم إلى الله وحده ، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه !
لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري . . أمة المسلمين من أتباع الرسل -كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة - وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون . .
وعندما أراد الله أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون ، عرفها لهم في صورة أتباع الرسل - كل في زمانه - وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة : ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) . . ولم يقل للعرب : إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء ! ولا قال لليهود : إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء ! ولا قال لسلمان الفارسي : إن أمتك هي فارس ! ولا لصهيب الرومي : إن أمتك هي الرومان ! ولا لبلال الحبشي : إن أمتك هي الحبشة ! إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش : إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقا على أيام موسى وهارون ، وإبراهيم ، ولوط ، ونوح ، وداود وسليمان ، وأيوب ، وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون ، وزكريا ويحيى ، ومريم . . كما جاء في سورة الأنبياء : [ آيات : 48 - 91 ] .
هذه هي أمة " المسلمين " في تعريف الله سبحانه . . فمن شاء له طريقا غير طريق الله فليسلكه . ولكن ليقل : إنه ليس من المسلمين ! أما نحن الذين أسلمنا لله ، فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا الله . والله يقص الحق وهو خير الفاصلين . .
وحسبنا هذا القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الأساسية في هذا الدين .
ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان الله سبحانه :
إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح عليه السلام ، تذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر ، هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عاما كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن . .
إن هذه الحفنة - وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل - قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون ؛ وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور وقتها من الأرض ! وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك ، وبذرة العمران فيها والاستخلاف من جديد . .
إن طلائع البعث الإسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها ؛ والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة ؛ كما تعاني الأذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل . . إن هذه الطلائع ينبغي أن تقف طويلا أمام هذا الأمر الخطير ، وأمام دلالته التي تستحق التدبر والتفكير !
إن وجود البذرة المسلمة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى . . شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعا ؛ كما يستحق منه سبحانه أن يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الأرض وتعمرها من جديد !
لقد كان نوح عليه السلام يصنع الفلك بأعين الله ووحيه ، كما قال تعالى : ( واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) . .
وعندما لجأ نوح إلى ربه والقوم يطاردونه ويزجرونه ويفترون عليه كما قال الله تعالى في سورة القمر : ( كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر . فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ) . .
عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه( مغلوب )ويدعو ربه أن " ينتصر " هو وقد غلب رسوله . . عندئذ أطلق الله القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب :
( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ) . .
وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوى الكوني الرائع المرهوب . . كان الله سبحانه - بذاته العلية - مع عبده المغلوب :
( وحملناه على ذات ألواح ودسر . تجري بأعيننا . . جزاء لمن كان كفر . . ) .
هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلائع البعث الإسلامي في كل مكان وفي كل زمان أمامها حين تطاردها الجاهلية ؛ وحين " تغلبها " الجاهلية !
إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة . . وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان . فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى ! ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) . .
وإنه ليس عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها ؛ وإلا أن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه ؛ وإلا أن تصبر حتى يأتي الله بأمره ، وإلا أن تثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء . وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه ، إلا فترة الإعداد والابتلاء ؛ وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سيصنع لها وسيصنع بها في الأرض ما يشاء .
. . وهذه هي عبرة الحادث الكوني العظيم . .
إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد الله سبحانه بالربوبية . كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى وهو عبده الذي يستنصر به حين يغلب فيدعوه : ( أني مغلوب فانتصر ) . .
إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة . . إن الجاهلية تملك قواها . . ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله . والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية - حينما يشاء وكيفما يشاء - وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب !
وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله . . ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ؛ قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله . ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر مسلما . . ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة ، والتدمير على البشرية الضالة جميعا ، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة تعمرها من جديد وتستخلف فيها .
إن عصر الخوارق لم يمض ! فالخوارق تتم في كل لحظة - وفق مشيئة الله الطليقة - ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطا أخرى ، تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها . وقد تدق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها ؛ ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائما ، ويلابسون آثارها المبدعة .
والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملا ، بكل ما في طاقتهم من جهد ؛ ثم يدعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة . وعندما يغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين وأن يجأروا إليه كما جأر عبده الصالح نوح : ( فدعا ربه أني مغلوب ، فانتصر ) . . ثم ينتظروا فرج الله القريب . وانتظار الفرج من الله عبادة ؛ فهم على هذا الانتظار مأجورون .
ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهادا كبيرا . . إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن ؛ ومن ثم يتذوقونه ويدركونه ؛ لأنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطابا مباشرا به ، كما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى ، فتذوقته وأدركته وتحركت به . .
يقول تعالى لنبيه [ ورسوله محمد ]{[14659]} صلى الله عليه وسلم{[14660]} . هذه القصة وأشباههَا{[14661]} { مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ } يعني : من أخبار الغيوب السالفة نوحيها إليك على وجهها [ وجليتها ]{[14662]} ، كأنك شاهدها{[14663]} ، { نُوحِيهَا إِلَيْكَ } أي : نعلمك بها وحيا{[14664]} منا إليك ، { مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا } أي : لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها ، حتى يقول من يكذبك : إنك تعلمتها{[14665]} منه ، بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح ، كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك ، فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك ، وأذاهم لك ، فإنا سننصرك{[14666]} ونحوطك بعنايتنا ، ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة ، كما فعلنا [ بإخوانك ]{[14667]} بالمرسلين{[14668]} حيث نصرناهم على أعدائهم ، { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا [ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ] } [ غافر : 51 ، 52 ] ، {[14669]}وقال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ] } [ الصافات : 171 - 173 ]{[14670]} ، وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هََذَا فَاصْبِرْ إِنّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هذه القصة التي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه منْ أنْباءِ الغَيْبِ يقول : هي من أخبار الغيب التي لم تشهدها فتعلمها ، نُوحيها إلَيْكَ يقول : نوحيها إليك نحن فنعرفكها ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا الوحي الذي نوحيه إليك ، فاصبر على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقىَ من مشركي قومك ، كما صبر نوح . إنّ العاقِبَةَ للْمُتّقِينَ يقول : إن الخير من عواقب الأمور لمن اتقى الله فأدّى فرائضه واجتنب معاصيه فهم الفائزون بما يؤملون من النعيم في الاَخرة والظفر في الدنيا بالطّلِبة ، كما كانت عاقبة نوح إذ صبر لأمر الله أن نجاه من الهلكة مع من آمن به وأعطاه في الاَخرة ما أعطاه من الكرامة ، وغرق المكذّبين به فأهلكهم جميعهم .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : تِلْكَ مِنْ أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيها إلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا القرآن ، وما كان علم محمد صلى الله عليه وسلم وقومه ما صنع نوح وقومه ، لولا ما بين الله في كتابه .
{ تلك } إشارة إلى قصة نوح ومحلها الرفع بالابتداء وخبرها : { من أنباء الغيب } أي بعضها . { نوحيها إليك } خبر ثان والضمير لها أي موحاة إليك ، أو حال من ال { أنباء } أو هو الخبر و{ من أنباء } متعلق به أو حال من الهاء في { نوحيها } . { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك من قبل ايحائنا إليك ، أو حال من الهاء في نوحيها أو الكاف في { إليك } أي : جاهلا أنت وقومك بها ، وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها إذ لم يخالط غيرهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يسمعوها فكيف بواحد منهم . { فاصبر } على مشاق الرسالة وأذية القوم كما صبر نوح . { إن العاقبة } في الدنيا بالظفر وفي الآخرة بالفوز . { للمتقين } عن الشرك والمعاصي .
وقوله تعالى : { تلك من أنباء الغيب } الآية إشارة إلى القصة ، أي هذه من الغيوب التي تقادم عهدها ولم يبق علمها إلا عند الله تعالى ، ولم يكن علمها أو علم أشباهها عندك ولا عند قومك ، ونحن نوحيها إليك لتكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء ، وتكون لقومك مثالاً وتحذيراً ، لئلا يصيبهم إذا كذبوك مثل ما أصاب هؤلاء وغيرهم من الأمور المعذبة .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله : { فاصبر إن العاقبة للمتقين } ، أي فاجتهد في التبليغ وجد في الرسالة واصبر على الشدائد واعلم أن العاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة . وفي مصحف ابن مسعود : «من قبل هذا القرآن » .
استئناف أريد منه الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم والموعظة والتسلية .
فالامتنان من قوله : { ما كنت تعلمها } .
والموعظة من قوله : { فاصبر } إلخ .
والتّسلية من قوله : { إن العاقبة للمتقين } .
والإشارة ب { تلك } إلى ما تقدم من خبر نوح عليه السّلام ، وتأنيث اسم الإشارة بتأويل أن المشار إليه القصة .
والأنباء : جمع نَبأ ، وهو الخبر . وأنباء الغيب الأخبار المغيبة عن الناس أو عن فريق منهم . فهذه الأنباء مغيبة بالنسبة إلى العرب كلهم لعدم علمهم بأكثر من مجملاتها ، وهي أنه قد كان في الزمن الغابر نبيء يقال له : نوح عليه السلام أصاب قومَه طوفان ، وما عدا ذلك فهو غيب كما أشار إليه قوله : { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } ، فإنهم لم ينكروا ذلك ولم يدّعوا علمه . على أن فيها ما هو غيب بالنسبة إلى جميع الأمم مثل قصة ابن نوح الرابع وعصيانه أبَاه وإصابته بالغرق ، ومثل كلام الرّب مع نوح عليه السّلام عند هبوطه من السفينة ، ومثل سخرية قومه به وهو يصنع الفلك ، وما دار بين نوح عليه السّلام وقومه من المحاورة ، فإن ذلك كله مما لم يذكر في كتب أهل الكتاب .
وجمل { من أنبَاء الغيب } و{ نوحيها } و{ ما كنتَ تعلمها } أخبار عن اسم الإشارة ، أو بعضها خبر وبعضها حال . وضمير { أنت } تصريح بالضمير المستتر في قوله : { تَعلمها } لتصحيح العطف عليه .
وعطف { ولا قومك } من الترقي ، لأن في قومه من خالط أهل الكتاب ومن كان يقرأ ويكتب ولا يعلم أحد منهم كثيراً مما أوحي إليه من هذه القصة .
والإشارة بقوله : { مِن قبل هذا } إما إلى القرآن ، وإما إلى الوقت باعتبار ما في هذه القصة من الزيادة على ما ذكر في أمثالها مما تقدم نزوله عليها ، وإما إلى { تلك } بتأويل النبأ ، فيكون التذكير بعد التأنيث شبيهاً بالالتفات .
ووجه تفريع أمر الرسول بالصبر على هذه القصة أن فيها قياس حاله مع قومه على حال نوح عليه السّلام مع قومه ، فكما صبر نوح عليه السّلام فكانت العاقبة له كذلك تكون العاقبة لك على قومك . وخبر نوح عليه السّلام مستفاد مما حكي من مقاومة قومه ومن ثباته على دعوتهم ، لأن ذلك الثبات مع تلك المقاومة من مسمى الصبر .
وجملة { إن العاقبة للمتقين } علة للصبر المأمور به ، أي اصبر لأن داعي الصبر قائم وهو أن العاقبة الحسنة تكون للمتقين ، فستكون لك وللمؤمنين معك .
والعاقبة : الحالة التي تَعقب حالةً أخرى . وقد شاعت عند الإطلاق في حالة الخير كقوله : { والعاقبة للتّقوى } [ طه : 132 ] .
والتعريف في { العاقبة } للجنس .
واللام في { للمتقين } للاختصاص والملك ، فيقتضي ملك المتقين لجنس العاقبة الحسنة ، فهي ثابتة لهم لا تفوتهم وهي منتفية عن أضدادهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {تلك} القصة {من أنباء}، يعني من أحاديث {الغيب} غاب عنك، لم تشهدها يا محمد، ولم تعلمها إلا بوحينا، {نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت} يا محمد {ولا قومك من قبل هذا} القرآن حتى أعلمناك أمرهم في القرآن، يعني الأمم الخالية قوم نوح، وهود، وصالح، وغيرهم، {فاصبر} على تكذيب كفار مكة، وعلى أذاهم {إن العاقبة} يعني الجنة {للمتقين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هذه القصة التي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه "منْ أنْباءِ الغَيْبِ "يقول: هي من أخبار الغيب التي لم تشهدها فتعلمها، "نُوحيها إلَيْكَ" يقول: نوحيها إليك نحن فنعرفكها، "ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا" الوحي الذي نوحيه إليك، فاصبر على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقى من مشركي قومك، كما صبر نوح. "إنّ العاقِبَةَ للْمُتّقِينَ" يقول: إن الخير من عواقب الأمور لمن اتقى الله فأدّى فرائضه واجتنب معاصيه فهم الفائزون بما يؤملون من النعيم في الآخرة والظفر في الدنيا بالطّلبة، كما كانت عاقبة نوح إذ صبر لأمر الله أن نجاه من الهلكة مع من آمن به وأعطاه في الآخرة ما أعطاه من الكرامة، وغرق المكذّبين به فأهلكهم جميعهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله (تلك من أنباء الغيب) القصص كلها قصة نوح وغيره من الأنبياء (من أنباء الغيب) غابت عنك، لم تشهدها، ولا تعلمها (أنت ولا قومك) خص قومه لأن غيره من الأقوام قد كانوا عرفوا تلك الأنباء، فيخبرونهم، فيعرفون به صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم على ما أخبر أولئك الذين عرفوا تلك الأنباء بكسبهم ليعلم أنه إنما عرف ذلك بالله؛ إذ تلك الأنباء كانت بغير لسان، ولم يعرف أنه اختلف لأحد منهم، دل أنه إنما عرف بالله تعالى. وقوله تعالى: (فاصبر) يحتمل قوله: (فاصبر) على تكذيبهم إياك وعلى أذاهم، أو اصبر على ما أمرت ونهيت، أو اصبر على ما صبر إخوانك من قبل كقوله (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) [الأحقاف: 35] ونحوه. وقوله تعالى: (إن العاقبة للمتقين) يشبه أن يكون قوله: (للمتقين) الذين اتقوا الشرك، والذين اتقوا الشرك والمعاصي كلها...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{إِنَّ الْعَاقِبَةَ} آخر الأمر بالسعادة والظفر والمغفرة {لِلْمُتَّقِينَ} كما كان لمؤمني قوم نوح وسائر الأمم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أعلمناكَ بهذه الجملة، وأنبأناك بهذه القصص لما خصصناك من غير أن تتعلمَه من شخص، أو من قراءةِ كتاب؛ فإِنْ قابَلَكَ قومك بالتكذيب فاصبِرْ، فَعَنْ قريبٍ تنقلب هذه الأمور...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{تلك من أنباء الغيب...} إشارة إلى القصة، أي هذه من الغيوب التي تقادم عهدها ولم يبق علمها إلا عند الله تعالى، ولم يكن علمها أو علم أشباهها عندك ولا عند قومك، ونحن نوحيها إليك لتكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء، وتكون لقومك مثالاً وتحذيراً، لئلا يصيبهم إذا كذبوك مثل ما أصاب هؤلاء وغيرهم من الأمور المعذبة... وعلى هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله: {فاصبر إن العاقبة للمتقين}، أي: فاجتهد في التبليغ وجد في الرسالة واصبر على الشدائد واعلم أن العاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة...
قال: {فاصبر إن العاقبة للمتقين}.. وفيه تنبيه على أن الصبر عاقبته النصر والظفر والفرح والسرور كما كان لنوح عليه السلام ولقومه.
فإن قال قائل: إنه تعالى ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم إنه أعادها ههنا مرة أخرى، فما الفائدة في هذا التكرير؟ قلنا: إن القصة الواحدة قد ينتفع بها من وجوه: ففي السورة الأولى كان الكفار يستعجلون نزول العذاب، فذكر تعالى قصة نوح في بيان أن قومه كانوا يكذبونه بسبب أن العذاب ما كان يظهر ثم في العاقبة ظهر فكذا في واقعة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذه السورة ذكر هذه القصة لأجل أن الكفار كانوا يبالغون في الإيحاش، فذكر الله تعالى هذه القصة لبيان أن إقدام الكفار على الإيذاء، والإيحاش كان حاصلا في زمان نوح، إلا أنه عليه السلام لما صبر نال الفتح والظفر، فكن يا محمد كذلك لتنال المقصود، ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خاليا عن الفائدة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تمت هذه القصة على النحو الوافي ببيان اجتهاد نوح عليه السلام في إبلاغ الإنذار من غير مراعاة إقبال ولا إدبار، وكانت مع ذلك دالة على علم تام واطلاع على دقائق لا سبيل إليها إلا من جهة الملك العلام، فهي على إزالة اللبس عن أمره صلى الله عليه وسلم أوضح من الشمس، قال تعالى منبهاً على ذلك: {تلك} أي هذه الأنباء البديعة الشأن الغريبة الأمر البعيدة عن طوق المعارض، العلية الرتب عن يد المتناول {من أنباء الغيب} أي أخباره العظيمة، ثم أشار إلى أنه لا يزال يجدد له أمثالها بالمضارع في قوله: {نوحيها إليك} فكأنه قيل: إن بعض أهل الكتاب يعلم بعض تفاصيلها، فأشار إلى أن ذلك مجموعة غيب وبما يعلمونه غيب نسبي بقوله: {ما كنت تعلمها} أي على هذا التفصيل {أنت} ولما كان خفاءها عن قومه دليلاً على خفائها عنه لأنه لم يخالط غيرهم قال: {ولا قومك} أي وإن كانوا أهل قوة في القيام على ما يحاولونه وعدداً كثيراً، ومنهم من يكتب ويخالط العلماء. ولما كان زمان خفاء ذلك عنهم -وإن كان عاماً لهم- بعض الزمان الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل هذا} أي من إيحائي إليك حتى يطرق الوهم حينئذ أنك تعلمتها من أحد منهم وإن كان يعلم كثيراً منها أهل الكتاب كما رأيت عن نص التوراة فبان أن لا غرض لقومك إلا العناد {فاصبر} على ذلك ولا تفتر عن الإنذار فستكون لك العاقبة كما كانت لنوح لأجل تقواه {إن العاقبة} أي آخر الأمر من الفوز والنصر والسعادة {للمتقين} أي العريقين في مخافة الله في كل زمن، وقد تضمنت القصة البيان عما يوجبه حال أهل الخير والإيمان وأهل الشر والطغيان من الاعتبار بالنبأ عن الفريقين ليجتبي حال هؤلاء ويتقي حال أولئك لسوء العاقبة في الدنيا والآخرة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم يجيء التعقيب: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين). فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة: حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون. فهذا القصص غيب من الغيب، ما كان يعلمه النبي، وما كان معلوما لقومه، ولا متداولا في محيطه. إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير. وحقيقة وحدة العقيدة من لدن نوح أبي البشر الثاني. فهي هي. والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير. وحقيقة تكرار الاعتراضات والاتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا تمنع جيلا أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل. وحقيقة تحقق البشرى والوعيد، كما يبشر النبي وينذر، وهذا شاهد من التاريخ. وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد: (والعاقبة للمتقين).. فهم الناجون وهم المستخلفون. وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد وبين جيل وجيل.. إنها العقيدة الواحدة التي تربط المؤمنين كلهم في إله واحد ورب واحد يلتقون في الدينونة له بلا منازع ولا شريك...
إن الجاهلية تملك قواها.. ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله. والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية -حينما يشاء وكيفما يشاء- وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب! وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله.. ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما؛ قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله. ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر مسلما.. ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة، والتدمير على البشرية الضالة جميعا، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة تعمرها من جديد وتستخلف فيها. إن عصر الخوارق لم يمض! فالخوارق تتم في كل لحظة -وفق مشيئة الله الطليقة- ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطا أخرى، تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها. وقد تدق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها؛ ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائما، ويلابسون آثارها المبدعة. والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملا، بكل ما في طاقتهم من جهد؛ ثم يدعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة. وعندما يغلبون عليهم أن يلجؤوا إلى الناصر المعين وأن يجأروا إليه كما جأر عبده الصالح نوح: (فدعا ربه أني مغلوب، فانتصر).. ثم ينتظروا فرج الله القريب. وانتظار الفرج من الله عبادة؛ فهم على هذا الانتظار مأجورون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف أريد منه الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم والموعظة والتسلية. فالامتنان من قوله: {ما كنت تعلمها}. والموعظة من قوله: {فاصبر} إلخ. والتّسلية من قوله: {إن العاقبة للمتقين}...
ووجه تفريع أمر الرسول بالصبر على هذه القصة أن فيها قياس حاله مع قومه على حال نوح عليه السّلام مع قومه، فكما صبر نوح عليه السّلام فكانت العاقبة له كذلك تكون العاقبة لك على قومك. وخبر نوح عليه السّلام مستفاد مما حكي من مقاومة قومه ومن ثباته على دعوتهم، لأن ذلك الثبات مع تلك المقاومة من مسمى الصبر. وجملة {إن العاقبة للمتقين} علة للصبر المأمور به، أي اصبر لأن داعي الصبر قائم وهو أن العاقبة الحسنة تكون للمتقين، فستكون لك وللمؤمنين معك. والعاقبة: الحالة التي تَعقب حالةً أخرى. وقد شاعت عند الإطلاق في حالة الخير كقوله: {والعاقبة للتّقوى} [طه: 132]...
واللام في {للمتقين} للاختصاص والملك، فيقتضي ملك المتقين لجنس العاقبة الحسنة، فهي ثابتة لهم لا تفوتهم وهي منتفية عن أضدادهم...
كأن الله سبحانه وتعالى علم رسوله صلى الله عليه وسلم قصة نوح عليه السلام وأراد بها إلقاء الأسوة وإلقاء العبرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثق بأن كل رسول إنما يصنع حركته الإيمانية المنهجية بعين من الله، وأنه سبحانه لن يسلمه إلى خصومه ولا أعدائه. ولذلك يأتي القول الكريم: {فاصبر}؛ لأنك قد عرفت الآن نتيجة صبر نوح عليه السلام الذي استمر ألف سنة إلا خمسين، ويأتي بعدها قوله سبحانه: {إن العاقبة للمتقين}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ بيان قصص الأنبياء (عليهم السلام) بالصورة الواقعية والخالية من أي نوع من أنواع التحريف والخرافة ممكن عن طريق الوحي السماوي فحسب، وإلاّ فإِنّ كتب تاريخ الماضين مليئة بالأساطير والقصص الخياليّة التي بلغت درجة لا يمكن معها معرفة الحق من الباطل، وكلما عدنا إلى الوراء أكثر وجدنا الخلط والتزييف أكثر. فعلى هذا، يعتبر بيان حال الأنبياء الماضين والأقوام السالفة بصورة سليمة وخالية من الخرافات والخزعبلات دليلا على حقانية القرآن والإسلام والنّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)...